يعود المخرج والباحث والأكاديمي اللبناني رائد الرافعي إلى مدينته الأولى، طرابلس، بعد غياب، ليتحدث إلى ناسها ويحاول اكتشافها من جديد عبر عدسة الكاميرا. هذه العودة ليست عودة إلى الموطن فقط، بل إلى الذات، والتي تجسدت في فيلم رائد الأخير "طرابلس، حكاية المدن الثلاثة"، تستكشف تجليات من وجود المخرج الذي تأخذه الريح إلى بلاد بعيدة وتعود به إلى الديار الأولى، ومن المدينة وأهلها في نفس الوقت. تتجول كاميرا المخرج في طرابلس بشوارعها وأزقتها الصاخبة ومقاهيها محاولةً التقرب إليها، ليس كشخص غريب يريد استكشاف مدينة "غريبة" ومختلفة، بل كمحبّ يحاول التعرف إلى حبيب يصدّ حيناً ويقترب حيناً آخر.
بحميمية يقترب الفيلم من حياة مختلف الناس في طرابلس، من أناس عاديين إلى فنانين كويريين، لنرى من خلال تلك اللقاءات والأحاديث كيف يعيش هؤلاء الناس بين الكمّ الكبير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية وكيف يحاولون التمسك بخيط الحياة
بحميمية يقترب الفيلم من حياة مختلف الناس في طرابلس، من أناس عاديين إلى فنانين كويريين، لنرى من خلال تلك اللقاءات والأحاديث كيف يعيش هؤلاء الناس بين الكمّ الكبير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية وكيف يحاولون التمسك بخيط الحياة.
يذكر رائد في كتيّب تعريف الفيلم أنه طالما شعر بالانتماء إلى هذه المدينة، مهما بعد وسكن بعيداً عنها، وهذا ما نلحظه في توجهه، وأحاديثه، وحتى في صمت الفيلم. شعر رائد أنه يستطيع أن يعبّر عن هذا الانتماء وتحدياته عبر السينما، كما يذكر، دون أن يقع في فخّ الكليشيهات والمقاربات المعتادة غير الواقعية التي تتخلل أو تطغى عادة على الأعمال التي تصنع في/عن الشرق الأوسط.
يتطرق رائد في فيلمه الوثائقي الأخير إلى تحديات الكويريين في مجتمع طرابلس التقليدي نوعاً ما؛ تلك المدينة التي سكنت رائد، حتى عندما هاجر منها. يتطرق الفيلم إلى الضغوط التي واجهها الكويريون في هذه المدينة ليؤكد كم هو مهم التنوع الفكري والجنساني والاهتمام بالفئات المهمشة، وكم سيثري الفكر والمجتمع والعلاقات الاجتماعية.
هذا ما تحدث عنه رائد في حديثنا إليه عند عرض فيلمه في مهرجان إيدفا (IDFA) للأفلام الوثائقية في أمستردام (14-24 تشرين الثاني/نوفمبر 2024)، والذي يعتبر من أهم المهرجانات المتعلقة بالأفلام الوثائقية في العالم. يقام هذا المهرجان سنوياً في أمستردام، ويشمل أفلاماً وثائقية متنوعة بين طويل وقصير، وأفلام الأطفال واليافعين وغيرها.
انتهى رائد من تصوير وإعداد فيلمه في طرابلس بينما كانت الحرب قد بدأت على بلده، والقصف والنيران تدمّر لبنان بمختلف مناطقه ومدنه. فيتحدث في بداية حديثنا معه عن هذا الألم الذي نزل في نهايات إعداد فيلمه، حين رأى بلده يُقصف ويدمّر بنيران إسرائيلية.
ذلك الألم الذي بزغ في نهايات أيلول/سبتمبر، يشعر به رائد، ككل اللبنانيين/ات، ويتساءل: هل لنا أن نحتفل بفعالية فنية، بعرض فيلم، بحفلة موسيقية، إلخ، وبلدنا، بحضارته وأهله وعمارته الجميلة وطبيعته، يتعرض للقصف والتدمير؟ هل الفن بلسم في مثل هذا الجرح الكبير؟ هل يستطيع عزاءنا ولو قليلاً فقط؟!
بدأ رائد العمل على هذا الفيم منذ عام 2018، واستغرق ستة أعوام حتى استطاع أن يجد صيغة الفيلم التي شعر أنها تمكّنه من التعبير عن رأيه وانتمائه.
في لقائنا معه، بعد عرض فيلمه في أمستردام، تحدث رائد عن ذلك الشعور الغريب والمتنوع الذي اعتراه طوال العمل على الفيلم؛ الشعور الذي ظلّ يتأرجح بين الغضب والضياع والفرح والفخر.
يحدثنا رائد في حديث حميم عن كيف يحاول الإنسان في مراحل حياته أن يكتشف نفسه وهويته المتعددة وسط المجتمع الذي يحاول "تأديبه"، وعليه، يجب على المرء أن يثور على ذاته وعلى الذكريات الأليمة المرتبطة بطفولته، والتي لطالما حاول طمسها. فعودته إلى طرابلس، كما يشرح، كانت بهدف مواجهة المشاعر المختلطة ومحاولة فهم المدينة وأطرها الصارمة.
