عادل إمام... كيف صار فارس الأحلام رجلاً لا يشبه آلان ديلون؟

عادل إمام... كيف صار فارس الأحلام رجلاً لا يشبه آلان ديلون؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتنوّع

السبت 17 مايو 202511:59 ص

"هو المفروض إن كل الناس تبقى شبه آلان ديلون؟"؛ يتساءل عادل إمام مستنكراً، في لقاء تلفزيوني شهير يحتفي بتربعه على عرش النجومية في فترة الثمانينيات. جملة تأتي وسط شهادات من صُنّاع السينما المصرية في ذلك الوقت، يتأملون صعوده اللافت، ويبحثون وراء أسباب تصدره للأدوار الأولى، وتقديمه كبطل رومانسي، رغم ابتعاده عن مقاييس الوسامة التقليدية. رجل لا يشبه فتيان الأحلام كما عرفهم جمهور السينما، لكنه فرض صورته الخاصة ليصبح بطلاً من نوع آخر.

مسميات كثيرة تُطلق على مشوار عادل إمام الفني، في محاولة لتوصيف تجربة مترامية التفاصيل، تحفل بمحطات تستحق التوقّف، وتتجاوز بسهولة أي محاولة لحصرها في قالب واحد. وبرغم ميل التحليلات إلى قراءة مسيرته من زاوية علاقته بالسلطة أو تسليط الضوء على أفلامه ذات البُعد السياسي، تكمن استثنائيته في تنوع اختياراته المُتنقلة بين أنماط مختلفة وشخصيات لا تُشبه بعضها. ومن بين هذه الأدوار، يُعد العاشق المحب من أكثرها إمتاعاً على رغم قلّة الاحتفاء به.

ربما يرتبط ذلك بالانتقادات التي وُجهت إلى بعض أداءاته، باعتبارها تُسيء إلى النساء وتروج لاجتياح خصوصيتهن، متوارية خلف ستار الكوميديا. وهي مراجعات تندرج ضمن سياق أوسع من تفكيك الخطابات الفنية التي ساهمت، عن قصد أو من دونه، في التطبيع مع إهانة المرأة. غير أن إطلاق أحكام قاطعة على مسيرة بهذا الثراء يُعد أمراً إشكالياً؛ فقد قدّم أعمالاً أخرى تمردت على وصم النساء وتجاوزت التصورات النمطية السائدة، بل ولامست في بعض لحظاتها أصفى تجليات الحب، حتى صارت بعض حواراتها مقتطفات رائجة على مواقع التواصل الاجتماعي، بوصفها تجسيداً لمشاعر نقية، تتجاوز الزمن والظرف.

التمرد على التصنيف

كان يمكن أن نتعرف على عادل إمام صاحب الأدوار الدرامية منذ بداياته في ستينيات القرن الماضي، لولا أن لقاءه بالمخرج حسين كمال في مسرح التلفزيون غيّر المسار. دعاه كمال حينها إلى التخلي عن تجربته الجادة في مسرح الجامعة، بعدما لمس في حضوره طاقة كوميدية لافتة، ومنحه أول دور احترافي في مسرحية "ثورة قرية". ربما لو تمسَّك الممثل الشاب بقناعاته آنذاك ورفض العرض، لما أصبح "الزعيم" الذي نعرفه اليوم.

مسميات كثيرة تُطلق على مشوار عادل إمام الفني، في محاولة لتوصيف تجربة مترامية التفاصيل، تحفل بمحطات تستحق التوقّف، وتتجاوز بسهولة أي محاولة لحصرها في قالب واحد

لكنه قَبِلَ المغامرة، وقضى نحو 15 عاماً في أدوار الكوميديا، متدرجاً من أدوار ثانوية، إلى مساعدة، ثم بطولات منفردة وجماعية متفاوتة في مستواها وأثرها. سنوات أمضاها في استكشاف مناطق قوته، وبناء ملامح شخصيته الفنية، واختبار مدى تأثير لزماته الحركية وانفعالاته على الجمهور. حتى صارت طلّته تطغى على كل شيء وتُبقي العين رهينة حضوره.

