شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
أنا الشيعية التي خدمت المسيح

أنا الشيعية التي خدمت المسيح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 2 مايو 202501:17 م

وُلدت بين عالمَين: أب مسلم شيعي، وأمّ مسيحية.

في بيتنا، لم يكن التديّن ثقيلاً. والدي لم يكن متديّناً؛ لم يكن يصوم ولا يصلّي، ولكن الدين كان مسيطراً عليه خوفًا من الآخرة. بالرغم من ذلك، لم تحكمنا طقوس صارمة. لكن العالم خارج جدران البيت كان مختلفاً، مشبعاً بالخوف، وأصوات التحريم، والرقابة على ما يجوز وما لا يجوز.

حين حان وقت الدراسة، اختار لي أهلي مدرسة راهبات، مثل كثيرين كانوا يؤمنون بأنّ المدارس المسيحية تقدّم علماً أفضل ومستقبلاً أوسع. هناك، عرفت المسيح لأوّل مرّة: ذاك الإنسان الإستثنائي الذي يفتح ذراعيه للكلّ، ويحب الجميع بلا شرط، ويغفر للخطأة، ويحمل ملامح السلام.

تعلّقت به ببساطة الأطفال. امتلأت روحي بالتراتيل. حفظت معظمها وردّدتها بحبٍ نقيّ ينبع من أعماق الروح. كنت أنشدها في قداديس المدرسة حيث أقف مع الأطفال حول المذبح؛ كان قلبي يغنّي وحده، وهو ما لم يتقبّله والدي. كان يقول لي دائماً: نحن نحترم كل الأديان، لكن دينك الوحيد هو الإسلام.

حين حان وقت الدراسة، اختار لي أهلي مدرسة راهبات، مثل كثيرين كانوا يؤمنون بأنّ المدارس المسيحية تقدّم علماً أفضل ومستقبلاً أوسع. هناك، عرفت المسيح لأوّل مرّة: ذاك الإنسان الإستثنائي الذي يفتح ذراعيه للكلّ، ويحب الجميع بلا شرط، ويغفر للخطأة، ويحمل ملامح السلام


لكن تجربتي مع الراهبات لم تكن خاليةً من الألم.

رأيت القسوة التي لا تليق بصورة المسيح، وسمعتُ صراخاً لا يشبه صوته، وكنت أتساءل وأنا أنظر إلى صورته المعلّقة على جدران الصفّ أمامنا: "هل ترضى بهذا يا يسوع؟".

برغم ذلك بقي يوم الثلاثاء، يوم القدّاس، أجمل أيام الأسبوع.

نتسابق فيه على حمل الشعلة أو المبخرة، وما أزلت أتذكّر طعم القربان المغطّس بالنبيذ؛ طعم الحلو والمرّ الذي يتغلغل في حواسي ويترك فيها إيماناً عميقاً.

خارج أسوار المدرسة، كان الدين الإسلامي حاضراً بطريقةٍ أخرى، يرافق الموت والمآتم.

القرآن كان يصلني مع بكاء النساء، ورائحة الحزن الثقيلة. كبرت وأنا أخشى صوته، وأربطه بالموت بدلاً من الحياة.

حين كان يحلّ رمضان، كانت تتجدد المواجهة. لم أكن أصوم لأنني لم أشعر بالقناعة. وكلّما أفطرت مع الأقارب -'لأنني كنت أستمتع بجوّ رمضان'- كانت تنهال عليّ عبارات من قبيل:

"حرام، الله رح يخنقك اذا ما بتصومي، رح تفوتي عالنار، الله رح يعاقبك!"...

كان الغضب يشتعل في داخلي، وقلبي يتمزّق بالأسئلة:

"هل يترك الله كل أشرار العالم ليعاقب طفلةً لأنها لم تصُم فحسب؟"، و"وهل الصائمون من أقاربي الذين يتحدثون معي بقساوة سيدخلون الجنّة؟"...

خارج أسوار المدرسة، كان الدين الإسلامي حاضراً بطريقةٍ أخرى، يرافق الموت والمآتم. القرآن كان يصلني مع بكاء النساء، ورائحة الحزن الثقيلة. كبرت وأنا أخشى صوته، وأربطه بالموت بدلاً من الحياة.


لم أستطع أن أصدّق أنّ الإله الذي أحببته قد يتحول إلى قاضٍ غاضب. برغم ذلك كنت أردّد دائماً: "الله منيح".

ولكن الأعياد المسيحية تحتلّ قلبي بفرحها.

في عيد الميلاد، نذهب إلى منزل جدّتي المسيحية، حيث رائحة الحلويات والطعام وزينة الشجرة والهدايا الصغيرة. 

لكن، يبقى عيد الفصح الأحبّ إلى قلبي. هناك، في الجمعة الحزينة، كنت أحزن مع المسيح، أبكي لما فعله الشرّ بإنسانٍ نقيّ، وكلما حلّ "سبت النور"، أجلس مشدوهةً أمام التلفاز، أتابع فيض النور من كنيسة القيامة في فلسطين، وأحسد من هم هناك، وأراقب النور ينبثق من القبر.

كنت أبكي من التأثر، برغم ما يهمس به الآخرون والملحدون عن "الخرافة" و"الخداع".

لكنني كنت أؤمن، على طريقتي الخاصة، أنّ هناك نوراً لا يمكن إطفاؤه.

كبرتُ وأنا أسمع قصّتين للمسيح: في الكنيسة، كان يسوع يُصلب حبّاً بالعالم، يُمدَّد على خشبة العار، يغفر للّذين يجلدونه، ويحمل على كتفيه ذنوب الأرض.

أما في الجهة الأخرى، فكنت أسمع الهمس: "المسيح لم يُصلب... أستغفر الله!".

