السياحة القاتلة… هل أنقذ

السياحة القاتلة… هل أنقذ "عزوف الزوار" الشعاب المرجانية في نويبع؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

بيئة ومناخ نحن والبيئة

الجمعة 16 مايو 202509:35 ص

"كأنني أسبح داخل حلم ملوّن، في أحد العوالم الموازية"... 

هكذا أشعر في كل مرّةٍ أمارس فيها رياضة "السنوركلينغ" في البحر الأحمر في مدينة نويبع في جنوب سيناء. ولكن خلال زيارتي الأخيرة هذا الشهر، سنحت لي الفرصة لتجربة الغوص، والسباحة على عمق كبير بجانب الأسماك والشعاب المرجانية بألوانها المبهرة.

لم يكن شكل الشعاب واحداً، إنّما كان متنوعاً بتدرجات الزهري والفوشيا، وأخرى بظلال لبنيّة ناعمة، وغيرها بلون أزرق زاهٍ يشعّ تحت ضوء الشمس الذي يخترق صفحة المياه حتى أمتار عديدة تحت الماء. 

كانت هناك أيضاً سمكات خضراء صغيرة تلهو بخفّة على كتف المرجان. في كل ركن، الحياة تنبض: خيار البحر يتمدد على الشعاب، قواقع بألوان خافتة تتخفى بين الزوايا المنحنية… إلخ.

وبرغم السلام الواضح في هذا المشهد، إلا أنّ ذلك العالم الصامت والمبهر يواجه تهديدات جادّةً بالزوال، تحت تأثيرات التغيّر المناخي؛ فبحسب التقرير العالمي لحالة الشعاب المرجانية (ICRI 2025)، انخفضت الشعاب الحيّة بنسبة 14% بين عامي 2008 و2019. 

وبحسب تقارير جمعية الحفاظ على الحياة البرّية، يُقدّر العلماء أنّ 90% من الشعاب المرجانية قد تُفقد بحلول عام 2050، مع عواقب وخيمة على المجتمعات التي تحميها وترعاها إذا لم نتخذ إجراءات لحمايتها. وتشير إلى أنّ الشعاب المرجانية تُعدّ موطناً لأكثر من ربع الكائنات الحيّة في المحيطات والبحار. ومع ارتفاع درجة حرارة المياه، والصيد المدمّر والمفرط، وتلوّث المياه على نطاق واسع، ستتدهور أهمّ أنظمتنا البيئية البحرية.

العزلة في نويبع

مع زياراتي المتكررة لنويبع، المدينة الأكثر هدوءاً وعزلةً في البحر الأحمر، كانت الأسئلة تزداد في ذهني: هل ستموت كل تلك الشعاب المرجانية أو ستتعافى لأنّ زوّار المدينة قليلون؟ هل انخفاض الحركة السياحية في المدينة -مقارنةً بجاراتها مثل دهب والغردقة- له أثر على صحة المرجان والتنوع البيولوجي في تلك البقعة؟ أو أنّ غياب البشر لا يعني بالضرورة راحةً للطبيعة؟... والإجابة كانت أكثر تعقيداً مما تبدو.

تجربة الغوص في نويبع لم تكن مجرد نشاط ترفيهي، بل نافذة إلى عالم مدهش من الحياة البحرية التي تنبض بالألوان والتنوع. شعاب بألوان فوشيا وزهري وأزرق تتراقص تحت ضوء الشمس، تخلق إحساساً بالسفر إلى عالم آخر، لكنها في الواقع تقاوم للبقاء

يقول الدكتور مجدي توفيق خليل، أستاذ علم الحيوان في كلية العلوم، جامعة عين شمس، إنّ الشعاب المرجانية عبارة عن حيوانات لافقارية ليّنة وبسيطة التكوين، تعيش في حماية هياكل مكوّنة من كربونات الكالسيوم، وتعيش معها بعض الطحالب بطريقة تكافلية تمدّها بالغذاء وتتغذى على فضلاتها… وهكذا.

ويضيف لرصيف22: "تلك المواد الطحلبية النباتية تكون ملوّنةً نظراً إلى الصبغات التي تساعدها في عملية البناء الضوئي، وهي ما يعطي للشعاب لونها، فنرى الأخضر والأزرق والأحمر والأصفر. وعندما زادت درجات الحرارة في السنوات العشر الأخيرة، بدأت الكائنات تموت ويختفي لونها، وبدورها تموت الشعاب ويصبح لونها أبيض، خاصةً أنّ تلك الشعاب ساكنة لا تتحرك، فلا تستطيع الهروب إلى بيئة أكثر ملاءمةً كما يفعل السمك".