وحين بات يمتلك القوة لإجراء تغييرات جذرية على مساره الفني، تقاطعت إراداته مع تحولات البلد التي انعكست بدورها على السينما وساهمت في ترسيخ شعبيته. في كتابه "سياسة عادل إمام... رسائل من الوالي"، يشير الناقد أحمد يوسف إلى العلاقة الوثيقة بين صورة النجم والسياق التاريخي، فلكل مرحلة نجمها الذي يعكس ملامحها ويواكب تغيراتها، ليجد فيه الجمهور صدى لذاته ويتماهي معه.

يوضح: "حدث في الثمانينيات تغير عميق في صورة النجم، حتى أن نجوماً مثل محمود عبد العزيز ونور الشريف تخليا عمداً عن الوسامة التقليدية، بينما ظهر نجوم جدد مثل أحمد زكي يقتربون كثيراً من التجسيد الجسماني والنفسي والطبقي لجمهور جديد، يبحث عن لقمة العيش، وسط ظروف تزداد صعوبة".

التقط عادل إمام إشارات هذا التغير مبكراً، "وانتقل من شخصية (المضحك).. إلى تصوير الرجل العادي، الذي ينتمي إلى الطبقة الوسطى، أو إلى حضيض المجتمع أحيانًا". شَكَلَ مسلسل "أحلام الفتى الطائر" (1978) نقطة تحول مهمة فى تلك المرحلة، إذ أتاح له إظهار جوانب مختلفة من قدراته التمثيلية عبر شخصية رمادية تقترف أخطاءً، لكن لديها ما يكفي من النبل الإنساني لكسب الجمهور.

أما في السينما، فقد خاض تجارب متنوعة ليتجاوز صورة الكوميديان التقليدي، ويختبر حضوره كبطل رومانسي. فصحيح أن الكوميديا ليست بأي حال فناً من الدرجة الثانية، لكنه كان يتوق للعبور نحو مناطق جديدة. فشارك في أفلام متوسطة المستوى، مثل فيلم "الجحيم" (1980) لمحمد راضي، الذي ينهل أيضاً من ثيمة المذنب ذي النزعة النبيلة. حيث يجسد خلاله دور شاب فقير يسرق مبلغاً كبيراً ويلجأ إلى أحد المطاعم ليختبئ به، وهناك يتعرف على زوجة صاحب المطعم التي تحاول استدراجه للتخلص من زوجها، لكنه يقاوم، ويتبدل حاله تماماً حين يقع في حب ابنة صاحب المطعم. نراه هنا عاشقاً، يعترف بأخطائه، ويحاول أن ينجو بحبيبته البريئة من واقع ملوث.

كذلك اتجه إلى تقديم أفلام تنتمي لتصنيف الكوميديا الرومانسية تبرزه في صورة الحبيب الممكن، البعيد عن الفارس المثالي، لكنه بخفة ظله وشهامته في الأوقات الصعبة يسرق قلب من معه، ويجعلها مستعدة للتضحية من أجله. من أشهر هذه الأعمال "غاوي مشاكل" (1980)، ومن أقلها شعبية "ليلة شتاء دافئة" (1981).

مُحب مثالي في عوالم قاسية

في مطلع الثمانينيات، كان إمام بحاجة إلى ما يُثبت أقدامه في الأدوار الدرامية، وقد جاءته الفرصة عندما آمن المنتج واصف فايز بقدرته على تصّدر بطولة فيلم "المشبوه" (1981). صحيح أن المخرج سمير سيف لم يكن مقتنعاً به في بادئ الأمر، لكن رأيه تغير بعد أن وقعت عيناه على صورة لعادل متجهماً في إحدى المجلات.

