من الفلامنكو إلى الدبكة… ما الذي يحرّره كل نوع من أنواع الرقص؟ 

من الفلامنكو إلى الدبكة… ما الذي يحرّره كل نوع من أنواع الرقص؟ 

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتنوّع نحن والحرية

الثلاثاء 20 مايو 202503:34 م

"أرقص… غصب عنّي أرقص"؛ جملة أيقونية من أغنية محمد منير، في فيلم "المصير"، الذي أخرجه يوسف شاهين عام 1997، ما زلنا نرددها حتى اليوم كلما شعرنا بحاجة إلى كسر قيدٍ ما. تسلّط الأغنية الضوء على الرقص كأداة للتعبير عن الذات، وأحياناً لرفض الظلم. أما الرقص بحدّ ذاته، ففطرة قديمة لجأ إليها الإنسان ليخفف عن نفسه ثقل المشاعر، وتحوّل مع الوقت إلى مساحة حقيقية للتفريغ، والتشافي، والتواصل العميق.

يشقّ الجسد طريقه نحو التمايل دون جهد، لكن أحياناً تحدد هذا الشكل الجسدي "الممنوعات" الاجتماعية أو الثقافية أو الطائفية. 

لكن الرقص، كأحد أقدم أشكال الفنّ الإنساني، ليس مجرد أداء جسدي، بل لغة نابضة تتجاوز حدود اللغة المنطوقة لتلامس جوهر الإنسان ومكنونه الداخلي. وبهذا المعنى، الرقص فنّ يحوّل الحركة إلى أداة للتعبير عمّا تعجز الكلمات عن وصفه.

من جهة أخرى، الرقص وصفة سحرية لتحسين المزاج، فهو لا يكتفي بأن يكون وسيلةً للتعبير الفني، بل يتحوّل في كثير من الأحيان إلى علاج فعّال للتعامل مع المشاعر السلبية، التوترات اليومية، وحتى الصدمات النفسية العميقة. في الرقص، يتكامل الجسد مع الإيقاع، ويُفتح الباب أمام مشاعر مكبوتة لطالما ظلّت معلّقةً في زوايا النفس أو مخزّنةً في الجسد.

تشير دراسات علمية حديثة، إلى أنّ الرقص يحفّز إفراز الإندورفين، وهو المسكّن الطبيعي الذي ينتجه الدماغ، بجانب السيروتونين، والذي يلعب دوراً أساسياً في تنظيم الحالة المزاجية. وبحسب دراسة نُشرت عام 2021، في "Frontiers in Psychology"، فإنّ المشاركة المنتظمة في الرقص الجماعي يمكن أن تقلل من معدلات الاكتئاب بنسبة تصل إلى 30%، وتُحسّن من احترام الذات، ولا سيّما لدى النساء والمراهقين.

كما تُستخدم جلسات الرقص في برامج الدعم النفسي الموجهة إلى الناجين من العنف، والمصابين باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وحتى في رعاية مرضى الخرف، حيث تساعدهم على استعادة صلتهم بجسدهم، والتفاعل مع محيطهم. ويؤكد معالجون نفسيون، أنّ الحركات الراقصة تُحرّك مشاعر قديمةً دفينةً، وتفتح منافذ جديدةً للوعي الذاتي والتواصل مع الآخرين.

قد لا نحتاج دائماً إلى منصّة عرض أو موسيقى مرتبة سلفاً. أحياناً، تكفي مساحة فارغة، وضوء خافت، وصوت داخلي يقول: "تحرّك كما أنت، لا كما يُتوقّع منك". الرقص، في جوهره، ليس أداءً للآخرين، بل مصالحة مع الذات.

الباليه… مرآة الحزن النبيل

يُصنَّف الباليه كفن كلاسيكي راقٍ، نشأ في إيطاليا خلال عصر النهضة في القرن الخامس عشر، كجزء من عروض البلاط الملكي، قبل أن يتطور ويصل إلى قمته في فرنسا وروسيا لاحقاً. يتميز بأسلوبه الحركي الدقيق، ووضعيات الجسد المتقنة، والانسيابية الرشيقة التي تتطلب تدريباً بدنياً صارماً وتعبيراً عاطفياً عميقاً. ولأنه يعكس مشاعر مكثفةً بأسلوب رفيع، يُطلَق عليه أحياناً لقب "رقصة الحزن النبيل"، إذ يمزج بين التقنية العالية والتعبير الدرامي، وغالباً ما يُستخدم لسرد قصص تحمل مضامين أسطوريةً أو عاطفيةً حزينة.

من أبرز نماذج التعبير العاطفي في هذا الفنّ، عرض "Swan Lake" أو "بحيرة البجع"، أحد أكثر عروض الباليه شهرةً وتأثيراً في التاريخ. يقدّم العرض حكاية "أوديت"، الفتاة التي تحولت إلى بجعة بيضاء بفعل تعويذة شريرة، وتجسّد حركاتها الرشيقة والمرهفة الحزن، البراءة، والخوف من الفقد. في المقابل، تظهر "أوديل"، البجعة السوداء، كمجسِّد لمشاعر الخداع، الإغراء، والسيطرة. يعبّر التناقض بين الشخصيتين عن الصراع الداخلي في النفس البشرية: بين النقاء والخبث، بين الحب والخيانة، وبين الضعف والقوة.

الرقص ليس مجرد حركة فنية، بل لغة جسدية قديمة استخدمها الإنسان للتنفيس عن العواطف المكبوتة، والاحتجاج على الظلم، ومواجهة القيود الاجتماعية والطائفية والثقافية. هو أداة تشافي وتحرر تساعد على إعادة الاتصال بالجسد والنفس

كذلك يشتهر عرض "The Nutcracker" أو "كسارة البندق"، الذي يُعرض تقليدياً في موسم الأعياد، ويأخذنا في رحلة خيالية إلى عالم الطفولة والسحر. يرسم الباليه من خلاله صوراً ساحرةً مليئةً بالألوان والدهشة، مستعيداً براءة الأحلام الأولى.

أما عرض "Giselle"، فيجسد واحدةً من أكثر قصص الباليه مأساويةً وعاطفية. تدور أحداثه حول فتاة ريفية تُدعى جيزيل، تموت من الحزن بعد أن تكتشف خيانة حبيبها، لكن روحها تغفر له في العالم الآخر. يستحضر العرض مشاعر الحب، الغدر، والموت، لكنه أيضاً يتأمل في مفهوم الغفران كقوة فوق إنسانية. وتُظهر الرقصة قدرة الجسد على تمثيل العواطف الكثيفة بلا حاجة إلى الكلام، ما يجعلها أقرب إلى مرآة صامتة للروح.

 الرقص المعاصر… الخروج من القيد الكلاسيكي 

في الرقص المعاصر، يتحرر الجسد من قيود الكلاسيكية، ليصبح أداةً أكثر انسيابيةً وارتباطاً بالواقع المعيش. نشأ هذا النوع من الرقص في بدايات القرن العشرين، كردّ فعل على صرامة الباليه الكلاسيكي، وبدأ يتطور في أوروبا والولايات المتحدة على يد امرأتين حرّتين، إيسادورا دانكن ومارثا غراهام، اللتين تحدّتا المفهوم السائد للجمال والحركة، وفتحتا الباب أمام الجسد ليرقص كما يشعر، لا كما يُملى عليه.

يعتمد الرقص المعاصر على الحركات الطبيعية للجسم، وعلى التناغم مع الإيقاع الداخلي، والتنفس، والتوازن، والسقوط، والنهوض. لا توجد فيه قواعد صارمة أو نمط واحد، بل مساحة مفتوحة لترجمة المشاعر الشخصية أو القضايا الجماعية بصرياً وحسّياً. ولهذا، يتحوّل إلى وسيلة للمقاومة الفردية والجماعية، ويصير مرآةً تعكس التوترات العاطفية والاجتماعية والسياسية، تحديداً لدى النساء. 

