في فترة تموج بالكثير من الأحداث السياسية والاجتماعية المهمة، وتزخر بقامات وأسماء في عالم الغناء والتلحين لا يطاولها أحد، أصبح العندليب الأسمر عبد الحليم، ظاهرةً فنية، بل صار في سنوات قصيرة أسطورة خالدة، فاستطاع أن يصنع لنفسه شهرة جابت الآفاق، من المحيط إلى الخليج، وامتلك قلوب جماهير الوطن العربي ليصبح جزءاً رئيساً من الذاكرة الفنية والوطنية والعاطفية لثلاثة أجيال في الحياة المصرية: جيل الخمسينيات والستينيات وجزء كبير من السبعينيات. واستطاع بذكائه الاجتماعي وتطويعه لفنّه وموهبته المتفردة أن يسكن قلوب الحكام والملوك العرب، وأن يصبح صديقاً مقرباً لبعضهم، فجمعته بهم علاقات وطيدة تخطت كونها علاقة ملك أو رئيس بفنان.
وهنا يُطرح تساؤل مهم: هل تعد علاقات حليم الوطيدة برؤساء وملوك العرب، مثل عبد الناصر، السادات، الملك الحسن ، الحبيب بورقيبة، والملك الحسين بن طلال، وغيرهم، دليلاً على اهتمام حليم بالشأن السياسي، وميوله السياسية؟ هل كان لديه توجه سياسي ما، أو تيار يدين له بالولاء؟ أم أن الأمر لم يتخطّ كونه علاقاتٍ توطيدية لخدمة فنه وشخصه وأصدقائه؟ هذا ما يجيب عنه كتاب "حليم، أسرار وحكايات مع حكام العرب" للكاتبة سمية عبد المنعم.
هذا التساؤل أجاب عنه الناقد الفني طارق الشناوي في حديثه لرصيف22، مؤكداً أن حليم لم يكن له أية وجهة نظر سياسية، بل لم يكن له وعي سياسي أو خلفية سياسية ينطلق منها، فالواقع المصري السياسي وكل الأحداث التي مرت بها مصر جعلت موقفه الفني أكبر من مواقفه السياسية.
وأضاف أن علاقته مع ناصر كانت علاقة مصلحة متبادلة، فعبد الناصر كان يوفر الحماية لحليم، كما حدث في حالات كثير تعرض لها عبد الحليم حافظ مع صلاح نصر ومع مصطفى أمين، بينما كان عبد الحليم حافظ يغني للشعب حتى يحب عبد الناصر، وهو ما نجح فيه، فقد استفاد ناصر من غناء عبدالحليم له وللثورة.
شاءت الأقدار أن يكون الميلاد الفني للمطرب الشاب عبد الحليم حافظ في ذات اللحظة التي ولدت فيها الجمهورية المصرية، حيث وقف الفنان الشهير يوسف وهبي الذي كان يقدم فقرات حفل غنائي كبير مساء 18 حزيران/يونيو 1953 ليزف إلى كل المصريين نبأ تحول مصر إلى النظام الجمهوري كإحدى الثمار المهمة لثورة 23 تموز/يوليو 1952.
هل تعد علاقات حليم الوطيدة برؤساء وملوك العرب، مثل عبد الناصر، السادات، الملك الحسن ، الحبيب بورقيبة، والملك الحسين بن طلال، وغيرهم، دليلاً على اهتمام حليم بالشأن السياسي، وميوله السياسية؟
وفي ظل الفرحة العارمة التي عمت جمهور الحفل وكل المصريين، أعلن يوسف وهبي تقديم المطرب الشاب عبد الحليم حافظ ليستقبله الجمهور بحفاوة طاغية، حيث ارتبط في أذهانهم أن "وشه حلو"، وقدم عبد الحليم أغنية "صافيني مرة"، التي نالت كل الإعجاب والتقدير، وهي ذات الأغنية التي قدمها قبل عدة أشهر في الإسكندرية، ورفضها الجمهور وقذفوه بكل ما طالت أيديهم.
هذا الميلاد المتزامن جعل عبد الحليم حافظ يرتبط وجدانياً وفكرياً بثورة يوليو وزعيمها جمال عبد الناصر.
عبد الناصر وحليم، علاقة ودّ أم منفعة متبادلة؟
من بين كل مطربي مصر في الخمسينيات والستينيات، لم يغنِّ أحدٌ لثورة يوليو ولشخص الرئيس جمال عبد الناصر مثلما فعل حليم. ربما اتهمه البعض بالمجاملة والمبالغة في مدح جمال، حد تخصيص 12 أغنية يذكر فيها صراحة اسم جمال من بين 67 أغنية وطنية.
بعد انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً لجمهورية مصر في 23 حزيران/يونيو عام 1956، عقب استفتاء أجري، اجتمع الشاعر صلاح جاهين والموسيقار كمال الطويل والفنان عبد الحليم حافظ، وقدموا أول أغنية وطنية، فكانت أغنية "إحنا الشعب".
اعتبر البعض عبد الحليم حافظ لسان حال الثورة وناشر رسالتها بين الناس، بصوته وأغانيه الوطنية، وقد كتب الكثيرون عن علاقة ناصر بحليم، منهم من أطلق عليها علاقة أبوية، وقص من الحكايات والمواقف ما يؤكد ذلك، ومنهم من هاجمها واعتبرها للمصلحة ليس إلا.
عبد الحليم والسادات، علاقة مثيرة للجدل
يقول حليم عن بدء تعرفه بالسادات ورأيه فيه: "وإذا كان صلاح سالم -رحمه الله– هو الذي قدمني للرئيس جمال عبد الناصر، فهو أيضاً الذي عرفني وقدمني للرئيس أنور السادات؛ فعن طريقه عرفت الرئيس السادات، إنساناً هادئاً رزيناً يفكر في كل كلمة يقولها وكل موقف يتخذه، وكان شعوري دائماً أنه أحد الثوار الحقيقيين الذين كان لهم دور كبير قبل قيام الثورة. لقد عمل الرئيس السادات فترة بالصحافة، وهذا ما جعل العلاقة بيني وبينه تقوى أكثر.
وقد ربطت علاقة صداقة بين عبد الحليم حافظ والرئيس السادات، وكان الرئيس السادات يضع اسم عبد الحليم حافظ ضمن قائمة المدعوين من رجال الفن والأدب والسياسة في كل المناسبات العائلية الخاصة، مثل حفلات زواج أبناء السادات، استراحات المعمورة والقناطر الخيرية. وكان السادات يرى في عبد الحليم حافظ سفيراً للفن المصري خارج مصر.
وقد حافظ حليم على علاقته الطيبة بالسادات حتى وفاته عام 1977، لدرجة أنه في ظل توتر العلاقات بين مصر وسوريا وعندما طلبوه للغناء بدمشق، استأذن حليم الساداتَ للسفر، وربما كان لغناء حليم في سوريا أثره في تقريب وجهات النظر وكانت القيادة السياسية ترسله برسائل لا يعرف محتواها.
ومما يدل على استثنائية العلاقة بين عبد الحليم والرئيس السادات أن حليم استغل علاقته بالسادات في تخفيف حدة أزمة الرئيس مع مصطفى أمين، والذي كان مسجوناً سياسياً في ذلك الوقت، حيث قيل إن حليم توسط عند السادات للإفراج عنه، وعند خروجه من السجن كان حليم في استقباله.
وعن قوة تلك العلاقة يقول فاروق إبراهيم، مصوره الخاص، إن علاقة حليم بالسادات كانت أقوى من علاقته بناصر، بحكم أن السادات كان يعشق الفن وكانت أمنيته قبل أن يتحول للسياسة أن يصبح ممثلاً، واهتم بالفن، وأقام عيد الفن، وكرّم الممثلين.
عبد الحليم والحسن الثاني صداقة متفردة
لم تقتصر صداقة حليم على ناصر والسادات، بل كان العندليب صديقاً للعديد من رؤساء الدول العربية، غير أنه اشتهر بصداقته المقربة بالملك الحسن الثاني، ملك المغرب الراحل، للدرجة التي دفعت الملك الحسن لإهداء عبد الحليم حافظ سيارة فاخرة بمفتاح ذهبي، وهى إيطالية الصنع من نوع "فيات 130" موديل 1969، ذات لون فضي. وهذا النوع كان يوجد منه أربع نسخ فقط في مصر، واحدة عند الرئيس أنور السادات، والثانية عند السفير البريطاني المعتمد في القاهرة آنذاك، والثالثة كان يملكها صاحب شركة "فيات" في القاهرة، والرابعة كانت بحوزة عبد الحليم حافظ، وقد غنى العندليب لملك المغرب الحسن الثاني في 13 مناسبة.