وبرغم تلك التغيرات، إلا أنّ توفيق يؤكد أنّ الباحثين والمتخصصين في مصر لا يشكّون في اختفاء المرجان من البحر الأحمر، حيث أثبتت الدراسات أنّ الأنواع الموجودة فيه هي أنواع فريدة تتحمّل درجات الحرارة العالية والتقلبات المناخية، وأكثر من 90% من شعاب البحر الأحمر لديها القدرة على العودة إلى الحياة مرةً أخرى والانتعاش في فترات البرد، حيث تتأثر في شهور الصيف فحسب، مضيفاً أنه يعمل حالياً مع فريق خاص في مشروع لاستزراع الشعاب المرجانية في الأماكن التي ماتت فيها.

أعداد الزوّار... هل تؤثر؟

بالتواصل مع وليد حسن، مدير عام محميات جنوب سيناء، أفاد بأنّ الربط بين قلّة عدد الزوار وصحة الشعاب المرجانية لن يفيد أو يعطي مؤشراً واضحاً، حيث يجب الأخذ في الحسبان عوامل أخرى كثيرة، فمثلاً زوّار مدينة دهب أو الغردقة إذا كانوا أكثر، ولكن لديهم وعياً بالحفاظ على الكائنات البحرية أعلى من العدد القليل في نويبع... فالعدد القليل سيكون أثره السلبي أعلى.

التغير المناخي والصيد الجائر يهددان هذا العالم الصامت المذهل، فالشعاب المرجانية ليست فقط زينة طبيعية، بل موطن لأكثر من ربع كائنات البحر.

يتفق معه رامي فينوس، وهو مدرّب غوص محترف والمدير الفني لـ"مركز غوص فينوس" في نويبع، مؤكداً أنّ الأمر يتعلق بالوعي البيئي للزائر وشعوره بأنّ تلك الشعاب المرجانية كنز وطني نتميز به، وسبب أساسي في تنشيط القطاع السياحي وتردد كثير من السياح من جميع أنحاء العالم عليه لممارسة الأنشطة البحرية.

الذاكرة البحرية تتآكل

يعيش رامي، في نويبع، منذ أكثر من عشرين عاماً، ويرى أنّ الفرق بين اليوم وما كان عليه البحر من قبل، "شاسع"، فقد كانت الأسماك والكائنات البحرية أكثر من الآن، والشعاب المرجانية أكثر صحةً وألواناً، وكانت الرؤية أفضل.

وبخلاف التغيرات المناخية، يشير إلى أنّ الصيد الجائر هو الأخطر على الحياة البحرية في نويبع، حيث يتمّ صيد كميات كبيرة دون مراعاة العمر والحجم وموسم التزاوج ووضع البيض من عدمه، وذلك يؤدّي إلى تدهور المخزون السمكي والبيئات المرتبطة به. 

يقول: "نغوص ونرى الشباك وخيوط الصيد ملفوفةً حول الشعاب، وتموت بسببها كائنات بحرية مهددة بالانقراض مثل السلاحف، وسمك الراي، وسمك الضفدع (Frogfish) وغيرها، وأسماك أخرى مهمة لاستمرار نمو الشعاب المرجانية، فإذا تم اصطيادها تتأثر الدورة البيئية كلها".

ويروي عن مواقف لم تفارقه حول الكائنات العالقة في شباك الصيد وتحاول الخروج منها وتتعرّض لجروح بالغة، بينما غيرها لا يستطيع النجاة ويموت في الشباك. ويذكر أن بعض الغطسات التي يؤديها، يصرّ الغطاسون خلالها على إنقاذ الأسماك العالقة، وتنظيف الشعاب من خيوط الصيد والشباك.

"الشباك تُلقى بلا وعي، والصيادون يخرِجون كل ما يعلق بها ويأخذون ما يحتاجونه فحسب، أما الكائنات الأخرى فمصيرها الموت. وبرغم وجود قرارات من الجهات المسؤولة بعدم السماح بالصيد، ما زال الالتزام بها على أرض الواقع ضعيفاً".