من أشهر نماذجه عرض Revelations، للمبدع الأمريكي ألفين آيلي، أحد أوائل السود الذين أسسوا فرقة رقص معاصر في أمريكا. يستعرض العرض، الذي أُطلق عام 1960 وما زال يُعرض حتى اليوم، معاناة الأمريكيين من أصول إفريقية في مواجهة العبودية والتمييز، مستخدماً مزيجاً من الرقص الحديث والموسيقى الروحانية والتراتيل الإنجيلية. كل حركة فيه تجسيد لرحلة الألم، الإيمان، والانعتاق.

ومن النماذج الشهيرة أيضاً، عرض Café Müller، للمخرجة والراقصة الألمانية بيا باور (Pina Bausch)، والذي قُدِّم لأول مرة عام 1978. في هذا العمل، تروي باور، شعور الوحدة والضياع بعد الحرب، مستخدمةً أجساداً تتخبط في فضاء شبه فارغ، بعيون مغمضة، كأنها تسير داخل ذاكرتها الهشّة. لا تُنطق كلمة واحدة طوال العرض، لكن الصمت نفسه يصرخ.

الزومبا… الرقص والرياضة والعلاج 

من بين الرقصات الحديثة التي اكتسبت شهرةً عالميةً، تبرز الزومبا، كحالة فريدة تجمع بين الحركة والبهجة والعلاج. بدأت هذه الرقصة في التسعينيات على يد الراقص الكولومبي "بيتو بيريز"، عندما نسي موسيقى التمارين الرياضية التقليدية في صالة النادي الرياضي، فاستبدلها عفوياً بموسيقى السالسا والميرينغي، لتولد في تلك اللحظة رقصة Zumba التي اجتاحت العالم، وتحولت من تمرين رياضي إلى ظاهرة ثقافية وطريقة حياة.


لا تقدّم الزومبا مجرد حركات رياضية متسلسلة، بل تفجّر الطاقة المحبوسة داخل الجسد، وتُحرّك المشاعر الثقيلة التي يصعب أحياناً التعبير عنها. فهي رقصة لا تفرض معايير جسديةً أو مهارات احترافيةً، بل تدعو الجميع -بمختلف أعمارهم وأجسادهم- إلى الدخول في موجة من الإيقاع والفرح والتحرر.

"إنها وسيلة للهروب المؤقّت من ضغط الحياة"؛ هذا ما تؤكده رنا، في حديثها إلى رصيف22، والتي تمارس الزومبا منذ أكثر من خمس سنوات. شغفها بالرقص تحوّل إلى أسلوب حياة. تشير إلى أنّ "حركات الزومبا السريعة والمليئة بالحيوية تساعد في التخلص من الطاقة السلبية التي تتراكم على مدى الأيام".

من الباليه الذي يجسّد الحزن النبيل، إلى الدبكة التي ترمز للانتماء، والهيب هوب كصرخة ضد التهميش، يعكس كل نوع من الرقص خلفيته الثقافية والسياسية، ويترجم مشاعر جماعية أو شخصية تتجاوز الكلمات.

كلام رنا، يمكن رؤيته بالعين المجردة، حيث لا يمكنك إلا أن تشتعل حماسةً لدى مشاهدة رقصة الزومبا أو ممارستها. إنّ الدمج بين إيقاعات السالسا، الميرينغي، والسامبا، يخلق حالةً من الانتعاش الذهني، تجعل المشاركين يخرجون من الصفّ وهم أخفّ، وأهدأ، وأكثر تصالحاً مع أنفسهم.

البوتو الياباني… الرقص مع الألم

على النقيض من الزومبا، يأتي رقص البوتو (Butoh)، وكأنّه وُلِد من رماد العالم، لا من دفئه. نشأ هذا النوع من الرقص في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، تحديداً بعد قنبلتَي هيروشيما وناغازاكي، كردّ فعل وجودي على الدمار، الصمت، والعار الجمعي، ويُوصف أحياناً بـ"رقصة الظلام"، ليس بسبب طابعه الكئيب فحسب، بل لأنه يُحاكي ما يختبئ في أعماق النفس البشرية من ألم، فوضى، وذكريات لا يمكن لفظها.


