شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
القتل المقدس… من نصوص التوراة إلى براءة الصبية في فيلم

القتل المقدس… من نصوص التوراة إلى براءة الصبية في فيلم "تين وتينا"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتطرف

الخميس 24 أكتوبر 202401:43 م

في الفيلم الإسباني "تين وتينا"، إنتاج 2023، تفزع امرأة تبنّت طفلين متدينين؛ خوفاً من قيامهما بقتلها، باسم الله. أعادني الفيلم إلى مسلسل لا ينتهي من القتل المقدس، باسم الله ذبح الدواعش شيخاً ناهز المئة، في تشرين الثاني/نوفمبر 2016.

في المشهد العبثي، يصلّي القاتل والقتيل قبل ذبحه، كلاهما يتقرّب إلى الله، الداعشي بالقتل، وبدأ طقوسه بحمد "الله الذي أرسل محمداً بالسيف رحمة للعالمين"، والشيخ الزاهد سليمان أبو حراز (98 عاماً) يفوض أمره إلى الله، ويشفق على سلالة الخوارج، تنظيم أنصار بيت المقدس، ولعله تذكر أنصبة حمقى بني أمية من العمى والافتئات على الله، فاتهموا أحفاد رسوله بالكفر، وردد خطباء الجمعة ذلك البهتان.

كابوس كهذا كان بانتظارنا، باتحاد الإمام والسلطان في شخص واحد. في حزيران/يونيو 2013، اقتحم سلفيون بيتاً في الجيزة، وقتلوا أربعة من أهله الشيعة ومثلوا بجثثهم، على خلفية هتاف: "الله أكبر"، بعد تحريض رموز السلفيين على الشيعة، بحضور رئيس الجمهورية الإخواني في مؤتمر باستاد القاهرة. لم تستنكر أي جهة سلفية تلك الجريمة.

في فجر الجمعة 17 رمضان عام 40 هـ، تمكن عبد الرحمن بن ملجم من قتل الإمام علي بن أبي طالب، وهو ذاهب للصلاة في مسجد الكوفة. لم يكن الخارجي يجهل مقام أمير المؤمنين، ولا نسي أن الإمام آثر حقن الدماء في موقعة صِفِّين. يقين الرجل دفعه إلى القتل، وهو من أهل القرآن، وقد أرسله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص بمصر: "آثرتك به على نفسي، فإذا أتاك فاجعل له داراً يقرئ الناس فيها القرآن وأكرمه".

الغلوّ في التدين، من دون وعي، قد يدلّ على فقر الإيمان، ويحرّض على الجريمة. والقصاص وحده لا يمنع إعادة إنتاج العنف، في القصاص صمتٌ عن مفهوم الإرهاب

لم يتفقه القرآن. لما أرادوا القصاص بقطع رأسه، توسل إليهم ألا يقطعوها بضربة واحدة، "بل قطّعوا أطرافي شيئاً فشيئاً؛ حتى ألتذّ بتعذيب بدني في سبيل الله".

يروي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري، في كتابه "الأخبار الطوال"، أنهم قطعوا يديه ورجليه وسملوا عينيه وهو لا يبالي، وحين سمع أمراً بقطع لسانه جزع، فسأله عبد الله بن جعفر عن اضطرابه، فأجاب: "إني ما جزعت من ذلك خوفاً من الموت، ولكني جزعت أن أكون حيّاً في الدنيا ساعة لا أذكر الله فيها".

الغلوّ في التدين، من دون وعي، قد يدل على فقر الإيمان، ويحرّض على الجريمة. والقصاص وحده لا يمنع إعادة إنتاج العنف، في القصاص صمتٌ عن مفهوم الإرهاب، واكتفاء بالقضاء على الإرهابيين، يُقطع الغصن وتُترك الجذور تنبث السموم، وهذا عمران بن حطان الخارجي، وقد وصفه الفرزدق بأنه من أشعر الناس، يرثي صاحبه ابن ملجم:

يا ضربة من تقيّ ما أراد بها/ إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا

إني لأذكرُه حينا فأحسبُه/ أوفى البرية عند الله ميزانا

أكرم بقوم بطون الطير قبرهمُ/ لم يخلطوا دينهم بغيا وعدوانا

الغلوّ دفع الخوارج إلى استحلال قتل من يمرّ بهم من المسلمين. مرّ بهم عبد الله بن خباب بن الأرت، وكان والياً لعليّ على بعض البلاد، ومعه زوجته الحبلى، فسألوه: ما تقول في التحكيم؟ يقصدون صِفِّين، فقال إن عليّاً أعلم بكتاب الله منكم، وأشد توقياً على دينه، وأنفذ بصيرة. فقالوا له: "إنك لست تتبع الهدى، وإنما تتبع الرجال على أسمائهم". وذبحوه وذبحوا امرأته وبقروا بطنها عن ولد. ثم مرّ بهم واصل بن عطاء، فسألوه: من أنت؟ فأجاب: مشرك مستجير بكم، ودينكم يقول "وإن أحد من المشركين استجارك فأجره". فقالوا: أجرناك. فقال: هذا لا يكفي حتى تسمعوني كلام الله، فأسمعوه، وأوكلوا من يحرسه حتى يبلغ مقصده.

