هل يعود

هل يعود "الغايب" فعلاً يا فضل شاكر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الثلاثاء 6 مايو 202501:50 م

أعلنت منصة شاهد عن انطلاق مسلسل "يا غايب" الذي يتناول سيرة الفنان فضل شاكر، ويجمع بين تقنية السرد الروائي المباشر للبطل وبعض المشاهد الوثائقية الدرامية كدليل للفعل السردي. جاء الإعلان عن المسلسل بينما أتابع العالم عبر شاشتي الصغيرة. صار الهاتف كل شيء في زمن الحرب، صار "مسخوطاً" كما كانت سِتّي تسمي الوقت، خاصة عندما لم يعد فيه بركة، فكانت تقول: "انسخط الوقت". كذلك، كل شيء حولي صار عبارة عن بدائل لا تشبه ما كان؛ التلفزيون سُخط وصار هاتفاً أو شاشات صغيرة على أطراف الطريق تبيعك مسلسلاً أو فيلماً. المهم أن تقضي على شبح الملل المليء بالموت ومجرد فسحة صغيرة في الزمن المسخوط هذا.

أصابني فضول أن أشاهد المسلسل، وبات في داخلي سؤال مكرَّر على كل فعل أقرره بهذا الوقت: في الحرب؟! وماذا يعني أن تشاهد امرأة مثلي مسلسلاً في زمن الحرب؟!

صار الهاتف كل شيء في زمن الحرب، صار "مسخوطاً" كما كانت سِتّي تسمي الوقت.

لقد هربت منها مراراً، وسأظل أخون الحرب كي أنجو من تعطشها للقتل والموت. هذه المرة الثانية التي يدفعني الفضول فيها لأشاهد مسلسلاً، بعد مسلسل "مائة عام من العزلة" الذي شاهدته خلال أيام نزوحي في دير البلح. الانتصار الوحيد بعد مشاهدة المسلسل هو أن "أورسولا" وشكل بيتها، الذي رسمته في ذهني أثناء قراءة الرواية، كان ذاته الذي ظهر في المسلسل.

أما الآن، فحين أختار مشاهدة مسلسل يحكي سيرة فضل شاكر، والذي جاء بعنوان "يا غايب"، أجد أن فعل النداء الأول الذي سمعته في ذاكرتي عن فضل شاكر وإنذار الوصول إلى البيت ما زال يلاحقني. ما زلت أعيش هذا الهاجس وهذا الصراع الذي ينادي عليّ كلما اشتدت الحرب، بينما أعيش في بيت سِتّي بمدينة غزة كبيت بديل لبيتي المدمَّر في السودانية…

"سنعود إلى البيت"

"رح يخلص كل شي، ونرجع عالبيت"

كل شيء حولي ما زال مؤقتاً، إلى حين أعود إلى البيت.

كان هذا دافعاً لأنطلق لمشاهدة المسلسل. "كل غايب معقول يعود"، وأشاهد المسلسل بينما المجزرة مستمرة في مدرسة بحي التفاح، وبعد قليل ستقترب طائرة "الكواد كابتر" من الشباك وتُرهب كل محاولة لاستعادة الحياة قليلاً.

أصابني فضول أن أشاهد المسلسل، وبات في داخلي سؤال مكرَّر على كل فعل أقرره بهذا الوقت: في الحرب؟! وماذا يعني أن تشاهد امرأة مثلي مسلسلاً عن فضل شاكر في زمن الحرب؟!

علاقتي القديمة

بالنسبة لي، يمثّل فضل شاكر في ذاكرتي حالة، لا صوتاً فقط. هو حالة بدأت منذ أول مرة سمعت فيها صوته قادماً من هناك، من زمن بعيد، وإشارة أبدية للنداء على كل ما هو "غايب".

وصوته في الأغنية يشبه النداء على أحد من زمن لم يعد وارداً أن يعود أصلاً. على الدوام كانت هذه علاقتي بصوت فضل شاكر، حتى إنني أنكرت شكل اختياره للاعتزال. بالنسبة لي، هو جزء من رحلة ومرحلة لا يمكن نقلها لصورة متناقضة وغريبة عمّا أعرفه، وربما يتشارك معي كل أبناء جيلي في ذلك. يشبه فكرة أن أحداً ينادي عليك لتعيش حالة. لم أذكر أنني بحثت عبر خانات البحث عن صوت أو أغنية لفضل شاكر، كما أفعل حين أختار الاستماع لفيروز مثلاً. ينادي فضل دائماً وكأنه قرين صورة فعل النداء في ذاكرتي، والإنذار لهذا النداء.