يمتاز البوتو، بحركاته البطيئة، الثقيلة، وغير المتوقعة. وجوه مطلية باللون الأبيض، أجساد تهتزّ أو تتقوّس أو ترتجف، كأنها تسير عبر طقس تطهيري يمرّ من خلال المعاناة إلى نوع من السلام المؤقت. لا يحاول الراقص إرضاء العين، بل يواجه المتفرج بحقيقة هشاشة الجسد والروح.

في كتب النقد الفني، لا يُدرَج البوتو، كفنّ استعراضي بقدر ما يُعدّ طقساً داخلياً، يُمارَس من أجل التطهير الذاتي. ولا عجب أن يظهر غالباً في المسارح الصغيرة أو الفضاءات المفتوحة، حيث تتلاشى الحواجز بين الجمهور والمؤدي، وتُستبدل بجسور من الحضور الكثيف والانكشاف الكامل.

مؤسس هذا النمط، تاتسومي هيجيكاتا، لم يصمّم مدرسةً بالمعنى التقليدي، بل أطلق صرخةً فنيةً مفتوحةً، تبعه فيها آخرون أبرزهم كازوو أونو، الذي قدّم في عرض Admiring La Argentina، تحيةً حزينةً إلى فنانة راحلة، وحواراً جسدياً بين الموت والحب، دون أن ينطق بكلمة.

على مرّ العصور، أبدع الإنسان في ابتكار أساليب التعبير عن نفسه، إن على صعيد فردي أو على صعيد جماعي. وبالطبع، استخدم الرقص منذ القدم كوسيلة للتواصل مع الآخرين، ونقل رسائل جماعية أو ثقافية لا يمكن التعبير عنها بالكلام. في كثير من المجتمعات، يحتلّ الرقص مكانةً مركزيةً في المناسبات، الطقوس، والاحتجاجات، لأنه يمتلك تأثيراً بصرياً وعاطفياً كبيراًً. 

الدبكة… الرقص كهوية ومقاومة

أبرز ما فيها هو ضرب القدم بالأرض بقوّة. هذه الحركة ليست عبثيةً، بل تقول "خبطة قدمنا ع الأرض... هدّارة"، و"الأرض لنا". 

في بلاد الشام التي عايشت الكثير من الحروب وفترات الانتداب والاحتلال، تُعدّ الدبكة أكثر من رقصة شعبية، فهي رسالة مقاومة، وتأكيد على الانتماء، واحتفال بقوّة الجماعة. خلال المناسبات الوطنية، يؤدّيها الناس كأنها نشيد حركي يعلن تمسكهم بأرضهم وهويتهم. في فلسطين ولبنان، تصبح الدبكة رمزاً للصمود الشعبي، وتحمل بين خطواتها رسالةً سياسيةً واجتماعيةً عميقةً.

للدبكة أنواع عديدة، وكلها ترمز إلى الوحدة والتجذّر، والانتماء إلى الأرض والهوية: الدبكة في لبنان والأردن وسوريا، والدبكة الفلسطينية التي لا تخلو منها المظاهرات والعروض الفنية في الشتات، إذ ترمز إلى الصمود والتمسك بالجذور. 

يؤكد محمد، اللاجئ الفلسطيني في أحد مخيمات لبنان، أنه حرص على تعليم ابنه الدبكة منذ الصغر. يقول لرصيف22: "يعني معقول ما يعرف رقصة أجداده؟". وعن محاولة العدو سرقة الدبكة كإرث وطني فلسطيني، يضحك ويقول: "مهما فعلوا، الأرض لا تحبّ إلا وقع أقدامنا عليها، ومهما زيّفوا، الدبكة كما فسلطين، لنا".

العلاج النفسي بالحركة (DMP) يساعد في التفاعل مع المشاعر غير المعلنة، ويُنصح باستخدامه مع الناجين من الصدمات النفسية، مرضى الفصام، أو من يعانون من القلق والاكتئاب، حيث يمنحهم وسيلة غير لفظية للتواصل والتشافي

بالنسبة للفلسطينيين، الدبكة سلاح يحرس الثقافة والإرث الوطنيَّين، وسط محاولات كبيرة لطمسهما. في عام 2023، أُدرجت الدبكة الشعبية الفلسطينية، على اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، خلال الدورة الثامنة عشرة للّجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي، التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة "يونيسكو". وبهذا تكون لفلسطين الآن ثلاثة عناصر مدرجة على لائحة التراث الثقافي غير المادي، هي الحكاية والتطريز والدبكة.


