شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
لو كان الفنّ يطلق النار!

لو كان الفنّ يطلق النار!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

السبت 19 أبريل 202510:32 ص

في مساءٍ آخر من تلك الأمسيات الثقيلة، حين يمرّ الهواء وكأنه يتسلل بين الضلوع خلسةً، فكّرت فجأةً: ماذا لو كان الفنّ لا يُعلَّق على الجدران، ولا يُصفَّق له في المعارض، بل... يُطلق النار.

لا أقصد نار البارود، بل نار المعنى. نار الصرخة، حين لا يملك أحدٌ صوتاً.

الفنّ الحقيقي، ذاك الذي لا ينام في المتاحف، بل يستيقظ في الشوارع، على جدران السجون، في دفاتر الطلاب، وفوق حناجر الأمهات اللواتي دفنّ أبناءهن واحتفظن بأسمائهم في الأغاني.

نحن اليوم في لحظة انكسار... لا لأنّ طاغيةً سقط، بل لأن جلّاداً آخر ارتدى ثوب "الخلاص".

استبدلنا الأصنام... لا الكوابيس.

والساحل يحترق من جديد، لا بفعل البحر، بل بأيدٍ تُتقن الذبح أكثر من الصلاة.

في هذا الجنون، لم أعد أصدق نشرات الأخبار، ولا شعارات الأمل، ولا لغة السياسة.

لكنّي ما زلت أؤمن بالفنّ.

في هذا الجنون، لم أعد أصدق نشرات الأخبار، ولا شعارات الأمل، ولا لغة السياسة. لكنّي ما زلت أؤمن بالفنّ.


أؤمن بأنّ لوحةً قد تُربك جنرالاً، وأغنيةً قد تُرعب نظاماً، وقصيدةً قد تُنقذ ذاكرة وطنٍ من المحو.

هل تعرف "بريخت"؟

ذاك المسرحي الألماني الذي كتب مسرحياته كمن يُعدّ قنابل يدويةً.

قال ذات مرة: "الفن ليس مرآةً تعكس الواقع، بل مطرقة تُشكّله".

وبالفعل، في قلب ألمانيا النازية، وقف الفنّ يصرخ، يعرّي، يشكّك، ويزرع بذور الشكّ في عقول الشباب...

وبعد الحرب، لم يكن القادة فحسب هم من خضعوا للمحاكم، بل أُعيد سؤال الفنّ إلى الواجهة:

أين كان الفنّ حين كانت الوحشية تمرّ من تحت النوافذ؟

اليوم، في هذا الركام الذي نعيش فيه، لا نحتاج إلى فنّ جميل...

بل نحتاج إلى فنّ فاضح.

فنّ يخدش، يؤلم، يعرّي، ويفضح الكذبة الكبرى التي جعلتنا نصدّق أنّ البديل عن الطاغية هو الجلاد.

فنّ يخدش، يؤلم، يعرّي، ويفضح الكذبة الكبرى التي جعلتنا نصدّق أنّ البديل عن الطاغية هو الجلاد.


تخيّل لو أنّ كلّ طفل رسم مجزرته، وكلّ شاب كتب قصته، وكلّ أمّ غنّت اسم ابنها بصوتٍ مبحوح...

لكان لدينا جيش لا يُقهر:

جيش من الفنّانين الذين لا يرفعون السلاح، بل يرفعون المعنى.

الفنّ، حين لا يُخاف منه، لا يستحق أن يُسمّى فنّاً.

الفن، حين لا يُلاحَق، لا يُمنَع، لا يُحرَق، ولا يُهاجَم...

فهو ديكور.

أريد فنّاً تهتزّ له عروش، وتسقط له آلهة، وترتجف له قلوب من يظنون أنفسهم آلهةً على الأرض.

تخيّل معي...

خلال هذا الحديث عن الفنّ، ثمة رجل في السبعين من عمره جلس على حافة ركام بيته في الساحل، عاري الرأس، متكئاً على جدار لم يعد موجوداً، يبكي بصمتٍ يشبه الصراخ.

لم تكن دموعه مجرّد حزن،

كانت اعترافاً كاملاً بفشل العالم،

كانت لغةً كاملةً تنطق بها عيناه حين رأى قلب ابنه يُنتزع من صدره لا مجازاً، بل فعلاً،

كما لو أنّ القاتل كان يبحث عن إله جديد يسكنه، أو معنى ضائع لم يجده في كتبه.

كان الفن هناك... لا ليصوّر المشهد، بل ليرتجف أمامه.

كل ريشات العالم تعجز عن رسم لحظة كهذه.

كل نوتات البيانو تصمت أمام نغمة البكاء المكبوت.

وفي الزاوية الأخرى من الكارثة،

كان هناك طفل... لم يتجاوز الخامسة عشرة،

وجهه أسمر، قدماه حافيتان من كثرة اللعب والتراب،

ممدّد على الأرض كأنه غفا بعد جولة طويلة من الركض.

لكن ما شدّ الانتباه لم يكن الدم، ولا الرصاصة...

بل كانت تلك الربطة، تلك الخرقة المربوطة حول خصره بدل القشاط،

كأنها تقول: "أنا فقير... ولكنني كنت أحاول أن أبدو أنيقاً أمام الحياة". 

من هنا يبدأ الفنّ الحقيقي، لا من المعارض الباذخة، أو من كتالوغات المجد الزائف.

بل من صرخة الأب، وربطة الطفل.

من الحكايات التي لا تجد وقتاً لتُقال،

فتلجأ إلى الفنّ كي تبقى حيّةً، كي لا تُنسى، وكي لا تتحوّل إلى أرقام في تقرير حقوق الإنسان.

من هنا يبدأ الفنّ الحقيقي، لا من المعارض الباذخة، أو من كتالوغات المجد الزائف. بل من صرخة الأب، وربطة الطفل. من الحكايات التي لا تجد وقتاً لتُقال، فتلجأ إلى الفنّ كي تبقى حيّةً، كي لا تُنسى، وكي لا تتحوّل إلى أرقام في تقرير حقوق الإنسان.


هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا...هؤلاء قصائد ناقصة تبحث عمّن يُكملها.

لوحة نصفها بالدم، والنصف الآخر في انتظار اللون.

الفنّ... وحده من يستطيع أن يأخذ دمعة عجوز وربطة طفل،

ويحوّلهما إلى سلاح من نوع آخر.

سلاح لا يقتل، بل يُحيي.

لا يمحو، بل يُشهِد.

لا يصمت، بل يقول كل شيء... حين يعجز الجميع عن الكلام.

تخيّل لو كان الفنّ يُطلق النار...

لكان هذا العالم أكثر عدالةً، وأقلّ صمتاً، وأقرب إلى الإنسان.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image