شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
قصص المايسترو عبد الحليم حافظ... قيادة فنية مُبدعة تجاوزت الغناء

قصص المايسترو عبد الحليم حافظ... قيادة فنية مُبدعة تجاوزت الغناء

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الاثنين 11 مارس 201912:52 م

إضافة عبد الحليم حافظ للغناء العربي كانت في التعبير، فقد كان يغنّي وكأنه يمثّل، يقول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب.

المدرسة التعبيريّة في الغناء العربي هي السائدة منذ النصف الثاني من القرن العشرين، ويرى الكثيرون أن أفضل ما قدّمه عبد الحليم للغناء العربي، منذ احترافه الغناء في بداية الخمسينيات، هو فتحه الباب للأصوات المرهفة والحسّاسة، حتى ولو لم تكن قوية، بشرط أن تستطيع التعبير، وبسببه ظهر عشرات المغنين والمغنيات ممن لا يملكون صوتاً تطريبيّاً قوياً وأصبح لهم وزن كبير.

حورب عبد الحليم في البداية لأنه لم يغنّ بأساليب سابقيه المُحافظة، ولكنه نجح في فرض أسلوبه المتطوّر، حتى أنه تجرّأ وسخر من الغناء القديم في أغنيته "يا سيدي أمرك" التي غنّاها في فيلم "ليالي الحب" عام 1955.

ما سبق حول تطوير عبد الحليم للأداء الغنائي معلوم ويتردّد كثيراً، ولكن ما لا تركز عليه الكتابات الفنيّة، هو دور عبد الحليم في تجديد الموسيقى نفسها، لا الأداء الغنائي فقط، فقيادته للفرقة الموسيقيّة المصاحبة له في أغانيه لم تكن اعتباطاً أو عملاً تمثيلياً، بل كانت من تجليات جهوده الموسيقيّة، رغم أنه لم يكن ملحناً أو مؤلفاً موسيقياً...

فماذا قدّم عبد الحليم للموسيقى؟ وكيف قدّمه؟ وما هي أدواته للوصول لذلك؟

حورب عبد الحليم في البداية لأنه لم يغنّ بأساليب سابقيه المُحافظة، ولكنه نجح في فرض أسلوبه المتطوّر، حتى أنه تجرّأ وسخر من الغناء القديم في أغنيته "يا سيدي أمرك" التي غنّاها في فيلم "ليالي الحب" عام 1955.
في منتصف السبعينيات، وبعد طغيان الآلات الإلكترونية التي كان عبد الحليم سبّاقاً إليها، طرأت في ذهنه فكرة إعادة توزيع أغانيه القديمة، التي قدّمها في بداياته خلال فترة الخمسينيات، ومنها "أهواك، توبة، في يوم من الأيام، يا قلبي خبي، في يوم في شهر في سنة...".

ماذا قدّم عبد الحليم للموسيقى؟

الإسهام الموسيقي لعبد الحليم، كان بالتأكيد عبر أغانيه التي صنعها له ملحنون عمالقة، على رأسهم محمد عبد الوهاب، ورفيقي دربه كمال الطويل ومحمد الموجي، ثم صديقه بليغ حمدي، وغيرهم. فالمنجزات الموسيقيّة التي قدّمتها الأسماء المذكورة من خلال صوته كانت بالتأكيد من إنتاجهم، ولكنه كان شريكاً في هذا الإنتاج بأمور تتجاوز الأداء.

ونستطيع تتبع إسهاماته الموسيقيّة من خلال مسارين أساسيين، يحويان بعض الدروب الفرعيّة، أولهما: التدخّل في صناعة اللحن نفسه، باقتراح إضافة أو حذف أو تعديل، ثانيهما: التدخّل في التوزيع الموسيقي بإدخاله آلات موسيقيّة جديدة، كان يبحث عنها ويشتريها من جيبه، خصيصاً من أجل أغنية جديدة سيقدّمها، أو من أجل إعادة توزيع أغانيه القديمة.

