شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
ثلاثة أيّام في الجنّة

ثلاثة أيّام في الجنّة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحرية

الجمعة 7 مارس 202503:02 م

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

ما أمرّ به الآن، يذكّرني بـ"رقيق الأطلسي"، تلك الأمواج البشرية التي كانت تعبر المحيط من غرب إفريقيا إلى سواحل البرتغال، في القرن السادس عشر. الأعداد الهائلة سوّلت لي رسم هذا المشهد القديم، لكن هذه الجموع تسير مبتهجةً لتكون أقرب إلى السلاسل البشرية التي كانت تندفع بفرح من بوابات "كامب نو"، بعد نصر كاتالوني ساحق.

سرت طويلاً معهم. لم أعرف أحداً منهم ولم يعرفني أحد. وجوه كثيرة وغريبة تسير إلى المجهول في طريق وحيد وطويل.

لم أعرف كم مضى من الوقت ونحن نمشي دون توقف. الطريق واضح أمامنا برغم الازدحام الشديد. لكن عقلي يتوه في منطقة يعمّها الضباب الكثيف. لم أستطع معها الوقوف على صورة واضحة للحلقات السابقة من هذا المسلسل الطويل الذي أعيشه الآن.

تذكرت بصعوبة كيف استلقيت بمساعدة بضع أذرع على سرير ترابيّ منخفض. وكما تهطل الأمطار التي أحبّ، تذكرت كيف كان التراب يرسم خرائط بنيةً أمام عينيّ. اقتربت منهما حتى غمرتهما. لم أخَف، ولم يكن هذا التراب ثقيلاً ومزعجاً. تذكرت وقتها عبارةً كان يرددها شيخي في الكُتَّاب. كان يقول إنّ العمل الصالح يؤنس وحشة القبر. كنت على يقين بأنني لم أسعَ يوماً إلى أذية أحد. حتى السجائر، كنت أدخّنها خارج البيت لكيلا يستنشق دخانها أحد غيري. تذكرت أيضاً كيف كنت أمشي بحذر حتى لا أحرم نملةً من حقها في الحياة، وكنت على استعداد لأوقف سيارتي إذا كانت خنفساء صغيرةً تعبر الطريق. وكم لعنني أصحاب السيارات خلفي عندما كنت أتوقف فجأةً أمامهم! كنت دائماً أردّ بعبارة واحدة على كل من ينصحني بتغيير ملابسي أو تغطية شعري، وأقول بثقة: إن الله الكبير العظيم الرحيم الذي خلق كل شيء، لن يهمه ما ألبسه بقدر ما تهمه علاقتي بالآخرين، وأنا كنت أحبّ الخير للجميع وكم آثرت الآخرين على نفسي.

نمت طويلاً وقتها، وعندما صحوت على أرض بيضاء شاسعة لا حدود لها، كان كل شيء من حولي يتبخر، الأرض والجبال وكل شيء، لأجد نفسي أخيراً في هذا الموكب البشري الذي لا ينقطع.

كنت دائماً أردّ بعبارة واحدة على كل من ينصحني بتغيير ملابسي أو تغطية شعري، وأقول بثقة: إن الله الكبير العظيم الرحيم الذي خلق كل شيء، لن يهمه ما ألبسه بقدر ما تهمه علاقتي بالآخرين، وأنا كنت أحبّ الخير للجميع وكم آثرت الآخرين على نفسي

ما مرّ من الوقت خاضع أيضاً لإرادة عُليا لا نعرف عنها شيئاً. أخيراً تفرّقت الجموع، وانقسمت إلى مجموعات سارت كل منها في اتجاه. وجدت نفسي هائمةً على قدمين تتحركان بثقة إلى وجهة لا أعرفها. لكنني أيضاً لم أكن خائفةً بعد أن دسّت وجوه مرافقيَّ طمأنينتها تحت جلدي، فوجدتني أسير بخفّة وأمضي معهم في طريق آخر لا نعرف له نهايةً. لكن أصوات خرير الماء القريب والكائنات اللطيفة التي كانت تبتسم لنا مرحبةً، جعلتنا نطير على أجنحة الانتظار الجميل.

كلما اقتربنا أكثر اصطبغت الأرض البيضاء بالأخضر، واتّسعت لمزيد من المشاهد والصور. صوت خرير المياه واصل الاقتراب حتى أصبح أنهاراً تنساب أمام عيوننا من شلالات بألوان مختلفة. وإلى الجموع التي دخلت معي إلى هناك، وجدنا آخرين يقيمون على هذه الأرض. نظروا إلينا بترحيب وابتسامات ساحرة، ثم واصلوا رسم المشهد المثالي ببراعة. إنهم يشبهوننا ولا يشبهوننا. رجالهم أكثر وسامةً والنساء أكثر جمالاً. عندما رأيتهم أيقنت أنّ ما كان يصنعه أطباء التجميل عندنا ليس شيئاً يُذكر أمام هذا البهاء المفرط.