وعن مدى تفرد وتميز تلك الصداقة، يقول محمد شبانة: "كان حليم يقود الفرقة الموسيقية للملك الحسن الثاني، والذي صمم له عرشاً على يمينه، وكان يطالب مصمم الأزياء الخاص به أن يقوم بتفصيل بدلتين لهما سوياً من نفس القماش، على أن يقوم بتوقيع مصمم الأزياء على تعاقد بألا يستخدم ذلك القماش لأي شخص قبل مرور 25 عاماً".
وعن أول حفل يقيمه بالمغرب، يذكر حليم في مذكراته أن الملك الحسن الثاني بعث إليه برقية كان مستهلها: "إلى العندليب، إلى صوت العرب، يسعدنا أن نلتف حول صوتك المليء بالشجن، والعامر بالألحان في حفل غنائي تقيمه المملكة". وكان عبد الحليم مسروراً جداً، ولبى دعوة ملك المغرب، فغنى أغنية "يا ليالي العيد".
بعد هذه الزيارة، تكرر حضور العندليب للمغرب، حتى إن وجوده أصبح ضرورياً في حفلات الأعياد الوطنية، مثل أعياد العرش وأعياد الشباب. لذلك عايش عبد الحليم أفراح المغرب لسنوات عدة، كما غنى عنه وعن ملكه الراحل الحسن الثاني ما يقارب 10 أغانٍ ترددت وقتها في المغرب وفي الدول العربية، مثل: "الماء والخضرة والوجه الحسن" و"ليالي العيد"، و"أقبل الحسن" و"ناداني الحب"، كما غنى باللهجة الدارجة المغربية أيضاً، مثل أغنية "لا تسألني على شبغيتك".
المتمردون
رغم العلاقة الخاصة التي ربطت بين عبد الحليم حافظ والملك الحسن، يذكر طبيبه الخاص الدكتور هشام عيسى حادثة جرت في إحدى زيارات حليم عام 1971، جاءت في كتاب "حليم، أسرار وحكايات مع حكام العرب"؛ توجه حليم لدار الإذاعة والتلفزيون بالمملكة المغربية لتسجيل أغنية جديدة هدية للملك. كان الملك الحسن يحتفل بعيد ميلاده الثالث والأربعين، وأذاع الراديو بياناً مقتضباً بأن الملك الحسن قد قُتل وجيش الشعب استولى على السلطة، واستطاع الانقلابيون الاستيلاء على الإذاعة في ظل وجود حليم، ليقتحم جنود الانقلاب الإذاعة ويسيطروا عليها. وتقدم أحد العسكريين إلى حليم ومعه ورقة كتب فيها بيان الانقلاب، وقال لحليم تحت تهديد السلاح: الحسن قُتل وعليك أن تقوم بإلقاء هذا البيان على الأمة المغربية، ورفض حليم بشدة قائلاً: "أنا فنان لا أعمل بالسياسة وأكره أن أنخرط فيها"، وأطلقوا عليه رصاصة أخطأته، وبقى حليم سجيناً في الإذاعة حتى اقتحم الإذاعة مجموعة من جنود الملك وحملوه إلى غرفة آمنة حتى أعادوه إلى الفندق وتم إنقاذه من الموت المحقق.
عبد الحليم وبن بيلا
وعن مدى محبة واحترام الرئيس الجزائري بن بيلا للعندليب، يحضرنا موقف يؤكد ذلك، فقد كان بين بيلا في مطار الجزائر في استقبال شي جيفارا، وإذا بجلبة ورواح حوله، وتناهى إلى علمه أن طائرة عبد الحليم والوفد المرافق له قد حطت بالمطار، وأن الجميع يتأهب لرؤيته، فما كان منه إلا أن اصطحب جيفارا وتوجه بنفسه لاستقبال حليم عند الطائرة. وقد أمر في إحدى المرات أن يذهب حليم إلى حفلاته في الجزائر بسيارته الخاصة المصحوبة بموتوسيكلات الحراسة، بسبب الزحام الشديد، وتكالب المعجبين عليه.