بالقرب من شارع البيت، كان مصنع خياطة للملابس، وإن جاز تسميته مصنعاً، كان يضم ثماني ماكينات خياطة وخبرة معلم قص وخمسة عمال وبعض أبنائهم وزوجاتهم لأغراض التغليف والتجهيز للبيع. في عز الظهيرة، كان يخرج من المصنع هذا صوتان لا ثالث لهما بعد أن ينتهي وقت الصباح بأذكار الصباح، والأخبار عبر الإذاعة وبعض الأغنيات ولقطات التبريكات والتهاني التي كان يبثها الراديو على صوت أغاني متداخلة. ليثبت الظهيرة صوتان: أحدهما صوت فضل شاكر، والثاني جورج وسوف. لكن جورج كان أكثر سيطرة في أيام الشتاء.

كان هذا الصوت إنذاراً بالنداء باقتراب الوصول للبيت بعد رحلة العودة من المدرسة، ليشكّل مساحته الخاصة في ذاكرتي السمعية. إذا سرحت العين، فإن صوت فضل شاكر هو الذي ينادي:

"يا غايب.."

أحياناً يناديك بأنك اقتربت من الوصول إلى البيت، لتعود من رحلة غرقك في التفاصيل التي جذبت إليها عينك.

صوته يتقاطع مع تلويحة العم أبو محمد بالمقص على طاولة القص الخاصة بالمصنع، ليصير هذا إنذار الدخول إلى الحي، هو نداء فضل بـ:

"يا غايب!"

لتصير رحلة فضل شاكر في الذاكرة هي رحلة الشخص الذي يقف عند عتبة وقت ما، وينادي عليك لتدخل إليها.

كنت أشاهد مسلسل "يا غايب" بينما المجزرة مستمرة في مدرسة بحي التفاح، وبعد قليل ستقترب طائرة "الكواد كابتر" من الشباك وتُرهب كل محاولة لاستعادة الحياة قليلاً.

عند مفترق الأزهر، ما زلت في سنتي الدراسية الجامعية الأولى، حيث ركبت سيارة الأجرة، وكانت "يا حياة الروح" نداءً آخر يغنيه فضل شاكر مرة أخرى، ومضى السائق بي نحو المحطة الأولى للوصول إلى البيت، شارع النصر. ليؤكد لي فضل أنه رفيق رحلة الوصول إلى البيت، ليصير ودوداً إلى الدرجة التي نتهكم فيها على الحالة التي يجلبها صوته، بأن يخرج السائق يده من شباك السيارة، يحمل سيجارة بين أصابعه وينادي على الركاب: "نصر... نصر"

ونتهامس بعدها بأن فضل شاكر مطرب السواقين "اللي مروحين من الجامعة ومحملين بالسيارة أربع طالبات ومعلين الصوت على الآخر!"

وكأن صوت فضل منادٍ آخر إلى جانب صوت السائق، وفعل النداء المقترن به، وتساؤله في ضحكة الدنيا: "مين يقول العشق في الدنيا حرام؟!"

حتى أنني تساءلت حين ظهر أمامي مرة بصورته الحديثة في الاعتزال: يا ترى، هل استطاع فضل أن يجد إجابة لسؤال: مين يقول العشق في الدنيا حرام؟

ليكتشف أنه هو الآن من سيقول إن العشق حرام!

لكن عما قليل، سيصير صوت فضل مساحة تهكم أخرى، قادمة من اختيار أحد الزملاء في مكتب إحدى المؤسسات. فنتساءل: ترى، ما سبب اختياره لفضل شاكر تحديداً؟

لتأتي الإجابة فيما بعد: شكله متدمر عاطفياً!

نتهامس بعدها بأن فضل شاكر مطرب السواقين "اللي مروحين من جامعة الأزهر ومحملين بالسيارة أربع طالبات ومعلين الصوت على الآخر!"

فضل شاكر والهروب

لتصير صورة فضل هي ذاتها حالة النداء على الذكريات واللحظات التي جمعت بين عاشقين أو صديقين، وكأنها حالة الهروب التي كانت تعج فيها البلاد وقتها بالانفجارات والحروب والاقتتال.

مساحة الرومانسية في زمن بداية الاقتتال والانقسام الفلسطيني، كان صوت فضل يصارع أصواتاً كثيرة قادمة من الشارع، في الوقت الذي كانت فيه الأغنيات حماسية تحريضية.

كان فضل رديف كل صورة لهذا الزمن، ينادي على زمن غائب أو بدأت ملامح الغياب تتشكل فيه. وعلى النقيض، كان يظهر فضل خيار الشاب المتدمر عاطفياً، إذ لم يستطع زميلنا أيهم آنذاك تأمين طلبات أهل الفتاة التي تقدم لخطبتها بسبب فارق اجتماعي واضح.

كان صوت فضل بالنسبة للفتيات هو الصورة الرديفة لفارس الأحلام، حين ينادي:

"هات إيدك تحضن إيدي، شوف حبك جوّا وريدي"

وحالة الانغماس في الرومانسية، حتى صارت "يا حياة الروح" فعل النداء هذا هي نغمة رنين الهواتف، لينغمس صوت فضل أكثر في يومياتنا المليئة بالتناقضات، من بوابة المحلات، من الهواتف التي ترن أثناء المحاضرات، وشكل المحاضر وهو يتأفف أو يتهكم على نوع الموسيقى التي يسمعها جيلنا!

لكنه ظل لوقت طويل هو فعل النداء على كل شيء في ذاكرتي.

صوته في مقاهي غزة

في المقهى، حين انتقلت ثقافة الاستراحات والمطاعم عن شاطئ بحر غزة، كان مقهى "ديليس" أول الخيارات التي فتحت بوابتها في شارع النصر، بالقرب من مركز رشاد الشوا الثقافي. تجذبك من هناك رائحة القهوة المختلطة ببرودة جهاز التكييف، وصوت فضل شاكر ما زال ينادي من سماعات المقهى ذاته، متشابكًا مع صوت يارا: "لقيني بمكان، تننسى الزمان ونغني".

ومشاهد اللقاءات التي كانت تحدث على خجل في المقهى، حيث يحاكي كل اثنين يمثلان الأغنية، وكان صوت فضل الفاصل في أي علاقة، وشرطًا أحيانًا للتعبير عن الاهتمامات المشتركة بين الشريكين.

أكاد أجزم أن سبب تواجد الزبائن بالمقهى لم يكن لأنهم يبحثون مثلي عن صوت فضل شاكر، بل دائمًا يأتيهم من حالة ذاكرة أو مكان، وكأنه حقًا يقف على عتبة وقت محدد وينادي بفعل النداء ذاته: يا... هيا تعالوا إلى تلك الحالة.

صوت فضل بالنسبة إليّ هو الدليل الأساسي في تكوين الشعور. فإن التكوين الأول للشعور هو النداء. ففي الصيف ننادي على الشتاء، وفي الخوف ننادي على الطمأنينة، وفي الموت ننادي على الحياة.

لذا، كانت فكرة اعتزال فضل كأنها انقطاع لفعل النداء، وكأن أحدًا أغلق بوابة استجابة الشعور لشعور سابق. لن ينادي علينا أحد بعد الآن!

تبرير الغياب

ظهر فضل شاكر في الحلقة الأولى من المسلسل أشبه بمن وضع نفسه في قفص اتهام ويحاول تبرير هذا الغياب، وكأنه يسألنا الصفح. يُشبهنا فضل، ويُشبه حالة التأرجح التي تطالنا الآن وسابقًا، في رحلة التيه بين الاختيارات والخيارات التي دائمًا ما نقع فيها داخل مساحات الحياة، وما تفرضه، وما نرجوه، وما نقترب منه. وهو تماماً ما يعرفه الفيلسوف كيركغارد بـ"دوار الحرية": فالإنسان يقف على حافةٍ مرتفعة، وينظر إلى الأسفل إلى جميع الفرص الممكنة في حياته، التي من خلالها يمكن أن يصبح ما يريد، وهو يعلم جيدًا أن عليه القفز — أي أن يتخذ قراراً — لكنه يدرك تماماً أنه لو قفز، سيعيش حياته داخل حدود هذه الفرصة أو هذا الاختيار، لذا يتحمس أحياناً، ويرهب أحياناً، وأحياناً ينظر إلى الأسفل فقط دون قرار.