مع الألحان: الفن أولاً ولو على حساب الأصدقاء

شاع عن عبد الحليم أنه كان كثير التعديل ولا يقبل الألحان المقدّمة له بسهولة...

نلاحظ ذلك بوضوح في هذا الفيديو، حيث بروفات قصيدة "قارئة الفنجان"، في منزله، مع وجود ملحّن الأغنية الموسيقار محمد الموجي كما تُظهِر الكاميرا.

ويوجّه عبد الحليم إلى الفرقة أكثر من ملاحظة موسيقيّة، ويطلب تدوينها في النوتة الموسيقيّة، لكي تؤدّى بها بعد تعديلها، وذلك – بحسب الفيديو- في مذهب الأغنية (الافتتاح الغنائي)، وفي مقطع "بصّرت ونجّمت كثيراً.."، وفي مقطع "بحياتك يا ولدي امرأة...".

وحكى الموسيقار محمد الموجي أيضاً أنه قدّم له أكثر من مقدّمة موسيقيّة للأغنية، فاختار عبد الحليم أن يمزج بينهم، فخرجت لنا المقدّمة المعروفة للأغنية.

حدث ذلك أيضاً في قصيدة "لا تكذبي"، التي لحّنها محمد عبد الوهاب وغنّاها، وغنتها نجاة، ثم غناها عبد الحليم، حيث نلمس تغييراً واضحاً في لحن ختام القصيدة حين غناها عبد الحليم، عن نفس الختام حين غناه عبد الوهاب وغنته نجاة. أضاف عبد الحليم نهاية انفعاليّة غاضبة، فيها تصاعد صوتي يصل إلى مرحلة متقدّمة من الجواب (طبقات الصوت المرتفعة). بينما كان الختام مع عبد الوهاب ومع نجاة به شيء من الإحباط والانكسار، حيث بدا الأداء متناقصاً متخافضاً، حتى الوصول إلى أقلّ قرار (طبقات الصوت المنخفضة). من المقاطع الصوتية التالية، نلاحظ الفارق في "القفلة" بين عبد الحليم:

ونجاة
وعبدالوهاب ذاته، ملحّن الأغنية:
أما الموسيقار كمال الطويل، صديق عبد الحليم المقرّب ورفيق مشواره الفني، فقد غضب منه وانقطعت صلته الفنيّة به في منتصف الستينيات، لكثرة تدخّلاته في الألحان، وتوجيه ملاحظاته للفرقة الموسيقيّة أثناء البروفات، رغم وعده لكمال الطويل بأن يكتفي بتوجيه الملاحظات له أو النقاش حول الألحان فيما بينهما، وليس أمام الفرقة الموسيقيّة.

لم يفِ عبد الحليم بوعده، فقرّر كمال ألا يلحن له منذ منتصف الستينيات، وذلك أثناء تلحين أغنية "بلاش عتاب" التي غناها في فيلم "معبودة الجماهير" عام 1967، كما يحكي كمال نفسه في لقاء إذاعي.

أخبار تدخّل عبد الحليم في إنتاج الألحان التي يغنيها شاعت في الوسط الفني وتردّدت كثيراً في وسائل الإعلام، وحاول عبد الحليم التبرير، فقال إنه يعايش الكاتب والملحن والموسيقيين أثناء الإعداد للعمل، باعتبار أن مسؤولية اللحن والكلمات والتوزيع أمام الجمهور تقع عليه هو وحده!.. "الناس هتقول غنوة عبد الحليم وحشة أو غنوة عبد الحليم كويسة"، بحسب قوله في حديث للإعلامي طارق حبيب.

وأوضح أنه قد يجد جملة لحنية لا يريدها فيطلب من الملحن تغييرها، وأحياناً يجد خطأً في اللحن فينبّه الملحّن إلى تغييره باعتبار أنه دارس للموسيقى، وقد يدرك شيئاً يجهله الملحن فينبّه إليه بهدف الوصول للكمال، حسب قوله.