ارتبط عبدالحليم حافظ بكثير من علاقات الود والصداقة مع عدد كبير من الحكام العرب، وقد سعت الكاتبة الصحافية سمية عبد المنعم من خلال كتابها "حليم... أسرار وحكايات مع حكام العرب"، إلى توثيق تلك العلاقات
وقد ربطت علاقة صداقة قوية بين عبد الحليم حافظ وبن بيلا، الذي كان أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال، وتعود أصول صداقتهما إلى فترة الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي في الجزائر بعد الاستقلال، حيث كان عبد الحليم حافظ يدعم الثورة الجزائرية من خلال تقديم أغانٍ تحفيزية.
ومن جهة أخرى، كان بن بيلا يشيد بموهبة عبد الحليم ودوره كفنان يؤثر في قلوب الناس، واستمرت صداقتهما بعد الاستقلال.
معمر القذافي، توترات بلا مبرر
على الرغم من زيارات حليم للعديد من الدول العربية، إلا أنه لا توجد معلومات موثقة تشير إلى لقاءات مباشرة بينه وبين معمر القذافي، وهو ما يشير إلى أن العلاقة بينهما لم تكن وثيقة أو لم تشهد تفاعلات علنية معروفة.
في فترة حكمه اتخذ معمر القذافي قراراً بمنع بث أغاني عبد الحليم حافظ، عبر وسائل الإعلام الليبية، وقد أدى قرار القذافي بمنع بث أغاني عبد الحليم حافظ لحرمان الجمهور الليبي من الاستماع إلى أعماله عبر القنوات الرسمية. ورغم ذلك، استمر العديد من الليبيين في الاستماع إلى أغانيه بوسائلهم الخاصة، مما يعكس الشعبية الكبيرة التي كان يتمتع بها عبد الحليم في ليبيا.
ولا يخفى ما فعله القذافي عندما أصدر أوامره بالحصول على قصيدة "الهرم الرابع" التي كتب كلماتها نزار قباني، وكان يلحنها عبد الوهاب لعبد الحليم حافظ رثاءً لجمال عبد الناصر، وغناها المطرب الليبي محمد حسن. وقد حدث موقف القذافي هذا عقب إعلان حليم في لقاء تليفزيوني عن نيته غناء القصيدة.
مشاكل وأزمات بسبب علاقاته ونفوذه
تعرض حليم لمشكلات وأزمات بسبب نفوذه الفني والجماهيري فقد حدثت له مواقف وأزمات عديدة كاد بعضها أن يودي بحياته واغتياله في بعض المرات.
قبل إحياء عبد الحليم حفلاً في العاصمة اللبنانية بيروت، طلب منه المنظم عدم أداء الأغاني الوطنية وفق تعليمات الجهات الأمنية، لكنه لم يستجب واندمج مع الجمهور واستمر عبد الحليم في الغناء متحمساً، وقبل أن ينهي وصلته الثانية أطلق أحد الحضور رصاصة نحوه، لكنها أخطأته وأصابت أحد أفراد الشرطة الذي تصادف وجوده بجانب المسرح.
ارتبط عبدالحليم حافظ بكثير من علاقات الود والصداقة مع عدد كبير من الحكام العرب، وقد سعت الكاتبة الصحافية سمية عبد المنعم من خلال كتابها "حليم... أسرار وحكايات مع حكام العرب"، إلى توثيق تلك العلاقات، خاصة وأن عبد الحليم حافظ، برغم مرور ما يقرب من نصف القرن على رحيله (1977) ما زال معشوق الجماهير العربية، وما زالت حياته الشخصية ومسيرته الفنية مصدر إلهام لكثير من المؤرخين والصحافيين الذين قدموا عبر كل هذه السنوات العديد من الكتب التي تحاول الإحاطة بزوايا التجربة الثرية والعميقة لعبد الحليم حافظ الإنسان والفنان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ghina Hashem -
منذ 13 ساعةالحب حرام بس اعلامهم يلي ماجابت للبلد الا الدمار معليش يرفعوها نحنى محاربون في الشرق الاوسط كافة
ذوالفقار عباس -
منذ يوما
Hossam Sami -
منذ يومصعود "أحزاب اليمين" نتيجة طبيعية جداً لرفض البعض; وعددهم ليس بالقليل أبداً. لفكرة الإندماج بل...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع و عظيم ..
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ أسبوعحلو الAudio
شكرا لالكن