التوعية البيئية للزائرين والمتدربين

كمدرّب غوص، يرى رامي أن جزءاً من واجبه توعية الزوّار بيئياً قبل ممارسة أي نشاط بحري، يقول: "أعطي دائماً تعليمات للغواصين الجُدد والسائحين بعدم لمس الشعاب المرجانية أو أي كائن بحري في أثناء الغطس، وفي التدريب يوجد جزء خاص بتعليمهم طبيعة البيئة البحرية، وكيف يتعاملون معها، ومعلومات حول طبيعة هذا العالم، وذلك جزء أساسي من التدريب قبل الحصول على رخصة الغوص".

في نويبع، حيث العزلة والهدوء، لا تزال الشعاب المرجانية تقاوم رغم قسوة المناخ وتجاهل البشر. لذا فتدريب الغواصين على احترام الكائنات البحرية صار ضرورة، فالبحر لا يحتاج إلى حضورنا فقط، بل إلى احترامنا له ككائن حي هشّ

ويقول محمد (اسم مستعار لمختص بمحميات جنوب سيناء)، إنّ الشعاب المرجانية تُعدّ نظاماً بيئياً هشّاً يسهل تدميره، سواء بالعوامل الطبيعية أو البشرية، وهي تتأثر سلبًا بعوامل عدة، مثل: ارتفاع درجات الحرارة (18-28 درجةً مئويةً)، أو درجة الملوحة (33-42 في الألف)، وأيضاً عُكارة المياه، حيث تحتاج إلى الضوء في نموها، وتتأثر سلباً بالملوثات بأنواعها، خاصةً البترولية منها.

"ولكونها هشّة التكوين، فهي تتأثر بسهولة بالأنشطة البشرية التي تكون قريبةً منها، وباحتكاك مباشر، مثل أنشطة السباحة السطحية (سنوركلينغ)، والغوص واللنشات السياحية، وتتأثر أيضاً بحوادث شحوط اللنشات السياحية والسفن والناقلات المارّة، وأنشطة السياحة غير المسؤولة، مثل السباحة السطحية العشوائية والغوص لغير المؤهلين في مناطق الشعاب".

ويؤكد أنّ الشعاب المرجانية في البحر الأحمر بصفة عامة هي الأكثر تحمّلاً للظروف الاستثنائية المتطرفة، وأنّها تعيش في ظروف قاسية من حرارة عالية، ودرجة ملوحة عالية تصل إلى 42 في الألف، بالإضافة إلى بقائها لفترات طويلة مكشوفةً من دون مياه في أثناء الجَزر المنخفض. وقد تم تسجيل ذلك في أبحاث علمية للمقارنة بين أنواع الشعاب المرجانية على مستوى العالم، ومدى تحمّلها للعوامل الطبيعية والبشرية في موائلها الطبيعية.

زوّار لا يتركون أثراً

في نويبع، حيث تعيش الشعاب المرجانية تحت ماء مالح وسماء لا تُغادرها الشمس، تقاوم الحياة البحرية في صمت. وما بين استمتاع الغوّاصين بما تبقّى من جمال، ومحاولات الخبراء لحمايتها، وزوّار لا يُلقون بالاً بما يحدث، تبقى شعاب نويبع شاهدةً على مفارقة بيئية: هل توفّر لها العزلة فرصةً للتعافي، أو تُسبب لها تآكلاً بطيئاً بعيداً عن الأنظار؟

في غياب السياحة الجماعية، قد يكون لدى الطبيعة متّسع لتلتقط أنفاسها، لكنها تحتاج كذلك إلى زوّار يفهمون كيف لا يتركون أثراً. فنشر الوعي البيئي بينهم ليس رفاهيةً، بل ضرورة لحماية منظومة دقيقة كالشعاب المرجانية، وربما آن الأوان لننظر إلى البحر، لا كوجهة، بل ككائنٍ حيّ يحتاج إلى من يرعاه، لا إلى من ينبهر به فحسب.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

البيئة هي كل ما حولنا، وهي، للأسف، تتغير اليوم باستمرار، وفي كثير من الأحيان نحو الأسوأ، وهنا يأتي دورنا كصحافيين: لرفع الوعي بما يحدث في العالم من تغييرات بيئية ومناخية وبآثار تلك التغييرات علينا، وتبسيط المفاهيم البيئية كي يكون الجميع قادرين على فهمها ومعرفة ما يدور حولهم، وأيضاً للتأكيد على الدور الذي يمكن للجميع القيام به لتحسين الكثير من الأمور في حياتنا اليومية.

Website by WhiteBeard
Popup Image