يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
أواخر آذار/ مارس الفائت، كتبت الزميلة هند الشيخ علي في "رصيف 22"، تخيّلاتها عن تبعات اختفاء الرجال من العالم لمدة شهر. قرأتُ ما كتبَت، فوجدتها أفكاراً رومانسيةً حالمةً لعالم وردي ليست فيه منغّصات الرجال من تحرّش ومضايقات، وما إلى ذلك من الأفعال التي للأسف باتت ملتصقةً بالرجال في الحياة اليوميّة، فتساءلْتُ: ماذا لو حدث العكس، أي اختفت النساء من العالم، هل سنحيا حياةً أفضل؟
للإجابة عن هذا السؤال، استرجعت تجربةً -قريبة نسبياً- حاول فيها الرجال العيش في "عالم بلا نساء". عام 1872، تأسّس داخل مجتمع ريفيّ في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية، نادٍ سرّي "للرجال فقط". لكن دخوله ليس لكل الرجال، بل كان ولا يزال حِكراً على الأثرياء وحدهم، ويُعرف إلى الآن باسم "بوهيميان غروف"، أو "البستان البوهيمي".
يبدو أسهل الآن تخيّل شكل الحياة في هذا المكان من اسمه فحسب، فلا نندهش إن عرفنا أنّ "مشروع مانهاتن" عام 1942، والذي أدّى في النهاية إلى تطوير القنبلة الذرية، خرج من داخل أروقة هذا النادي الغامض، في دليل إضافي على صحة توقّع الزميلة في مقالها المتخيّل عن اختفاء الرجال من العالم بأنّ "عالماً بلا رجال يعني انتهاء الحروب".
إذا اختفت المرأة، الخسارة فادحة عزيزي الرجل. كم عالِم دين سيخسر وظيفته وبريق فتاواه، وظهوره على التلفزيون؟ وعن أي شيء سيتحدّث بدلاً من حجاب المرأة وحشمتها وعفّتها وفرائضها وعملها وميراثها وطاعتها لزوجها أو أبيها؟
إذا اختفت المرأة، الخسارة فادحة عزيزي الرجل. كم عالِم دين سيخسر وظيفته وبريق فتاواه، وظهوره على التلفزيون؟ وعن أي شيء سيتحدّث بدلاً من حجاب المرأة وحشمتها وعفّتها وفرائضها وعملها وميراثها وطاعتها لزوجها أو أبيها؟
ماذا يفعل الرجال في عالم بلا مرأة؟
عام 1989، نشر الكاتب الصحافي فيليب ويس، مقالاً في مجلة "spy"، بعدما دخل نادي الرجال السرّي متسلّلاً، فرأى ما يشيب له الولدان. الأعضاء يُفرطون في تناول الكحول، ويتبولون في الهواء الطلق.
يا إلهي، أهذا كل ما يريده الرجال إذا ما اختفت المرأة من عالمهم؟! إفراط في تناول الكحول، وتبوّل في الهواء الطلق؟
قلت لنفسي: لماذا أشغل بالي بالبحث عن تصوّر لعالم كامل بلا امرأة؟ ثم فكّرت بهدوء، وتيقّنت من أن العالم لا يعنيني بقدر ما تشغلني الحياة في واقعنا العربي، فالغرب حتماً سيُوجِد البديل، ربما بأن يزيد اختراع روبوتات نسائية على غرار الموجودة بالفعل، ويبيعها لأثرياء العرب، والفقراء إما أن يسرقوها، أو يقلدوها بدرجات أردأ وأقل كفاءةً، ويحيا الباقون محاولين التأقلم في شوارع تُزكَم فيها الأنوف برائحة البول والمني المنتشرة في كل مكان.