"المشبوه" مقتبس عن الفيلم الأمريكي "Once a Thief"، من بطولة آلان ديلون، غير أن السيناريست إبراهيم الموجي والمخرج سمير سيف نجحا في تمصير حكايته ومنحها نكهة محلية خالصة. يحمل العمل كل المقومات التي تجعله من أفضل أفلام الحركة المصرية، لكن في عمقه قصة حب بالغة الرقة نتورط معها من المشهد الأول وحتى النهاية. تبدأ حين يلتقي اللص "ماهر" ببائعة الهوى "بطة"، التي تأسره بذكائها وخفتها وشهامتها، فيقع في حبها من النظرة الأولى، ويربط مصيره بها. تفرقهما السبل، لكن بطة تجد طريقها إليه لأن قلبها دليلها. يتصالح كل منهما مع ماضي الآخر، بل ويرى فيها ماهر أكثر مما تمنى، مخالفاً للنظرة المحتقرة التي يرمقها المجتمع بها. فيخوضان معاً رحلة تطهر وبناء أسرة، وحتى حين تعصف بهما الحياة ثانيةً ويخطئان، يظل الرابط الذي جمعهما أقوى من أي شيء.

ينضم عادل إمام هنا إلى قائمة من خطفوا قلب سعاد حسني على الشاشة، لكن حكايتهما تنبض بروح شعبية، بعيدة عن بريق الرفاهية؛ علاقة تنمو على متن مركب شراعي بسيط، وتمتد عبر شوارع بورسعيد ومينائها، إلى أن ينجوا معاً من الشر المتربص بهما، ونراهما في المشهد الأخير متعانقين، يتوسطهما ابنهما كخاتمة دافئة.

يُكرر الثنائي التجربة في "حب في الزنزانة" (1983) إخراج محمد فاضل وسيناريو إبراهيم الموجي، الذي ينسج حكاية تمس واقع البسطاء وتحمل بين رومانسيتها العذبة نقداً جريئاً لسياسات الانفتاح. يؤدي عادل إمام دور "صلاح"، العامل الذي يعترف بجريمة لم يرتكبها، متستراً على رجل أعمال مقابل امتيازات مادية، وحين يصدر الحكم يُفاجئ بتعرضه للخداع ويغرق في أحزانه التي لا يبددها سوى الحب.

خلف القضبان، يلمح صلاح طيف فايزة في سجن النساء المقابل، ويقع في حب منديلها الأخضر قبل أن يعرفها، وينشغل بمحاولة لفت انتباهها. يشق الحب طريقه وسط كآبة المكان، فيقربه من عالم الحلم مع موسيقى عمار الشريعي الآسرة، فننشغل بالخطابات المُهربة ولحظة تعارفهما أثناء تسليم الخبز، وأول تلامس بينهما بعد خروج فايزة من السجن. يقول لصديقيه السجينين: "أنا كنت فاكر أن الحب مسألة نزاهة ومنظرة... اللي ظروفه صعبة يحس بالحب أكتر من اللي ظروفه مستريحة".

تتقاطع فايزة مع بطة في ماضِ يتعلق بالعمل في تجارة الجسد، لكن صلاح يرفض أن يعرف شيئاً عن أسباب سجنها والخوض في تفاصيل لا تعنيه، وحين تنكشف له الحقيقة، لا يتراجع، بل يزداد تمسكًا بها. يقدم عادل إمام أداءً آخاذًا في هذا الدور، بتعبيرات الوجه البليغة ونظرات العيون التي تمزج بين مشاعر القهر والفرح بالحب والرغبة في الحرية والبدء من جديد. صحيح أن "صلاح" يعجز عن الفرار بحبيبته من دوامة التضييقات، ويلجأ في النهاية للانتقام ممن سلبه حق الحياة، لكن هذه الهزيمة لا تنتقص من صدق المشاعر، بل قد تحمل في طيتها انتصاراً بولادة طفله في عالم خالٍ ممن ظلمه.

رومانسية الرجل العادي

بينما كان المناخ السينمائي على أعتاب تحول "موجة الواقعية الجديدة" التي جعلت المهمشين أبطال أفلامها، كان عادل إمام يختار أدواراً تخاطب شرائح مختلفة من الجمهور، دون أن تبتعد عن حكايات الإنسان العادي الذي يرفض التخلي عن حقه في الحب والنجاة في ظل حراك اجتماعي واقتصادي محتدم. فتظهر الرومانسية هنا بوصفها شعوراً صادقاً ينبت من قلب الحياة اليومية، لا يحتاج إلى بطولات استثنائية، بل يكفيه الإصرار على العيش رغم كل شيء.