الآلات الحديثة: تجديد حتى آخر جنيه في الجيب وآخر نفس في الحياة

في زمن كانت مهمّة توزيع اللحن على الآلات الموسيقيّة تُنجَز بالشراكة بين الملحن وقائد الفرقة الموسيقيّة، ولا يتمّ اللجوء إلى موزّع إلا في ظروف ضيّقة جداً، كان عبد الحليم يتدخّل بقوّة في هذا التوزيع، فقد كان شغوفاً بالآلات الغربيّة الحديثة، يبحث عنها ويشتريها خصيصاً من أجل لحن أغنية معينة يحضّر لها، حسبما ما ذكر كثيرون من معاصريه ومشاركيه في صناعة أغانيه.

ويحكي مجدي الحسيني عازف الأورج في الفرقة الماسيّة التي صحبته في كلّ أغانيه، أنه كان مسافراً بصحبة عبد الحليم وآخرين إلى باريس، فأخبر عبد الحليم عن إصدار حديث من مشتقات الأورج يسمى "موج سانتايزر"، موجود بمعرض للموسيقى الإلكترونيّة هناك، وأوضح له أن هذا الإصدار يقدّم أصواتاً لم تعهدها الأذن العربية مطلقاً، لأنه مدعّم بخاصية تجعل للموسيقى تموجات وترددات بعد العزف. 

ذهب عبد الحليم وشاهد الأورج فأعجب به جداً، ووجدها فرصة لإدخاله في أغنيته التي يحضّر لها، والتي كانت "نبتدي منين الحكاية"، فاشترى الآلة.

ويوضح الحسيني في حوار تلفزيوني، أن سعر "موج سانتايزر" كان 24 ألف دولار، وهو مبلغ كان يشتري سيارتين من ماركة مرسيدس في ذلك الوقت عام 1975، ولم تكن النقود التي في جيب عبد الحليم تكفي هذا المبلغ، فاضطرّ عبد الحليم لبيع ساعة يده وكانت "سينييه" باهظة الثمن، ليجمع المبلغ اللازم لشراء الآلة، التي أحدثت دوياً بأصواتها الجديدة في المقدّمة الموسيقيّة لـ"نبتدي منين الحكاية" التي لحّنها محمد عبد الوهاب.

وفي قصيدة "رسالة من تحت الماء" عام 1973، أدخل عبد الحليم آلتين جديدتين لأوّل مرّة وقتها، وهما "الكمان الكهربائي"، و"الأكورديون أورج". و"الأكورديون أورج" هو إصدار من آلة الأكورديون ولكنه متصل بمعالج للصوت، يمكنه الأداء كأكورديون تقليدي إذا ما تمّ التلاعب بـ"المنفاخ" الخاص به، ولكنه يصدر أصواتاً مختلفة تماماً إذا ما أغلق المنفاخ واعتمد على لوحة مفاتيحه فقط.

حتى مماته كان عبد الحليم يشتري أحدث الآلات للعازفين، وذكر هاني مهنى عازف الأورج بالفرقة الماسيّة، أن الطائرة التي نقلت جثمانه من لندن حين توفي في 30 مارس 1977، كانت تقلّ أيضاً صندوقاً به أورج كان العندليب قد اشتراه من أجل أغنيته التي كان يستعدّ لأدائها ولم يسعفه العمر في تقديمها "من غير ليه". 

نفس الأمر حكاه عازف الجيتار بالفرقة محمد الطوبجي عن جيتار حديث، وجهاز ملحق به يخرج صوته منه بشكل ممتد، كان عبد الحليم قد اشتراهما له.

كان عبد الحليم يدعم الفرقة الماسيّة بتلك الآلات، ولكن بشرط ألا تستخدم مع أي مطرب آخر ممن تصاحبهم الفرقة إلا بإذنه، حتى أن وردة الجزائرية اتصلت به لتستأذنه في أن تستخدم الفرقة الأكورديون أورج معها في أغنية جديدة لها، حسبما ذكر محمد الطوبجي.

بالطبع ساهمت تلك الآلات في خلق أصوات، وأوحت بمشاعر عديدة للمستمع، فمثلا ساهم السانتايزر في إحداث حالة توحي بالسحر والشعوذة في مقدمة قصيدة "قارئة الفنجان"، التي تحكي عن عرّافة تتنبأ بالغيب عن طريق الفنجان... وكان ذلك باجتهاد من الحسيني وموافقة عبد الحليم، بعيداً عن ملحّن الأغنية، حسبما حكى الحسيني. كذلك ساهم "الأكورديون أورج" في المقطع الموسيقي الثالث الذي يسبق كوبليه "الموج الأزرق في عينيك" من قصيدة "رسالة من تحت الماء"، في إضفاء غموض وترسيخ شعور أن صوت الحبيبة قادم من أعماق البحر كما تقول الأغنية.

وأعطت آلة HAWAIIAN GUITAR التي أدخلها عبد الحليم لأول مرة في قصيدة "حبيبها"، إحساساً كبيراً بالألم، حين وُظّفت في الموسيقى التي تسبق الكوبليه الذي يبدأ بـ" وسرت وحدي شريداً محطم الخطوات..."، وهي آلة وسط ما بين القانون والجيتار، ولصوتها امتداد نغمي ممدود ممطوط.

التوزيع الجديد: عبد الحليم يغنّي مع فرقة جاز

في منتصف السبعينيات، وبعد طغيان الآلات الإلكترونية التي كان عبد الحليم سبّاقاً إليها، طرأت في ذهنه فكرة إعادة توزيع أغانيه القديمة، التي قدّمها في بداياته خلال فترة الخمسينيات، ومنها "أهواك، توبة، في يوم من الأيام، يا قلبي خبي، في يوم في شهر في سنة...".

وزّع تلك الأغاني مع فرقة موسيقيّة تقليديّة ولكنه دعمها بآلات إلكترونيّة حديثة، لتقديمها في حفلاته الكبرى، خاصّة حفلة عيد شمّ النسيم، فكان يقسم حفلاته إلى جزأين، في أحدهما يؤدّي أغنية جديدة طويلة، وفي الثاني يؤدّي عدداً من الأغاني القديمة القصيرة بالتوزيع الجديد، كما في هذه النسخة من "أهواك":

ولكن التطلّع إلى التحديث وصل به إلى إلغاء الفرقة الموسيقيّة التقليدية كليّة، وأداء تلك الأغاني مع فرقة جاز، دون مصاحبة أي آلات شرقيّة أو كلاسيكيّة، كما في هذه النسخة من أغنية "توبة"، حين أداها في حفل بنادي الجزيرة عام 1976:

ويحكي الموسيقار هاني شنودة، أن نجاح فرق الجاز في مصر خلال السبعينات، جذب عبد الحليم ليشاهدها ويحضر حفلاتها، ومنها فرقة "بي تي شا" التي كان يعزف بها شنودة على الأورج. بعدها دعاه عبد الحليم لزيارته في منزله، فوجد هناك مفاجأة له، وهي إصدار جديد من الأورج يسمى "super strings" لم يكن قد استُخدم وقتها في مصر، وكان شنودة يقرأ في المجلات المتخصّصة أن "super strings" صدر حديثاً، لكنه لم يكن قد شاهده، إلا بعد أن اشتراه عبد الحليم من لندن خصيصاً له.

شنودة يوضح أن عبد الحليم كوّن من خلاله فرقة جاز صغيرة، تحتوي على "super strings" وأقام لها معسكراً مغلقاً في بيته، للتدريب على أداء بعض أغانيه القديمة، -منها "توبة" التي عرضناها أعلاه- ولأجل إرضاء أحمد فؤاد حسن، اختار بعض أفراد هذا الفريق الصغير من الفرقة الماسية، كعمر خورشيد عازف الجيتار، وهاني مهنى عازف الأورج.