فالشعور بالانتماء، برغم الاختلاف، و"لعنة" الشخص الذي يغادر مسقط رأسه ويعيش في مكان آخر حتى، ولو ضمن البلد نفسه، لم يغادر رائد، أينما سكن. فيذكر خلال حديثه بأنه "أينما أكون هناك شعور بالانتماء الناقص، ولكن يجب دوماً تعزيز التواصل مع الأمكنة، حيث تكمن الذكريات".
يؤمن رائد بأن الحديث عن مواضيع "التابو" والقضايا أو المشاكل والتحديات التي تترتب عليها، لا يمكن إلا بطرح الأسئلة عنها من أجل فهمها؛ وفي الدرجة الأولى، لا يمكن أن نحقق الحرية إلا عندما نشعر أولاً وفي ذواتنا بها، ومن ثم نسعى من أجل تحقيقها كفنانين/ات.
فالفنان والمثقف يحاول فهم المجتمع، ودوره أن يطرح الأسئلة الصعبة ويخلق حوارات حول مواضيع معيّنة في الأماكن العامة، فمن هناك يبدأ الطريق نحو إحداث التغيير وتطور المجتمع: "لا يمكن أن نكون كويريين ومتحررين إلا إذا شعر كل شخص منا بأنه متحرر، سواءً كان فلسطينياً أم سودانياً، أم ينتمي إلى أي هوية عربية، إن كانت هويته الجنسية كويرية أم لا. وبالتالي يجب أن نشعر بأننا نرتبط ببعضنا بعضاً، ونناضل من أجل عالم مختلف، لا يوجد فيه ظلم، وحيث كل شخص يتمتع بحقوقه كاملة"، يؤكد رائد.
تلك الحقوق لا ينبغي أن تعطى على أساس أولويات، إنما من حقنا كبشر أن نحصل عليها بمعزل عن الاختلافات في العرق واللون والانتماء، "فأن نكون كويريين، لا يعني أننا مختلفون، وفكرة أن هناك "نموذج صح" هو في صلب المشكلة، لأن الاختلاف يجمعنا ويخلق تنوعاً مميزاً"، على حدّ تأكيده.
يؤمن رائد بأن الحديث عن مواضيع "التابو" والمشاكل والتحديات التي تترتب عليها، لا يمكن إلا بطرح الأسئلة عنها من أجل فهمها؛ وفي الدرجة الأولى، لا يمكن أن نحقق الحرية إلا عندما نشعر أولاً وفي ذواتنا بها، ومن ثم نسعى من أجل تحقيقها كفنانين/ات
يرى رائد أننا "كمجتمعٍ نعيش في صراع مع المفاهيم المتعلقة بتراثنا العربي الأصيل، وما هو قادم من الغرب، ولكن نحن عبارة عن مزيج من الاثنين، وهناك صعوبة في تأريخ تاريخ الكوير العرب"، وعليه، يعتبر أنه لا بد من بذل جهود حثيثة من أجل النظر إلى هذا التاريخ من منظار حديث، فينبغي أن نضع إسقاطات حديثة عليه، ذلك أن مفهوم الكوير كان مختلفاً في الماضي، بطبيعة الأمر، وكما كل المفاهيم التي تعامل البشر معها منذ بداية خلقه ورافقته طوال سنوات طويلة، علينا أن نعي التطور في مفهوم الكوير، لكي نستطيع مواصلة المسيرة التي قد تحتاج إلى إعادة صياغة وإصلاح، إن شئنا لها أن تتواصل، لنخلق مجتمعاً أو مجتمعات عربية متقدمة وحاضنة لكل التنوعات والاختلافات.
فـ"الكويرية قديمة العهد والوجود، بدأت مع تاريخ الإنسان"، كما يعتقد رائد، "وهي جزء من الطبيعة والجنس الذي ليس هدفه إنجاب الأطفال فقط، وضمان استمرار البشر، بل إن الممارسات الجنسية هي جزء من الحاجة البشرية ويجب أن نخرجها من قيود 'ما هو طبيعي'، و'ما هو خارج عن الطبيعة'".
وعن أبرز الأفلام الوثائقية التي أثرت عليه وينصحنا بمشاهدته، يشير رائد إلى فيلم "love meetings" الذي يسافر خلاله المخرج والشاعر الإيطالي الشهير، بيير باولو بازوليني، حول إيطاليا، ويسأل الناس من مختلف الأعمار والأجناس عن رأيهم حول المثلية الجنسية، وتكون الأجوبة التي يتلقاها صادمة جداً، وأيضاً أفلام جوسلين صعب التي تتحدث من خلالها عن بيروت والحرب من منظور شخصي، بالإضافة إلى فيلم "cameraperson" لكريستين جونسون، وفيه لقطات مميزة قبل بدء التصوير وخارجه، وفيلم "الملتقطون والمتقطات" (les glaneurs et la glaneuse) للمخرجة الفرنسية أنييس فاردا، والذي يضم حوارات مع شخصيات مختلفة من المجتمع الفرنسي.
بعد تلك "القعدة" الأمستردامية مع رائد الرافعي، يختم المخرج اللبناني حديثه برسالة موجهة إلى قراء رصيف22، فيقول: "كأشخاص منتمين إلى مجتمعات عربية ونعيش فيها، ينبغي علينا أن نتحرر من القيود حين نعبّر عن أنفسنا، ونتحدث دون ضغوطات خارجية، كما يجب أن ننتفض على الأنظمة والأفكار التي نرفضها، من أجل بناء مجتمع أفضل".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 5 ساعاتلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ 4 أياملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو