"معقول نبقى هيك؟"؛ قد لا تُطرح هذه الجملة صراحةً في مسرحيّة "غسق"، لكنها تقفز من تحت كل مشهد، وتنبض في أعماق كل شخصية، وترافقك بعد انتهاء العرض، حين تخرج من المسرح ولا تنتهي الأسئلة.
في مسرح المدينة-بيروت، تقدّم كريستيل خضر، مسرحيّة "غسق"، وهي ليست اقتباساً تقليدياً من نص "الساعون إلى العرش"، لهنريك إبسن، بل ترجمة حسّية لأزمة وجودية تعيشها البلاد منذ أكثر من قرن. العرض يطرح سؤالاً ملحّاً: هل يمكن بناء سلام حقيقي من دون عدالة؟ وهل يمكن لجيل نشأ من قلب الأنقاض أن يؤسّس يوماً لحياة فوقها؟

المقاومة بالفعل المسرحي
تحمل المسرحيّة اسماً غامضاً؛ "غسق"، تلك اللحظة المعلّقة بين النور والظلمة، بين النهاية والبداية. كما تقول كريستيل خضر: "الغسق هو المكان الأصعب، لأننا لا نعلم ما إذا كان الضوء سيأتي أم لا". وهذه بالتحديد هي الحالة التي يجسّدها العرض: لحظة لبنان المعلقة، حيث لا نعرف إن كنّا نعيش احتضار دولة، أم ولادة وطن.
في العرض، نشهد لقاءً حيّاً بين الجيل الذي وُلد في حقبة الثمانينيات اللبنانية، الجيل الذي عايش الحرب والاحتلال والانفجارات، وبين الأسئلة التي لم يعد ممكنّاً التهرّب منها: هل ما نعيشه الآن هو "السلم الأهلي"، أم ذاكرة مدفونة تحت بند الصمت العام؟ وهل السلام ممكن من دون عدالة؟
المسرحية التي يؤدّيها كل من رودریغ سلیمان، وإیلي نجیم، وروي دیب، وطارق یعقوب، تبدأ في ليلة رمزية، 1 أيلول/ سبتمبر 2020، بعد مئة عام بالتمام على إعلان دولة لبنان الكبير من قِبل الجنرال الفرنسي غورو. وكأنّ المخرجة تقول لنا: نحن هنا، بعد قرنٍ كامل، نواجه التساؤلات نفسها. وبدلاً من الاحتفال، يواجه أربعة ممثلين أصدقاء لحظةً تتفجّر فيها الأسئلة: من نحن؟ من أين أتينا؟ ولماذا ما زلنا هنا؟
في العرض، نشهد لقاء حيّاً بين الجيل الذي وُلد في حقبة الثمانينيات اللبنانيّة، الجيل الذي عايش الحرب والاحتلال والانفجارات، وبين الأسئلة التي لم يعد ممكنّاً التهرّب منها: هل ما نعيشه الآن هو "السلم الأهلي"، أم ذاكرة مدفونة تحت بند الصمت العام؟ وهل السلام ممكن من دون عدالة؟
من النرويج إلى بيروت... من الملك إلى المقاوم

تتقاطع على خشبة المسرح مشاهد من العصور الوسطى في النرويج، حيث يتصارع الملوك على العرش، مع الواقع اللبنانيّ الحديث، حيث لا تزال السلطة تُمارَس باسم الإله، أو باسم وهم اختلقته، شرعيّة لا أحد يحاسبها عليها. أحد الملوك في النص مؤمن تماماً بأنه يحكم باسم الله، والآخر يخدع الناس ويزعم أنه كذلك، وفي الحالتين، النتيجة واحدة: الخراب.
واحدة من أكثر الزوايا إيلاماً بين ما تطرحه المسرحيّة من زوايا عدة، هي التساؤلات حول جيل الثمانينيات في لبنان: هل كنّا مرغوبين أصلاً؟ هل أتينا إلى هذا العالم عن حب، أم جئنا لأنّ الحرب لم تسمح بالتفكير؟ هذا الجيل، تقول المسرحيّة إنه إما أتى عن طريق الخطأ، أو عن طريق قرار خطأ. وفي الحالتين، يتحمّل تبعات لم يخترها
هذا المشهد ينعكس بشكل لافت على ما نعيشه اليوم؛ زعماء يشرّعون لأنفسهم سلطةً مطلقةً، باسم الدين، باسم الطائفة، أو باسم الله، وفي الخلفيّة، بلد منهك، شعب محبط، وأجيال غارقة في الأسئلة.
أبناء الحرب الذين لم يُسألوا ما إذا أرادوا الحياة

واحدة من أكثر الزوايا إيلاماً التي تطرحها المسرحيّة، هي التساؤلات حول جيل الثمانينيات في لبنان: هل كنّا مرغوبين أصلاً؟ هل أتينا إلى هذا العالم عن حب، أم جئنا لأنّ الحرب لم تسمح بالتفكير؟ هذا الجيل، تقول المسرحيّة إنه إما أتى عن طريق الخطأ، أو عن طريق قرار خطأ. وفي الحالتين، يتحمّل تبعات لم يخترها.
هذا الطرح يتجاوز الجانب الشخصي إلى بُعد نفسي عميق، حيث يتحوّل وجود الإنسان إلى عبء، وسؤاله الأول يصبح: لماذا أنا هنا؟ أن تولد في عزّ الاجتياح، والفتنة، والانقسام، يعني أن تُقرن حياتك بهذا السؤال إلى الأبد.
إبداع يولَد من الجرح
من أجمل ما تطرحه المسرحيّة، مفهوم "موهبة الحزن". ذاك النوع من الحزن الذي يهبك إياه الآخر حين يرحل، أو يخذلك، أو يتخلّى عنك. كأنّ المسرحيّة تشير إلى أنّ بعض الإبداع لا يولَد إلا من الجرح، وأنّ من نحبّهم قد يمنحوننا، من دون أن يدروا، موهبة العتمة. وهنا يبرز اسم المسرحية نفسه "غسق".
تلك اللحظة المعلّقة بين النور والظُلمة، حيث لا ندري إن كان الضوء في طريقه للانطفاء أو للانبعاث. "غسق"، كناية عن حالنا نحن العالقين في وطنٍ لم يعد يشبهنا، ولم نعد نعرف ما إذا كنّا سنغادره أو نستعيده. في "غسق"، يصبح الألم أداةً للفهم، لا للبكاء فحسب.
العدالة الغائبة عن خطاب الأمم
تسترجع "غسق"، مشهداً سوريالياً حصل فعلاً، وهو مشهد زيارة رئيس فرنسا، لبنان، في الذكرى المئوية لتأسيسه، حيث تلا خطاباً يفيض بالكلمات الرنّانة والمتداولة منذ مئة عام: البؤس، والفقر، والحرب، والقصف، والطفولة، والفساد، والانفجار، والطفولة، والشرق الأوسط، لكن غاب عنه مصطلح واحد: "العدالة"، وكأنّ المسرحيّة تسألنا: لماذا لا يُذكَر هذا المصطلح في الخطابات الكبرى؟
وعندها نستنتج الجواب بأنفسنا؛ لأنّ العدالة الحقيقية مرعبة... تهدّد التوازنات، وتقلب الطاولات. تُظهر المسرحيّة بذكاء كيف يتم تعليب الواقع اللبناني في خطابات دولية فخمة، لكن بلا مضمون فعلي، فيما تبقى العدالة مغيّبةً، كأنها كلمة محرّمة.
في النهاية، تخرج من المسرح وأنت تحمل داخلك سؤالاً لم يعد يحتمل التأجيل: "ماذا لو كنّا مبسوطين؟"، وهذا بحدّ ذاته، كفعل، إنجاز
عن معنى الإنجاز ومن يستحق الحياة
في لحظة مسرحيّة مثقلة بالتساؤل، يُطرح سؤال: "من هو الرجل الأعظم؟". هو ليس الأكثر إيماناً، ولا الأذكى، ولا الأقوى كما قد يتداعى إلى ذهننا... بل هو "الأسعد". من ناحية أخرى، تتكرّر جملة "إنجاز حياتي" داخل النص، بين سخرية مبطّنة وانعكاس مؤلم للواقع. الإنسان، تقول المسرحيّة، قد يموت من أجل إنجاز غيره، لكنه لا يعيش إلا من أجل إنجازه الشخصي. وكأنّ العرض يقول: أعظم ما يمكن أن ننجزه هو أن نكون سعداء.
ربما هنا تنكشف المعضلة اللبنانيّة كلها: ما معنى الإنجاز؟ ما معنى أن نعيش في مجتمع يرى أن أعظم إنجازاتنا قد يكون مجرد البقاء أحياء؟ في بلد مثل لبنان: هل السعادة خيار؟ أو ترف؟ أو خطيئة؟
المسرح كفعل سياسي

تقول خضر، لرصيف22، إنّ المسرح ليس مكاناً للتمثيل فحسب، بل هو مساحة لطرح الأسئلة. والمسرحيّة تفي بهذا الغرض؛ هي لا تقدم حلولاً أو رسائل، بل تحفّز الوعي.
في "غسق"، لا تنتهي القصة على الخشبة. بل تبدأ هناك. في مساءٍ رمادي، بين الحنين والغضب، بين التاريخ والآن، يجرؤ العرض على سؤال لا أحد يريد أن يسمعه: "معقول نبقى هيك؟"... وفي النهاية، تخرج من المسرح وأنت تحمل داخلك سؤالاً لم يعد يحتمل التأجيل: "ماذا لو كنّا مبسوطين؟"، وهذا بحدّ ذاته، كفعل، إنجاز.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Basema Mohammed -
منذ 18 ساعةالنص ناقد يسلط الضوء على الهوية الذكورية بلغة مباشرة وساخرة، ويطرح دعوة صادقة لإعادة تعريف...
Ghina Hashem -
منذ يومالحب حرام بس اعلامهم يلي ماجابت للبلد الا الدمار معليش يرفعوها نحنى محاربون في الشرق الاوسط كافة
ذوالفقار عباس -
منذ 3 أياما
Hossam Sami -
منذ 3 أيامصعود "أحزاب اليمين" نتيجة طبيعية جداً لرفض البعض; وعددهم ليس بالقليل أبداً. لفكرة الإندماج بل...
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع و عظيم ..
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...