الفرقة الماسيّة: انصياع لقيادة "الزميل الوفي"

لم يكن عبد الحليم ليتمكّن من التدخّل في كلّ ما سبق، إلا بتعاون من الملحنين كما أوضحنا، وبدعم من الفرقة الماسيّة، التي كان قائدها أحمد فؤاد حسن يتخلّى طواعية عن قيادة الفرقة له، سواء في البروفات أو في أثناء الحفلات، ويكتفي بالعزف على القانون.

ولم تكن الفرقة الماسيّة تسمح لأي مطرب آخر أن يقودها سواه، وعن ذلك يقول أحمد فؤاد حسن إنه سمح لعبد الحليم بذلك لأنه كان دارساً للموسيقى.

فعلياً، درس عبد العبد الحليم في معهد الموسيقى العربية "قسم أصوات"، ثم درس وتخرّج من "قسم الآلات" بالمعهد العالي للفنون المسرحيّة، وكان يعزف على آلة الأبوا، أي أنه كان يفهم في صناعة الموسيقى وأدائها.

ولكن الحقيقة وراء قيادة عبد الحليم للفرقة الماسيّة تتجاوز ما ذكره أحمد فؤاد حسن، ففي الحوار الإذاعي الذي ذكرناه أعلاه لكمال الطويل، قال إن عبد الحليم كانت بداخله زعامة ولا يريد لشخص أن ينافسه فيها، معتبراً أن فؤاد حسن كان يتمنى أن يقود الفرقة من خلفه ولكن عبد الحليم لم يكن يقبل بذلك، لأنه يريد السيطرة على مقاليد الأمور كافة.

ربما يكون ما قاله كمال صحيحاً، ولكنها زعامة تخدم مشاعره وأحاسيسه الفنيّة التي يريد أن يوصلها للجمهور، كما يحكي العندليب نفسه خلال هذا الفيديو:

وكانت سيطرة عبد الحليم على الفرقة الماسيّة نابعة عن الحب والمشاعر التي يكنّها له أعضاء الفريق القدامى ومؤسّسيه، وقد كانوا زملاءه بمعهد الموسيقى، بما فيهم فؤاد نفسه، لوفائه لهم.

ويوضّح فؤاد أن فريقهم الموسيقي تكوّن وهم شباب صغار يدرسون بالمعهد العالي للموسيقى في أواخر الأربعينيات، وبعد سنوات بسيطة وحين استطاع عبد الحليم توقيع عقد أول أسطوانة، اشترط على الشركة المنتجة ألا يغني إلا بصحبة فريقه، الذي لم يكن قد سمي حينها بـ"الماسيّة". ونفّذ ما اشترطه على الشركة، رغم اعتراضها على الفرقة، كون أعضاؤها صغاراً، والأفضل الاعتماد على إحدى الفرق الكبرى الموجودة في هذا الوقت، ضماناً للنجاح.

ويعلّق أحمد فؤاد حسن على الواقعة، واصفاً عبد الحليم قائلاً: "كان الوفاء ديدنه". وكان عبد الحليم قد عاش مع زملائه (أعضاء فرقته فيما بعد) أيام الفقر والبحث عن أي فرصة للنجاح، ويحكي عبد الحكم عبد الرحمن، عازف الكونترباص بالماسيّة أنهم كانوا يبحثون عن فرح أو أي مناسبة احتفالية من أجل أن يُظهروا مواهبهم، أو من أجل 5 جنيهات!

وفي هذا الإطار تجدر الإشارة إلى أن الفرقة الماسيّة خرجت من رحم فرقة "الأنغام الذهبيّة" التي كانت مملوكة للإذاعة المصريّة، حيث كان أعضاء الماسيّة فيما بعد جزءاً من "الأنغام الذهبيّة"، أثناء وعقب تخرّجهم من المعهد، بمن فيهم عبد الحليم نفسه الذي كان يعزف "أبوا" في الفرقة.

