إلى أين تذهب سوريا؟ ما المخطّط لها؟ وإلامَ ستنتهي؟
لست امرأةً واهمةً لأيقن بأنّ كل شيء سوف يكون بخير قريباً، ذلك أنّ سوريا ليست معزولةً عن العالم المحيط بها، القريب والبعيد، وما حدث ويحدث فيها ليس سوى مربّع في لعبة كلمات متقاطعة لا يحلّها سوى واضعيها.
أما نحن، أي شعبها وناسها ومحبّيها، فيبدو أنّ مهمتنا الوحيدة في هذه اللعبة هي تجريب كل أحرف الكلمات التي نعرفها بكل الاحتمالات، عسى أن يتطابق احتمال ما مع الفراغات الموضوعة.
هل ستستغربون فشلنا في ملء أيّ فراغ حتى اللحظة، وبعد مرور أشهر ثلاثة كاملة من فرد اللعبة أمامنا إثر حجبها عن أنظارنا لعقود طويلة؟ سيكون الاستغراب لو أنّ العكس هو ما يحصل، لو أننا استطعنا حلّ جزء من الأحجية، وإكمال بعض الفراغات بالكلمات المناسبة، ثم طوينا صفحة اللعبة وعددناها شبه منتهية.
هذا حلم جميل أيها الأصدقاء، حلم سيدة ستينية لطالما ظنّت أنها تنتمي إلى شعب قادر على النهوض من قلب الخراب، وتنتمي إلى بلاد كلما اندثرت حضارة لها استطاعت بناء غيرها على أنقاض ما سبق. لكن هذا مجرد ظنّ شعري، يشبه المجاز، ويشبه مقولة "أعذب الشعر أكذبه"، ويشبه خيالي عن بلادي، وما أفكر فيه شعرياً عنها عندما أحاول كتابة نص ما قبل أن ينزاح، دون قصد مني، ليصبح نصاً ذاتياً.
"إلى أين تذهب سوريا؟ ما المخطّط لها؟ وإلامَ ستنتهي؟ لست امرأةً واهمةً لأيقن بأنّ كل شيء سوف يكون بخير قريباً"
لكن من قال إنّ رؤية كلّ منّا للوطن ليست بمعنى ما ذاتيةً؟ ولا أقصد بالذاتية هنا ما يمكن لأحدنا الاستئثار به في هذا الوطن، وإنما ما تراكم في وعيه من لغة وثقافة ومفاهيم وقيم اكتسبها كل منّا من بيئته ومحيطه وجماعته الصغيرة والكبيرة، ثم إدراكه وثقافته ومعرفته الذاتية.
هذا الوطن كما أفهمه وأريده هو غير الوطن الذي يفهمه ويريده قريب لي ينتمي إلى بيئتي نفسها. لكن ما أتيح لي من معرفة وانفتاح كونيّ، لأسباب متعددة، جعلني أرى في الوطن السوري الذي ننتمي إليه معاً عالماً أكثر رحابةً مما يراه قريبي.
هو يراه، ربما، على قدر المساحة التي يعيش فيها، والتي يريد لأولاده أن يكبروا فيها. لا يهمّه منه سوى الأمان النفسي والجسدي والمادي. وهذا الأمان، في كل الأحوال، شرط من شروط تحقق الوطن، أيّ أنّ بلاداً لا تقدّم هذا الأمان لأبنائها ليست أوطاناً، وليست أكثر من مزارع لحكّامها.
قد يرى آخر، من بيئة أخرى، الوطن على قدر معتقده الأيديولوجي (ديني أو حزبي أو عرقي). يريده أن يشبه المعتقد الذي يؤمن به، حتى لو كان هناك من لا يناسبه هذا الشكل ويعيش في الوطن نفسه.
"أيّ أنّ بلاداً لا تقدّم هذا الأمان لأبنائها ليست أوطاناً، وليست أكثر من مزارع لحكّامها"
أما أنا، فأريد الوطن على قدر العالم. أريده أن يقدّم لي ولأحفادي أماناً مادياً وجسدياً ونفسياً، لكن أيضاً أريده أن يقدّم لغيري الأمان عينه، وأريده أن يتّسع لكل معتقدات من يعيشون فيه. أريده وطناً بديلاً لمن ليس له وطناً. أريد فيه هذا البراح الكامل من الحرية التي تتيح لأيّ من أبنائه أن يعيش كما يعتقد ويحبّ، وأن تكون فيه قوانين لا لتحدد شكل الحياة فيه، بل لتمنع الاعتداء على أشكال الحياة فيه.
هذه الرغبة هي مجاز شعري عن وطن خرج لتوّه من الجحيم، وربما يدخل الآن في جحيم آخر، ذلك أنه بقدر ما تكون النهايات مفرحةً تكون البدايات اللاحقة برّاقةً، لكنها تخفي مجاهيل متعددةً ستكون الاحتمالات فيها متعددةً أيضاً. يكمن المجاز الذي يتيح للخيال أن يبني فضاءه، في الاحتمالات الغامضة. وفي هذا الغموض على السياسة أن تعمل، وعلى محبّي البلاد أن يتحركوا.
بعد فرار الأسد في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، استعدت "السورية" التي واريتها داخلي زمناً طويلاً، وسوريا التي عددتها وقتاً طويلاً بلداً على خريطة العالم لن تتاح لي رؤيته بعد اليوم. وهذا أمر كنت قد تعايشت معه حتى كنت ظننت أنني قد نسيت كل ما يتعلق بحياتي في سوريا، البلاد التي عاشت في وجداني بوصفها فكرةً أكتب عنها في محاولة لبقاء حلم سوريا الحرّة متوهجاً.
"أريده وطناً بديلاً لمن ليس له وطناً. أريد فيه هذا البراح الكامل من الحرية التي تتيح لأيّ من أبنائه أن يعيش كما يعتقد ويحبّ، وأن تكون فيه قوانين لا لتحدد شكل الحياة فيه، بل لتمنع الاعتداء على أشكال الحياة فيه"
لكن مع لحظة السقوط، صار الوهج حقيقةً، كما لو أنّ حياتي الماضية فيها كانت فيلماً قديماً ترمّم للتوّ، وأعدت رؤيته كاملاً. بدأت أخطط لشكل حياتي القادمة فيها: أين سأعيش؟ من سأصادق؟ من أين سأتسوق؟ تخيّلت أنني أكمل مشروعاً توقّف عند لحظة الثورة. تخيّلت حتى أين سوف يكون قبري حين يأخذ الله أمانته: "تحت ظل شجرة سنديان وارفة في قريتي".
نحن العلويين نؤمن بالتقمّص. أن أُدفن تحت سنديانة، يعني أن أعود ربما إلى الحياة على شكل غصن فيها، أو على شكل حبّة بلوط يحاول سنجاب أكلها ولا يفلح، ويعود يومياً إليها كما لو أنّه يلاعبها وتلاعبه خشية الملل. هكذا عاد إليّ خيالي الشعري عن فكرة سوريا التي أعرفها كما أعرف شكل أصابعي وعدد الندبات في جسدي.
لهذا لم أستعجل كثيراً في العودة. كنت أحتاج إلى بعض الوقت لأرتّب أموري. ما المشكلة؟ سوريا تحررت ولم يعد هناك من عائق يمنعني من العودة إليها في أيّ وقت. الفرح والتوق جعلاني أتغاضى عمّن جلسوا بدلاً من نظام الأسد وهم مختلفون عنّي كلياً، ومختلفون عمّا أردته لسوريا؛ ولكن ما المانع من الاختلاف؟ هذا أيضاً جزء مما حلمت به لسوريا؛ أن تتّسع لجميع أبنائها على اختلافاتهم، مهما كانت الاختلافات معهم.
"نحن العلويين نؤمن بالتقمّص. أن أُدفن تحت سنديانة، يعني أن أعود ربما إلى الحياة على شكل غصن فيها، أو على شكل حبّة بلوط يحاول سنجاب أكلها ولا يفلح، ويعود يومياً إليها كما لو أنّه يلاعبها وتلاعبه خشية الملل"
لكن الاختلاف أحياناً يمكنه أن يكون دموياً. ألم يكن هكذا فترة حكم الأسد الطويلة؟ كان حكماً طويلاً بدأ بالدم، وانتهى بالدم، تاركاً خلفه تركةً ثقيلةً من الدم، يدفع الجميع اليوم فاتورتها دون تمييز.