التأقلم في عالمنا العربي ليس خياراً، وليس جديداً. كم مرّت علينا السنون ونحن نتخيّل أننا بشر، وأنَّ ما يُصيبنا من محَنٍ وإحَنٍ (غضب وعداوة)، ليس سوى "ابتلاءات ربّانية"، والظفر بالأفضل آتٍ في "الدار الآخرة" لا محالة. فهناك سنأكل ما حُرِمنا منه، والنساء اللواتي حلمنا بهنّ في الدنيا سنلقى أفضل منهنّ على هيئة حور عين كأنهنّ اللؤلؤ المكنون.
سنتأقلم -نحن الرجال- على غياب المرأة في عالمنا العربي، لكننا سنخسر كثيراً. سنخسر ادّعاءاتنا في الأخلاق، وستعمّ البذاءات البلاد، بعدما كنّا نتحاشى التلفّظ بكل ما هو بذيء في حضرة النساء. لكن هناك تغيّراً طفيفاً قد يحدث، إذ إنّنا لن نسبّ بعضنا بعضاً بذِكر الأعضاء الجنسية للأمهات، وسنأخذ وقتاً طويلاً كي نعتاد سبّ الآخر بعضو أبيه، والعجيب أنّ هذا السباب قد يفقد بريقه سريعاً، لنتخيّل مثلاً شخصاً ما في خضمّ عراك، يقول: "عضو أبيك" بدلاً من "... أمك" الشائعة راهناً والمحبّبة للكثير من الرجال. أكاد أجزم أنه على الفور سيُجيب: "ما له؟". وقتها قد يلعن الشخص اللحظة التي سبّه فيها.
الخسارة فادحة عزيزي الرجل. لنا أن نتخيّل كم عالِم دين سيخسر وظيفته وبريق فتاواه، وظهوره على التلفزيون، بمجرّد اختفاء المرأة؟ وعن أي شيء سيتحدث بعيداً عن حجاب المرأة وحشمتها وعفّتها وفرائضها وعملها وميراثها وطاعتها لزوجها أو أبيها؟ سيخسر هؤلاء حتماً حال غياب هذا الكائن الذي يقوم على جسده أكثر من نصف التراث الفقهي تقريباً؟!
الآن، في عالمنا المُتخيّل بلا امرأة، لن نرى مثل هذا العراك الدامي على المساواة في الميراث، بل لن يتحدّث الرجال في الميراث أصلاً، فالعيش في زمنٍ مثل هذا، حيث يُحرَم الرجال من التفكير في ما بعد الموت، لأنّ حُجّة تأمين مستقبل "الأبناء" التي بُنِي عليها مبدأ حرمان النساء من ميراثهنّ لن تعود ذات جدوى.
سنتأقلم -نحن الرجال- على غياب المرأة في عالمنا العربي، لكننا سنخسر كثيراً. سنخسر ادّعاءاتنا في الأخلاق، وستعمّ البذاءات البلاد، بعدما كنّا نتحاشى التلفّظ بكل ما هو بذيء في حضرة النساء.
لا، لن تنتهي الخسائر عند هذا الحد، فحتّى قاموس الرجال سيتغيّر فيه الكثير من معاني الألفاظ، فلن يعود معنى "العرض والشرف" مرتبطاً بالمرأة التي تعيش في كنفِ هذا الرجل أو ذاك، بل ربما تكون لـ"الشرف" معانٍ اصطلاحية أخرى. شخصياً، آمل أن نُدرج فيها أموراً تشمل احترام الضعيف، وتقدير الأجدر والأكفأ وليس الأقوى والأقرب.
ذلك القاموس الذكوري، ربما تختفي منه المسبّات التحقيرية التي يُلصقها كثيرون بالرجال المهذبين أو الخجولين، بما في ذلك تعبير "مِنسون" حيث لا نساء ليتمّ التشبيه بهنّ، ولن تعود هناك "تهمة" جنائية يُعاقب عليها جنائياً ومجتمعياً تحت مسمّى "التشبّه بالنساء".