قائد "الأنغام الذهبية" عبد الحميد توفيق ذكي، والمشرف على ركن الأناشيد والأغاني الخفيفة بالإذاعة المصرية، يقول إن عبد الحليم حين اعتُمد كمطرب في الإذاعة، كان يتقاضى راتباً شهرياً يبلغ 25 جنيهاً، وهو مبلغ كبير وقتها، فكان ينفق أغلبه على الفرقة التي لم تكن الميزانية الزهيدة المخصّصة لها من الإذاعة تكفيها. كبرت الماسيّة بعد ذلك وصارت أهمّ فرقة موسيقيّة في مصر والعالم العربي وقتها، وصارت لا تصحب إلا نجوم الصف الأول فقط، ورغم ذلك كان عبد الحليم يستطيع إضافة عناصر ينتقيها إليها، ومنها مجدي الحسيني ومحمد الطوبجي، وهاني شنودة، وغيرهم، ولكلّ واحد منهم قصّة في انضمامه إلى الماسيّة، إلا أن القاسم المشترك فيها أن عبد الحليم هو من طلب من أحمد فؤاد حسن ضمّهم إليها.

وفي المقابل كان عبد الحليم -دون غيره من المطربين الذين تصاحبهم الفرقة الماسيّة- حريصاً على تقديم اسم كل واحد من فريقه قبل البدء في الأغنية، أو على الأقل يقدم عازفي الصولوهات (العزف المنفرد)، فصنع منهم نجوماً يشير لهم الجمهور بالاسم.

الحفلات: ارتجال موسيقي وجمهور يعزف

هذه السيطرة للعندليب على الفرقة، واطمئنانه بأن ظهيره الموسيقي متين وداعم ومطيع، كانت تجعله يفعل ما يحلو له أثناء الحفلات، فبجانب تنفيذ كل التعليمات التي كان ينبه لها على المسرح، في إطار اللحن، كان يمكن لعبد الحليم أن يتفاهم مع الفرقة أو أحد أعضائها على شيء بمجرد النظر، وينعكس ذلك على الأداء.

من الأمثلة على ذلك، نلحظ في الجملة الأخير من المقدّمة الموسيقيّة لأغنية "حاول تفتكرني"، تغيراً طارئاً على الإيقاع، به مداعبة ومراقصة، من خارج اللحن الأساسي، ونلحظ أن ذلك كان بتفاهم بين عبد الحليم وعازف الطبلة كما يظهر الفيديو (عند الدقيقة 10:30):

كذلك دعم البراح الذي خلقه هذا التفاهم، العلاقة بين عبد الحليم والجمهور، والذي كان يستخدمه وكأنه آلة موسيقيّة داعمة للفريق.

نلحظ مثلاً في هذا الفيديو استخدام عبد الحليم لتصفيق الجمهور، لخلق حوار موسيقي بين صولو الناي، وتصفيق الجمهور الداعم للجملة الوتريّة المدعومة إيقاعياً:

وكذلك صنع حواراً مشابهاً في الموسيقى التي تسبق الكوبليه الأخير من "فاتت جنبنا":
وكان عبد الحليم أول من كسر الحاجز بين المطرب والجمهور، فكانت علاقته بالجمهور ليست رسمية كمن سبقه، بل جعل الجمهور وكأنه يسمعه في غرفة النوم، وكأنه يغني لأصدقائه، حسبما يقول الموسيقار محمد عبد الوهاب، فخلق ذلك دفئاً وعلاقة خاصة بينه وبين جمهوره.

نستطيع القول في النهاية، إن عبد الحليم حافظ الموسِيقِي دعم عبد الحليم المغنّي، وإن عبد الحليم الإنسان استثمر كل ملكاته الشخصيّة والفنيّة لصناعة اسمه ومنجزه الفني، فاستمرّ حتى يومنا هذا قائداً لتيار فنّي، كما كان قائداً لأغانيه في صناعتها وأدائها.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image