ثمة أفلام تؤطر صورته كرجل مُحب أكثر من غيرها، منها فيلم "الإنسان يعيش مرة واحدة" (1981) إخراج سيمون صالح وتأليف وحيد حامد. ينشغل الفيلم بطرح تساؤلات وخطابات مباشرة حول معنى الحياة وقيمتها، وأثر الحب على إعادة تشكيل مصائرنا ومنحنا شجاعة البدء من جديد. فالحكاية تدور حول مدرس تاريخ عدمي ومستهتر لا يبالي بما يحدث حوله، وطبيبة غارقة في أزمة وجودية بعد موت حبيبها. يلتقيان في قطار متجهاً نحو السلوم، فينشأ بينهما انسجام خافت يتطور إلى حب صادق.

يتلون أداء عادل إمام بسلاسة بين خفة الكوميديا وعمق مشاعر توحي بجرح عاطفي قديم، يفصح عنه في نظرات صامتة وحوارات مقتضبة تعكس إعجابه بإخلاص الطبيبة لحبيبها الراحل. يتخلى الممثل عن انفعالاته المعتادة في أدوار الحبيب الغيور، ويقترب من روح شخصية "هاني"، فعندما يواجه طبيباً يفرض نفسه عليها، لا يلجأ إلى القوة بل ينتصر بالكلمات، ويُظهر ضيقه بهدوء ورصانة. وفي تجسيده لصورة الرجل الناضج، يعبر عن إعجابه بشخصية حبيبته القوية بأسلوب مؤثر، تحوّل إلى أحد أكثر الحوارات بقاءً في الذاكرة.

"هو المفروض إن كل الناس تبقى شبه آلان ديلون؟"؛ يتساءل عادل إمام مستنكراً، في لقاء تلفزيوني شهير يحتفي بتربعه على عرش النجومية في فترة الثمانينيات. جملة تأتي وسط شهادات من صُنّاع السينما المصرية في ذلك الوقت، يتأملون صعوده اللافت

في المقابل، هناك صورة أخرى لعاشق مختلف، ظلت عالقة في أذهان أجيال لاحقة، رغم ما تحمله من اندفاع وتهور. ففي عام 1985، قدم عادل إمام فيلم "خلي بالك من عقلك"، إخراج محمد عبد العزيز وتأليف أحمد عبد الوهاب، يؤدي عادل إمام دور "وائل" طالب الدراسات العليا في علم النفس، الذي يلتقي بفتاة تُعالج في مصحة نفسية، فيجذبه غموضها وتستحوذ قصتها على فضوله العاطفي والمهني، وتصبح العلاقة بينهما إلى مزيج مُربك من الحماية والتعلق والرغبة في الإنقاذ.

رغم المبالغات الدرامية والمغالاة في ردود الأفعال، يثير الفيلم أفكاراً حول نظرة المجتمع للجنون والعقل، والوصم الذي يعاني منه ضحايا المرض النفسي. ومع أن بطله يتجاوز بلا مواربة الخط الفاصل بين مسؤولياته المهنية ومشاعره الشخصية، مستخدماً القوة لفرض قناعاته، فإن جوهر رحلته يكشف عن رجل وثق بحدسه، واندفع بيقين عاطفي لإثبات الظلم الواقع على حبيبته، وتزوجها رغم معارضة الجميع.

يُفرط عادل إمام في استعراضه للقوة داخل الفيلم، لكنه يفاجئ المُشاهد أيضاً بلحظات رومانسية لا تنسى؛ كوداعه الرقيق لحبيبته داخل المصحة، واحتفاله بعيد ميلادها برقصة صاخبة على أسرّة الجناح، وحوارهما العذب وهما يتعاهدان على الزواج. فهذه وغيرها من اللمحات منحته السبيل ليحفر اسمه بين فرسان الأفلام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image