وترتبط الدبكة الفلسطينية بأناشيد وأهازيج وطنية تحكي فكرة الحنين إلى فلسطين، وبما حلّ بشعبها من تهجير ونكبة وترحيل قسري، بينما تعود جذورها إلى أصول قديمة تمتد إلى أكثر من ألفي عام. وبحسب المؤرخين الفلسطينيين، فإنّ الدبكة "هي عبارة عن رقصة دينية في الأساس تعود أصولها إلى الكنعانيين الذين كانوا يؤدون الرقص كشكل من أشكال الصلاة والتقرب إلى الآلهة، ومنها إله القمر الفلسطيني الذي سُمّيت بعض المدن باسمه تقديساً له. وكان الكنعانيون عندما يبزغ القمر يصطفّون على شكل هلال، ويقومون بصفقات مرتبة وتدريجية، يقدّمونها كرسالة إلى إلههم ليرضى عنهم وليكون محصول العام وفيراً.

الهيب هوب… رقصة الغضب والصوت العالي

لطالما نُسبت رقصة الهيب هوب، إلى المتمرّدين على الظلم، أولئك الذين لا يملكون سوى أجسادهم ليصرخوا بها. نشأ هذا النمط من الرقص في الأحياء الفقيرة في نيويورك، في سبعينيات القرن الماضي، وتحديداً في حي "البرونكس"، حيث شكّل أبناء المجتمعات المهمّشة من أصول إفريقية ولاتينية حركةً فنيةً واجتماعيةً كاملةً تُعرف بثقافة الهيب هوب، والتي تضمّ الرقص، الموسيقى (الراب)، الغرافيتي، والموضة.

لم يكن الرقص في الهيب هوب، مجرد حركات، بل بيان سياسي صامت، ووسيلة للاحتجاج الجسدي على العنصرية، العنف، والفقر الحضري. يُستخدم اليوم كأداة للتعبير عن قضايا اجتماعية متفجرة، من التمييز إلى الهوية، ومن السجن الجماعي إلى العنف المسلّح.


في الفيديو الشهير لأغنية "This Is America"، للفنان تشارلز غامبينو (Childish Gambino)، تُوظَّف الرقصات المتزامنة بدقّة لخلق مفارقة بصرية قاسية: حركات مبهجة وسط مشاهد فوضى وقتل. تُظهر الرقصة كيف يمكن للجسد أن يخدع، أن يُستخدم كقناع، أو كصرخة صامتة في وجه واقع قاسٍ. وفي كل لقطة، نرى كيف يتحوّل الرقص إلى لغة توثّق الاضطرابات العرقية والاجتماعية في الولايات المتحدة، وتحمل رسالةً سياسيةً لا يمكن إسكاتها.

رقصة الهيب هوب، ليست دائماً على المسرح؛ أحياناً تُؤدَّى على الأرصفة، في الزوايا، وفي الشوارع، هناك حيث الكاميرا لا تصل، لكن الألم حاضر، والرسالة أوضح من أي بيان سياسي.

الفلامنكو… حكاية شعب في رقصة

أما الفلامنكو الإسباني، فهو رقص مشبع بالعاطفة والغضب والانتماء. وُلِد بين الغجر الإسبان، الذين استخدموه كوسيلة للتعبير عن القمع والاضطهاد. تتّسم هذه الرقصة بالكثافة والانفعال، وتُعبّر كل حركة فيها عن مطلب بالحياة الكريمة ورغبة في البقاء.


تذكر بعض المراجع، أنّ أصل الفلامنكو يرجع إلى الدمج بين الموسيقى الشعبية الأندلسية، مع موسيقى الإسبان؛ الجيتانوس أو الروما، الذين استوطنوا في الجنوب الإسباني في القرن الـ15، بسبب الاضطهاد والتهميش على مدى عصور، ولم تبدأ أحوالهم بالتحسن إلا مع بداية القرن الـ19.