كأنّ الاعتراف بألمه صار ذنباً، كأنّ الدموع التي سكبتها عليه كانت جرماً آخر.

كبرتُ وأنا أسمع قصّتين للمسيح: في الكنيسة، كان يسوع يُصلب حبّاً بالعالم، يُمدَّد على خشبة العار، يغفر للّذين يجلدونه، ويحمل على كتفيه ذنوب الأرض. أما في الجهة الأخرى، فكنت أسمع الهمس: "المسيح لم يُصلب... أستغفر الله!".


كنت أقف بينهما، قلبي معلّق على خشبة الحيرة: كيف لإنسانٍ أن يحبّ حتى الموت؟ وكيف لإنسان أن ينكر وجعه وكأنّه لم يكن؟

كنت أؤمن على طريقتي بأنّ المسيح صُلب، ليس لأنّ أحدهم قال ذلك، بل لأنني شعرتُ بطعنة المسامير في قلبي الصغير.

أصبحت أحمل في قلبي هذا الخليط العجيب: الخوف من جهة، والفرح من جهة أخرى. القسوة أحياناً، والرحمة أحايين أخرى.

غير أنّ حبّي للمسيح كان يكبر بصمت، بعيداً عن أيّ طقوس أو قوالب جاهزة.

وحين وصلت إلى الجامعة -طبعاً بالنسبة لوالدي كان يجب أن تكون الجامعة مسيحيةً- وقفت من جديد أمام مذبح الكنيسة. في عيد الميلاد، رتّلت مع الجوقة. صوتي كان يرتجف بالحب الذي خبأته سنوات طويلة. كنت الطالبة الشيعية الوحيدة التي ترتّل للمسيح، حيث اقترب مني رئيس الجامعة "الأبونا"، وربت على كتفي قائلاً: "برافو ونحن منهنّيكي". 

مرّت السنوات، وأنا أحمل هذا الخليط العجيب في قلبي:

بعض الخوف الذي لم ينطفئ تماماً، وبعض الفرح الذي ظلّ يقاوم.

شهدت قسوةً جديدةً، وعرفت رحمةً أوسع.

لكن تجربتي مع الراهبات لم تكن خاليةً من الألم.

لكن الحياة لم تتوقف عند طفولتي. حين بلغت الثانية والثلاثين، وبعد رحيل والدي، تسلّل خوفٌ عظيم إلى قلبي. أصبحتُ أرى نفسي مكفّنةً قبل أن أموت، أسمع أصوات الوعيد التي زرعوها في رأسي منذ صغري: "الله سيعاقبك في قبرك"، و"ستحاسَبين بشدّة"، و"سوف يضيق عليك القبر حتى تتكسّر عظامك"... الخوف من الدين الإسلامي الذي لم أختَره، بدأ يحاصرني من الجهات كلها. حين ضاقت بي الأرض، لجأت إلى معالجة نفسية؛ حفرنا معاً في أعماق خوفي، وحاولنا أن نقتلع الجذور السامّة. كنت أحدّث "يسوع"، ذاك الذكي الحنون، وكان صوتٌ يهمس لي من داخلي بهدوء: "أنتِ بخير... لن تموتي الآن".

كنت أؤمن بهذا الصوت أكثر من كل التهديدات التي تلقيتها في طفولتي.

وفي عام 2024، حين بدأ القصف على الضاحية، فقدتُ أصدقاء مسيحيين بسبب تطرّفهم، واضطررتُ إلى التهجير مرّةً تلو الأخرى. في المرة الأولى، لجأت إلى منطقة مسيحية، وهناك، عرفتُ وجهاً آخر للمسيحية. كانوا يمرّون بجانبي وكأنني غريبة عنهم. كانت نظراتهم تحمل شكّاً ورفضاً لأنني "تابعة للإسلام". لم أحتمل كلمةً منهم. ثم نزحتُ إلى بيروت، وهناك، للمرّة الأولى منذ زمن، رأيت حبّ المسلمين الحقيقي لي. لم يسألني أحد عن طائفتي، ولم يجرحني أحد، بل عوملت بحبٍّ وإنسانية. لكن الحرب أجبرتني على النزوح مجدداً إلى منطقة مسيحية أخرى في بيروت. كنت خائفةً، كنت أسرع إلى مخاطبة كلّ مَن يمر بي، قائلةً: "أنا من الضاحية... لكن والدتي مسيحية". وكأنني كنت ألوّح بجواز مرور خوفاً من الكره. ومع ذلك، كان البعض يردّ ببساطة: "ما بيهمّ، ولو". هنا بدأت أفهم: الدين لا يصنع الناس، التربية هي التي تفعل.

أجبرتني الحرب على النزوح مجدداً إلى منطقة مسيحية أخرى في بيروت. كنت خائفةً، كنت أسرع إلى مخاطبة كلّ مَن يمر بي، قائلةً: "أنا من الضاحية... لكن والدتي مسيحية". وكأنني كنت ألوّح بجواز مرور خوفاً من الكره.

بعد الحرب، تكشّفت الأقنعة أكثر. رأيت التطرف في الفريقين، وسمعت عنصريةً تُبنى على الأحقاد لا على العقائد. هؤلاء يشتُمون أولئك، وأنا أزداد كرهاً وحقداً على الأديان التي لا تعرف سوى التفرقة. وفي ظلّ هذا الصراع الداخلي، كفرت بهما معاً. كنت أقف من بعيد، أتأمل كل هذا الألم وأسأل نفسي: "هل هذا ما صنعته أيها الذكي؟".

سمعت صوتاً في داخلي يقول: الدين ليس بيدي... بل بيد البشر.

هناك تأكدت أنّ شيئاً صغيراً لم ينطفئ… وبِقيَ حبّي للمسيح "عشقاً ممنوعاً".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image