نحن العلويين نؤمن بالتقمّص. لا أعرف إن كان من شارك الأسد في جرائمه من أبناء هذه الطائفة، قد فكّر في ما يمكن أن يكون عليه شكل حياته المتقمّصة بعد سفك دماء بريئة لمختلف عنه. الجهادي التكفيري السنّي يفكّر في حوريّة من حوريّات الجنّة مع قتل كل مختلف كما يروى. أو على الأقل تلك هي النظرة الشعبية السائدة عن الفكر الجهادي المستقاة من النص الديني وتفسيراته العجيبة. هل ثمة ما يشبه ذلك في اليهودية؟ وفي المسيحية؟ يمتلئ التاريخ البشري بالحروب الدينية وبالدم الذي سُفك لأسباب دينية. هل هذا موجود أيضاً عند العلويين؟
نحن نساء هذه الطائفة ممنوعات من الاطّلاع على هذه الديانة الباطنية التي ننتمي إليها، ذلك أنها تحتوي على السرّ الأكبر، والنساء ثرثارات لا يحفظن سرّاً.
لم أفهم يوماً لماذا تكون المرأة علويةً إن كانت لا تعلم شيئاً عن هذه العقيدة التي تنتمي إليها؟ وإن كان ينظر إليها بهذا الاستعلاء الذكوري؟ في الحقيقة لا أحد يختار دينه. نحن نولد ويولد معنا الدين الذي سنُنسب إليه. بعضنا يقبله بوصفه تمييزاً إلهياً، وبعضنا يقبله بوصفه جيناً وراثياً، وآخرون ينبذونه وغيره، لأنّ الأديان كلها تحمل في داخلها بذور العنصرية. بعضنا أيضاً يقبل الأديان بوصفها ثقافةً وإرثاً كونياً يوسع المدارك.
لكن للأسف، هذه الثقافة يمكن تحويلها في لحظة ما لتكون سبباً لسفك الدماء. ولطالما كانت كذلك. كل حروب التاريخ لها مبررات دينية. مع أن أسبابها مختلفة تماماً: السلطة والنفوذ والقوة والثورة، التي يحلم بها أفراد ويقودون خلفهم قطعاناً ممن حرّكت غرائزهم نوازع دينية. سيكونون هم الضحايا حتماً، وسيكسب أحد الأفراد السلطة والنفوذ والقوة والمال والمجد كذلك.
ثلاثة أشهر كاملة وبضعة أيام مرّت على اللحظة التي اعتقدت فيها أنّ الكابوس بدأ بالتراجع أخيراً. غير أنّ الكابوس أثقل مما ظننت، والاحتمالات -غير الدم والخراب- باتت قليلةً.
"لن أعود إلى سوريا. وهذا ليس مهماً لأحد أساساً كي أعلنه. سأعود إلى مجازاتي في الكتابة وفي الخيال وفي الحلم. لديّ وطني الذي أعيش فيه هناك. وطني الشخصي. مساحتي التي أرتّبها كوطن يشبهني"
لن أعود. وهذا ليس مهماً لأحد أساساً كي أعلنه. سأعود إلى مجازاتي في الكتابة وفي الخيال وفي الحلم. لديّ وطني الذي أعيش فيه هناك. وطني الشخصي. مساحتي التي أرتّبها كوطن يشبهني.
أما الوطن الذي يعود إلى عهد القبيلة بعد عهد المزرعة، فلا أريد حتى مساحة قبر فيه، ولا وقت عندي لأنتظر احتمالاته. سأُدفن أيضاً في المجاز، كما كتبت ذات يوم: "إذا متّ، ضعوا جسدي في صحراء نائية، ستأتي ذئاب وتنهشه، وتأتي ذئاب وتنهشه، وتأتي ذئاب وتنهشه، ولن أعترض، لن أحسّ بغير الرضا، وربما سأشعر بالتسلية في ذلك الفراغ، إذ ثمة من يؤنس وحشة موتي بالنهش. الشاعرات عادةً لا يحببن وحشة الموت".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 13 ساعةاتمنى الرد يا استاذ ?
Apple User -
منذ 13 ساعةهل هناك مواقف كهذه لعلي بن ابي طالب ؟
Assad Abdo -
منذ يومينشخصية جدلية
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامأن تسخر التكنولوجيا من أجل الإنسان وأن نحمل اللغة العربية معنا في سفرنا نحو المستقبل هدفان...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياملم تسميها "أعمالا عدائية" وهي كانت حربا؟
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 6 أيامnews/2025/03/12/nx-s1-5323229/hpv-vaccine-cancer-rfk في هذا المقال بتاريخ لاحق يشدد الأطباء على...