لا فرق بين شيخ وطفل وامرأة، يتخذون من كتابهم المقدس دليلاً إرشادياً إلى إعادة تكرار الجريمة. 

بين الإيمان والتديّن اليهودييْن مسافة. أسمع من حاخام في فلسطين المحتلة، ومن آخر في أمريكا، رفضاً قاطعاً لقيام دولة لليهود، استناداً إلى الإيمان. كما أسمع إرهابيين في إسرائيل يسوّغون قتل الأغيار، لا فرق بين شيخ وطفل وامرأة، يتخذون من كتابهم المقدس دليلاً إرشادياً إلى إعادة تكرار الجريمة، ففي سفر التثنية، الإصحاح 20، دعوة إلى الإرهاب: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها إلى الصلح. فإن أجابتك إلى الصلح وفتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويُستعبد لك. وإن لم تسالمك، بل عملت معك حرباً، فحاصرها. وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف. وأما النساء والأطفال والبهائم وكل ما في المدينة، كل غنيمتها، فتغنمها لنفسك، وتأكل غنيمة أعدائك التي أعطاك الرب إلهك".

وفي الإصحاح السادس، سفر يشوع، أنهم أبادوا مدينة أريحا، وقتلوا أهلها جميعاً، "من رجل وامرأة، من طفل وشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، بحد السيف". وفي الإصحاح الثامن، ضربوا أهل مدينة عاي، "حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت"، وقتلوا أهلها، وكان عددهم "في ذلك اليوم من رجال ونساء اثتي عشر ألفاً جميع سكان عاي... وأحرق يشوع عاي وجعلها تلا أبدياً خراباً".

قارئ هذه الأسفار التوراتية يرى السطور مطموسة بالدم المتفجر من مشاهد يهتدي بها الصهاينة الآن، بوسائل أشدّ فتكاً. تترسخ المتون المقدسة في الأرواح فتزيل البراءة، وتستبدل بالتسامح الإنساني وحشية مقدسة.

في فيلم "تين وتينا"، للمخرج الإسباني روبين ستين، تتأكد للزوجة لولا (الممثلة ميلينا سميت) استحالة الحمل، وتتفق مع زوجها الطيار أدولفو (الممثل خايمه لورينته) على تبني طفل من الدير. يتبنيان توأمين أمهقين هما تين وتينا، في السابعة، يحفظان الكتاب المقدس، ويجيدان العزف والغناء الكنسي، ويعتبران الموسيقى الأخرى فعلاً شيطانياً. لا يعرفان التلفزيون، ويجعلان البيت نسخة من الدير، فالصلبان في كل مكان، ويقدمان إلى لولا مسبحة، ويضعان على رأس أدولفو تاجاً من الشوك، ويدعوانه إلى تلاوة الصلاة قبل تناول الطعام.

ذات صباح، لا تستجيب لولا لتذكير تينا بتلاوة صلاة الشكر. تسألها الطفلة تينا: "ألست مؤمنة بالرب؟"، تقول: "يصعب عليّ أحياناً الإيمان به"، فتعلق تينا بشيء من الثقة: "قال الجاهل في قلبه: ليس إله"، فيفخر أخوها تين بتذكُّر هذه الآية، في المزمور التاسع من سفر المزامير، فتصحح أخته قائلة إن الآية في المزمور الرابع عشر. ربحت الأخت مباراة في التذكر والاستشهاد واستدعاء الآيات. ولا تلبث المحفوظات أن تنحرف بهما إلى الأذى، حين يعضّ الكلب لولا، فيحتالان عليه، ويتمكنان من قتله، بحجة تطهير روحه من الأذى الذي أصاب به الأم.

تنزعج لولا وتقول لزوجها: "ماذا لو قاما بشق بطني أو بطنك تاليا لتطهير روحيْنا؟"، والزوج يستخف بالحادث، لا ينكر أنه مأساة، لكنه يعتبره مجرد سوء فهم من طفلين بريئين يحتاجان إلى أمّ تعلمهما التمييز بين الخطأ والصواب.