تلك متاهات القلق الأزلي، هي ذاتها التي عاشها فضل حتى ظهر أمامي اليوم يقول: "فجأة لقيت حالي متهم، ما بعرف من الناس، ومن الإعلام". ومع ذلك، يدافع عن خياره بمشهد تمثيلي، يظهر فيه الممثل قائلاً إن الدافع هو أن كل هذا الفساد بحاجة لمحاربة، وهو الشكل الذي يقود الحالة والواقع العام نحو الخراب، وكأن صورة التغيير المرادة ستجلب الخراب دائماً وتخرج بصورة غير تلك التي أردناها.

وهي بنية التطرف التي تسكن تفاصيلنا العربية، وبالتالي التورط في القرار دون الالتفات إلى الرهبة. وكأننا حُوصرنا بين نقيضين متطرفين على الدوام، حتى تعايشنا مع واقع الخراب والإبادة، على اعتبار أننا حُوصرنا في اختيار دون الالتفات إلى الرهبة، وكأن فضل ينادي معي على زمن غائب!

ظهر فضل شاكر في الحلقة الأولى من المسلسل أشبه بمن وضع نفسه في قفص اتهام ويحاول تبرير هذا الغياب، وكأنه يسألنا الصفح. يُشبهنا فضل، ويُشبه حالة التأرجح التي تطالنا الآن وسابقًا، في رحلة التيه بين الاختيارات والخيارات التي دائمًا ما نقع فيها داخل مساحات الحياة، وما تفرضه، وما نرجوه، وما نقترب منه

لا يُسأل، ولا يصل!

كنت أبحث عن صورتي الرديفة من عالم آخر، يكشفها فضل وهو يروي من ذاكرة طفولته وضعه قسرًا في ملجأ الأيتام بسبب ضيق الحال المعيشي لأسرته، ليظهر فضل الصغير بصورة الطفل الغزي الذي يحمل أمتعته الآن مع والده ويسأل نفس السؤال: "ليش أنا هون؟!"

لا إجابة، بينما فضل وجد الإجابة، لكنه ظل محاصراً بقرار عائلته، وكأنه بلا جذور ولا بيت.

"دار الأيتام للي ما إلهم أهل". كيف ستعيش بلا عائلة رغم أنها موجودة؟ وكيف سيعيش أطفال كُثر يشبهون هذا الملمح في المشهد، كناجين بلا عائلة؟ يا فضل، كنت أسأل.

حتى قال فضل جملة في المشهد: "ضحكت الدنيا، لكن لم أضحك منها". هي تماماً حالة الانتظار التي نعيشها معًا يا فضل. لقد ارتاحت يد الحرب قليلًا، وظننا أن الدنيا ضحكت فعلًا، لكنها عادت وكأنها قَدَر، مثل قَدَرك الأبدي بأن تعيش في دار الأيتام تلك...

ليدخل في مشهد الراوي، ويغني مقطعًا من أغنية "بعيد عنك"، وكأن كل شيء صار بعيدًا، لا يصله نداء.

قلت جملة في مشهد: "ضحكت الدنيا، لكن لم أضحك منها". هي تماماً حالة الانتظار التي نعيشها معًا يا فضل. لقد ارتاحت يد الحرب قليلاً، وظننا أن الدنيا ضحكت فعلاً، لكنها عادت وكأنها قَدَر، مثل قَدَرك الأبدي بأن تعيش في دار الأيتام تلك...

الحالة التي تجمع بين السرد والرواية في المسلسل، كأنها تحاكي ما أشعر به، بل ما نشعر به كغزيين، ليعبر فضل عن تفكك داخلي، وفقدان البوصلة وهوية الذات، بينما دليل الدفاع هو مجرد مشاهد وثائقية درامية. وفي الحالتين، وبينما أنهي بعض حلقات المسلسل الآن، أدرك أن حياة فضل مبثوثة بين دفتي السرد والرواية والواقع الغزي، وأن الغياب يُخلّف ضجيجاً صامتاً يثقل القلب، ويمنع جنوحنا نحو الطمأنينة، فيظل دائم النداء عليها.

ليصير نداء النداء الذي صنعه فضل في ذاكرتي، سؤالًا:

هل يعود الغائب فعلًا؟

لقد صار الغياب هو النبض الوحيد الذي يحيط بنا يا فضل!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image