وفي غياب النساء، ستكون العلاقات الجنسية والعاطفية المتاحة على الأرجح هي العلاقات المثلية بين الرجال. وعليه، خوفاً من التحرّش الجنسي والاعتداءات، قد يخشى الرجال بغالبيتهم على مؤخِّراتهم في الأماكن العامة والطرقات… وليس مستبعداً أن يُلزم الأهل أبناءهم بالعودة المبكرة إلى المنزل.
ذلك التغيّر ذاته في قاموس معاني "الشرف"، وعدم إلصاقه بـ"عفّة المرأة" المختفية، سيُلحق بالكثير من الرجال خسائر عديدةً، فلن يحلف الفنان أحمد زاهر مُجدداً بـ"عِرض أخته"، والكثير من الفنّانين المصنّفين كوميديّين سيسقط في أياديهم، فالنِكات التي كانوا معتمدين فيها على "تيمة" غباء المرأة ستفقد بريقها، و"الإفّيهات" الجنسيّة التي تتباهى بالخيانة و"الفحولة"، جميعها لن تعود صالحةً للاستخدام.
في غياب النساء، ستكون العلاقات الجنسية والعاطفية المتاحة على الأرجح هي العلاقات المثلية بين الرجال. وعليه، خوفاً من التحرّش الجنسي والاعتداءات، قد يخشى الرجال بغالبيتهم على مؤخِّراتهم في الأماكن العامة والطرقات… وليس مستبعداً أن يُلزم الأهل أبناءهم بالعودة المبكرة إلى المنزل.
وهناك مِهن ستتراجع كثيراً حتّى أنّ بعضها قد يغلق أبوابه، مثل محال العطور وملابس النساء، المحجّبات وغير المحجّبات، لكن أخطر شخص قد يُعاني من غياب المرأة هو "حارس العقار"، الذي بكل تأكيد سيبيت الليالي حائراً: أين الكائن ذو الجسد الليِّن الذي كنتُ أرمقه داخلاً وخارجاً، وأنغّص عيشته بسؤال: ما الذي أتى بكِ متأخرةً؟ ومن هؤلاء الصاعدون معكِ إلى شقّتكِ؟
ربّما يندهش البعض من كل ما ذكرت في مقالي هذا، أو حتّى يرى فيه تحاملاً على الرجال، برغم السخرية الواضحة في ثنايا الكلمات، وهنا أستدعي الحِكمة المنتشرة حديثاً: "البيت من غير ستّ، زيّ الكمبيوتر من غير إنترنت"، ما بالك بعالم كامل دون "ستّ"... كيف قد يكون حاله؟
وإذا جارينا تلك الحكمة وعددنا المرأة معادلاً لـ"الإنترنت"، فهو أمرٌ محمود، إذ إنّ الإنترنت هو عالم المعرفة الأهم في ربع القرن الأخير، وبتلك المعادلة، يعترف الرجال ضمنيّاً بأنّ المرأة هي السبيل الأبرز إلى المعرفة والاتصال بالآخر، وعنصر الدعم الأكثر إفادةً من ضياع الوقت بالتفكير في المعاناة الاقتصادية والسياسية الواقعة على أكتافنا جميعاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 8 ساعاتزاوية الموضوع لطيفة وتستحق التفكير إلا أنك حجبت عن المرأة أدوارا مهمة تلعبها في العائلة والمجتمع...
Bosaina Sharba -
منذ 6 أيامحلو الAudio
شكرا لالكن
رومان حداد -
منذ أسبوعالتحليل عميق، رغم بساطته، شفاف كروح وممتلء كعقل، سأشاهد الفيلم ولكن ما أخشاه أن يكون التحليل أعمق...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعهذا ليس طبيعيا، وهو ينشئ في الحالات القصوى من اضطرابات ومشاكل نفسية. الإنسان العاقل عندما يواجه...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعAnyone that studies human psychology and biological functioning of the body and it's interactions...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوع'لا يسخر قوم من قوم', لا أذكر هذه العنصرية عندما كنت في المدرسة في الجنوب.
للأسف أن المعتقد...