أما بالنسبة إلى التسمية، فهناك نظريات عدة في هذا الشأن. يعتقد البعض أنّ كلمة الفلامنكو الإسبانية تعني "الفلاح المتجول"، للدلالة على الفلاحين الموريسكيين الذين أصبحوا بلا أرض، فاندمجوا مع الغجر وأسسوا ما يسمّى بالفلامنكو كمظهر من مظاهر الألم التي يشعر بها الناس بعد إبادة ثقافتهم، والبعض يربط اسم هذه الموسيقى بطائر الفلامنكو الراقص الوردي. آخرون يربطون كلمة "فلامنكو" الإسبانية بـ"أبناء قومية الفلاندرز"، التي تعيش في بلجيكا.

حركات الأقدام، ضربات اليد، ونظرات العيون المشحونة، كلها تجسد مزيجاً من الغضب، الشغف، والتمرد. عروض الراقصة سارا باراس، هي مثال على كيف يمكن أن تكون الرقصة ملحمةً إنسانيةً كاملةً، تتحدى الزمن والمكان.

العلاج بالرقص

العلاج النفسي بحركة الرقص (DMP)، شكل إبداعي من أشكال العلاج الجسدي، يستخدم الحركة والتعبير غير اللفظي لاستكشاف المشاعر ودعم الشفاء النفسي. يرتكز هذا العلاج على فكرة أنّ الجسد والعقل مرتبطان ارتباطاً وثيقاً، وأنّ الحركة تساعد على الوصول إلى المشاعر والتجارب التي يصعب التعبير عنها لفظياً. 

العلاج النفسي بالحركات الراقصة، يفيد الأفراد من جميع الأعمار، والأزواج، والعائلات، والمجموعات التي تواجه تحديات متنوعةً، بما في ذلك الضيق العاطفي أو النفسي، وصعوبات التواصل، ومشكلات صورة الجسم، والصدمات النفسية، والتحولات الحياتية، وهو فعّال للأفراد الذين يعانون من حالات مثل القلق، والاكتئاب، واضطراب ما بعد الصدمة، واضطرابات الأكل، والذهان، والخرف، والإدمان، وصعوبات التعلم، واضطرابات طيف التوحد. 

وهو ممارسة مهنية قائمة على الأدلة، يقودها معالجون مدرّبون، عادةً ما يحملون درجة الماجستير في هذا المجال.


في حديثها إلى رصيف22، توضح يارا أنطون، الحاصلة على ماجستير في العلاج النفسي بالحركة الراقصة، وهي معالجة نفسية متخصصة في علم النفس السريري، أنّ العلاج النفسي بالحركة الراقصة لا يقتصر على تعلّم تصميم الرقصات أو اتّباع روتينات منظمة، بل يركّز على كيفية تفاعل الأفراد مع الحركة، وما تثيره من مشاعر عاطفية وجسدية. 

وتشير أنطون، إلى أنّ "حركة كل شخص تعكس عالمه الداخلي"، مضيفةً أنّ العملية لا تهدف إلى توجيه الشخص نحو كيفية الحركة، بل إلى خلق مساحة آمنة للتواصل مع جسده. وتؤكد أنه على الرغم من إمكانية اقتراح بعض تقنيات "التأريض"، إلا أن النهج شخصي للغاية، فالمهم حقاً هو تعلّم الاستماع إلى الجسد والثقة بإشاراته كدليل للوعي الذاتي والشفاء.

وتستحضر حالتين مؤثرتين توضحان عمق الشفاء الممكن من خلال العلاج النفسي بحركة الرقص (DMP). في الحالة الأولى، وصفت حالة امرأة في الأربعينيات من عمرها عانت من عزلة شديدة بسبب إهمال عاطفي سابق. 

تقول يارا: "في البداية، كانت منعزلةً ومترددةً، وغير متأكدة من كيفية التواصل". لكن خلال جلسة جماعية ركزت على موضوع الدعم، تغيّر كل شيء. عندما استجابت المجموعة لحاجتها غير المعلنة إلى وجود لطيف وغير متطفل، شعرت بأنها تحظى باهتمام حقيقي. 