في المدرسة يسخر منهما زميلهما "بيدرو"، يصفهما بابني دراكيولا، ثم يلتقي الآباء والتلاميذ في طقوس القربان، يختفي تين وتينا، ثم يعزفان وينالان التحية، قبل العزف يختفي بيدرو أيضاً، ثم تكتشف لولا أنه وقع في عيبوبة، وترجح أن الولدين انتقما منه، والولدان لا ينكران، وتعثر لولا في الكتاب المقدس على رسمين، أولهما يصور قتل الكلب، والثاني يصور الاعتداء على بيدرو، والرسوم مصحوبة بإشارات إلى آيات من الكتاب المقدس، فتقترح لولا على زوجها إبلاغ الشرطة، وكالعادة يستهين بالرسوم، ويؤكد أنهما بريئان، فتقول لولا: "ماذا لو لم يكونا طفلين بريئين يسيئان فهم الإنجيل؟ ماذا لو كانا عكس ذلك؟ ربما يستخدمان الإنجيل لتسويغ أفعالهما المروعة". لولا التي فوجئت بأنها حبلى، في ما يشبه المعجزة، تريد حماية ابنها الذي لم تلده من الوحشين الصغيرين، والزوج يصف خوفها بأنها هراء.

لا تطمئن لولا، فتضع الإنجيل والصلبان في صندوق وتغلقه، وتأخذ عليهما عهدا ألا يفتحانه إلا حين يكبران، لا ممارسة للدين في البيت، ولو خالفا القاعدة فسيعودان إلى الدير الذي يتعرضان فيه للضرب. ويذعنان. ويخرج بيدرو من الغيبوبة إلى الموت، فيزداد خوف لولا منهما، وتتوسل إلى زوجها ألا يتركها وحدها معهما، وبدل أن يكون ميلاد الطفل مناسبة لعودة الألفة بين لولا والطفلين، فإن تينا تسأل بعد ميلاده مباشرة: متى يذهبون لتعميده؟ تؤكد لولا أنه لن يعمّد، فيتبارى الطفلان في ترديد المحفوظات والتحذيرات، يقول تين: "الأطفال غير المعمّدين يذهبون إلى اليمبوس، وهذا مكان مريع"، والأب يريد التعميد، والأم تستهين، وتقول إن ابنها سيقرر ديانته حين يكبر، فيضحك الزوج ويعلن اللجوء إلى لعبة الديقراطية في مسألة التعميد.

كم من صبي أصابته جرثومة التديّن، ففقد البراءة، وكبرا معاً، هو والجرثومة التي وجّهته إلى سلوك يبدأ بالتعالي على من يظنهم عصاة، وقد ينتهي بقتلهم، تقرّباً إلى الله

تستقر الأمور. الطفل في سريره، ولولا مشغولة في المطبخ، وأدولفو يخرج من استرخائه في الحديقة صارخاً: "هذه كارثة" حين يحرز الفريق الألماني هدفا في مرمي الفريق الإسباني في كأس العالم 1982، والكارثة تدركها لولا فيقع البيض من يديها، وهي ترى الولدين قد خطفا الرضيع من البيت لتعميده في المسبح، بتلاوة تينا للآية الثانية من الإصحاح الأول من سفر التكوين: "وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى الغمر ظلمة، وروح الله يرفّ على وجه المياه"، أما تين فيمسك قدمي الرضيع، ويغمر رأسه في الماء، ويستعجل أخته فتقرأ: "وأرشّ عليكم ماء طاهرا فتطَهّرون، من كل نجاستكم ومن كل أصنامكم أطهركم". في هذه اللحظة يعلق أدولفو: "كارثة" على هدف في المرمى الإسباني، وتتمكن لولا من إنقاذ الرضيع، وتصفعهما، ويحرق أدولفو الإنجيل، ويعيدهما إلى الدير.

التديّن في الصغر يفسد الفطرة أحياناً، يطفئ طفولة الروح فلا تستجيب لمؤثر جديد، يغلق المسام على المحفوظات المحركة للأعضاء، وتمدها بأسباب العنف. محظوظ من يفرّ مبكراً، وينقذ روحه من القتل. غابرييل غارسيا ماركيز أحد الناجين.

في مذكراته "عشت لأروي"، يتذكر أنه عشية المناولة الأولى، في سن السادسة، أخذ الأب اعترافاته، "كان وعيي للخير والشر بسيطاً جداً. ولكن الأب ساعدني بمعجم من الخطايا، لكي أقول له أيها اقترفت... إلى أن سألني إذا ما كنت قد مارست أفعالاً منكرة مع حيوانات. كانت لدي فكرة غامضة عن أن بعض الكبار يقترفون مع الحمير خطيئة، لم أكن أفهم حقيقتها، ولكنني في تلك الليلة فقط، تعلمت أن فعل ذلك ممكن أيضاً مع الدجاجات. وهكذا كانت خطوتي الأولى، إلى المناولة الأولى، قفزة كبيرة أخرى على طريق فقداني البراءة. ولم أعد أجد دافعاً مشجعاً لمواصلة المساعدة في القداس".

كم من صبي أصابته جرثومة التديّن، ففقد البراءة، وكبرا معاً، هو والجرثومة التي وجّهته إلى سلوك يبدأ بالتعالي على من يظنهم عصاة، وقد ينتهي بقتلهم، تقرّباً إلى الله.

إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image