لا يحتاج الرقص إلى مسرح أو جمهور، بل يكفي أن يُمارس في فضاء حر للتصالح مع الذات. في رحلة داخلية لمواجهة الألم، استعادة الفرح، أو حتى تقبّل المشاعر المتناقضة التي يحملها الجسد.

وتضيف: "كانت هذه هي المرة الأولى التي سمحت فيها لنفسها بتلقّي الدعم دون خوف". مثل هذا الإنجاز يُعدّ بداية التحول؛ فبدَأت بالانفتاح، ليس داخل المجموعة فحسب، بل في حياتها الشخصية أيضاً، وتعلمت طلب المساعدة وبناء علاقات هادفة. بالنسبة ليارا، أظهرت هذه الحالة كيف أصبحت المجموعة نفسها مساحةً للشفاء، حيث مكّنها التواجد بينها من النمو العاطفي الحقيقي.

في حالة أخرى، انضمّ رجل مُشخّص بالفصام إلى مجموعة DMP، في بيئة للمرضى الداخليين النفسيين. عن حالته تقول أنطون: "كان منعزلاً عن الآخرين وعن جسده، وتحركاته ضئيلة". 

خلال جلسة حول المساحة الشخصية والحدود، بدأ بحذر باستكشاف الحركة، وبكلماته "أشعر بالضياع في جسدي". وتؤكد أنطون، أنّ الطبيعة غير اللفظية والجسدية لـDMP سمحت لهذا الشخص بإعادة الاتصال ببطء وأمان مع جسده. "ساعدته المساحة على تذكّر أنّ لديه جسداً، وأنه يمكن أن يشعر بالاستقرار مرةً أخرى". 

بمرور الوقت، ظهر هذا التحول في حياته اليومية، فأصبح أكثر حضوراً، وأكثر تعبيراً، وبدأ باستخدام الحركة عمداً لإدارة مشاعره. بالنسبة ليارا، أكدت هذه الحالة مجدداً كيف يمكن للعلاج النفسي بحركة الرقص أن يوفر جسراً حيوياً للعودة إلى الوعي الذاتي، خاصةً لأولئك الذين يواجهون تحديات صحيةً ونفسيةً شديدة.


كيف يمكن لحركات جسدية أن تحرر المشاعر؟

في مدوّنة سابقة، كنت قد وصفت الاكتئاب بأنه "انفصال تام بين الجسد والعقل والروح". هنا تماماً يكمن دور الرقص. تساعدنا الحركة على التواصل مع المشاعر المخزنة في أجسامنا، خاصةً تلك التي قد لا نفهمها أو نتذكرها بوضوح. من خلال إيماءات بسيطة كالتمدد والتنفس والتأريض، يمكننا الوصول إلى التوتر أو المشاعر الضمنية والتخلص منها. وبحسب أنطون، لا يتعلق الأمر دائماً بالتخلّي عنها، "بل يتعلق أحياناً بملاحظة ما تحتاجه المشاعر ومواجهتها بعناية". بهذه الطريقة، تصبح الحركة، والرقص تحديداً، شكلاً من أشكال الدعم الذاتي اللطيف والرحيم.

"مفيش غير الرقص حيفوّقك"

بالعودة إلى فيلم "المصير"، تقول ليلى علوي: "تعالي مفيش غير الرقص حيفوّقك"، لسلمى، التي كان غارقةً في إحباطها وانكسارها. ليلى التي جسدت الشخصية القوية والحساسة، حاولت إيقاظ سلمى من حالتها عبر الرقص. دعوة واحدة بسيطة فيها نداء للحياة والتحرر، وإعادة التواصل مع النفس، هي الدعوة إلى الرقص.

الرقص ليس ترفاً أو استعراضاً لليونة الجسد، إنه مرآة للروح وحالة إنسانية حقيقية تنمو في فضاء الحرية. وبين الإيقاع والحركة، يشفى الإنسان. وسواء كنت ترقص أو حتى تشاهد، تذكّر أنّ الرقص هو أكثر من فنّ، هو حياة تعاش، وأنّ لكل رقصة قصةً تستحق أن تروى. 



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image