هناك أشياء تتدلى من الأشجار، رؤيتها متعة للعين، لكن هل ستكون شهيةً وكافيةً؟


مرّ الوقت ببطء ونحن نكتشف عالمنا الجديد. هنا سنعيش إلى الأبد، وما بعد الأبد، فالأخير مهزوم هنا. انشغلت بتعاقب الأحداث التي كنت جزءاً منها ولم ألاحظ إلا اليوم أنّ الآلام المبرحة التي كانت تصيبني فقط عندما أذهب مشياً إلى الدكان القريب من بيتي، اختفت تماماً. جعلني هذا أتأمل وجهي وجسدي في المرايا التي انتصبت في كل ركن من أرضنا الجديدة. تحسست وجهي وبحثت فيه عن تلك التجاعيد التي كان الزمن ينحتها ببراعة وسرعة شديدتين فلم أجدها. نعم، لقد اختفت مع الآلام والأحزان وكل الثقل الذي كنت أعيش تحت وطأته وحيداً.

لم أبتعد عن مرآة إلا لألتصق بأخرى وأواصل النظر والابتسام لصورتي التي انعكست على سطحها الأملس. ومثل طفل يتباهى بحركاته التي تعلّمها في المدرسة، كنت أرفع قدمي بين الحين والآخر، أو أقفز وأتحرك بفرح طفولي وأنا أستعيد جسد الفتاة العشرينية الشابة.

هكذا مرّ يومي الأوّل هنا. ذهبت بعد أن أعياني التعب إلى أريكة ناعمة حدّ معانقتها والاستلقاء عليها بدلال لأغطّ في نوم عميق استيقظت منه على صوت الأنهار المحيطة بنا، وأنا أتمنى في قرارة نفسي أن تنخفض هذه الأصوات قليلا لأستمرّ في نومي اللذيذ.

نهضت من فراشي الوثير، وجلست على حاشيته وأنا أستعيد أحداث الأيام الماضية أو الساعات الماضية، وربما تكون سنوات، لأنني أعجز حتى الآن عن حسابها أو تفسيرها أو حتى ترتيبها في مخيّلتي.

الفتيات الجميلات في كل مكان، والشبان الوسيمون أيضاً. مشيت ببطء. حاولت التعاطي مع بعضهم أو حتى بعضهنّ، لكن الجميع منشغل إلا عن ابتسامة قد يلقيها أحدهم على عجل، ويعود للانهماك في ما هو فيه، فلا أحصل حتى على وقت لأردّها. أما الأطياف التي كانت تحلّق بخفّة وفرح في الأرجاء، فقد كانت كريمةً معي إلى أبعد حدّ. رحّبت بي بطرائق مختلفة. إحدى هذه الكائنات الجميلة ربتت على شعري، وابتسمت بلطف قبل أن تطير بعيداً، وأخرى قدّمت لي وردةً برائحة لذيذة جعلتني ألتهمها.

مرّ هذا اليوم أيضاً وأنا أشاهد الحسناوات يستأثرن بكل شيء، والغيرة التي لم تعرف طريقاً إلى قلبي يوماً، شعرت بأنها تجتاحني الآن.

مشيت باتجاه الأريكة التي نمت عليها ليلتي الأولى. لكن خطواتي تثاقلت عندما تذكرت صوت الأنهار القريبة، فابتعدت لأعثر على مكان هادئ أنام فيه. لم أقل "لأعثر على مكان جميل ومناسب"، لأنّ كل الأماكن هنا جميلة ومثالية مثل حلم.

الفتيات الجميلات في كل مكان، والشبان الوسيمون أيضاً. مشيت ببطء. حاولت التعاطي مع بعضهم أو حتى بعضهنّ، لكن الجميع منشغل إلا عن ابتسامة قد يلقيها أحدهم على عجل، ويعود للانهماك في ما هو فيه، فلا أحصل حتى على وقت لأردّها

وجدت في طريقي سريراً تتدلى على جوانبه ستائر ناعمة، فقررت أن أقضي عليه ليلتي علّ هذه الستائر تحجب عنّي شيئاً من صوت المياه الصاخب.

في الصباح منعتني أصوات الضحكات القريبة من الاستمرار في النوم. جلست وجلت ببصري في المكان. تذكرت أنني لم آكل شيئاً منذ التهامي الوردة اللذيذة التي قدّمتها لي الأطياف.

نهضت بتكاسلٍ من سريري، ومشيت يجرّني غول الجوع الذي استيقظ فجأةً في أحشائي. كانت الروائح الزكية تملأ المكان. حاولت تخمين الاتجاه إلى هدفي. اقتربت من نهر أبيض اللون حتى وصلت إلى ضفّته لأكتشف أنه نهر من لبن، وأنا لا أحبّ اللبن، فابتعدت وواصلت البحث.

هناك أشياء تتدلى من الأشجار، رؤيتها متعة للعين، لكن هل ستكون شهيةً وكافيةً؟

لا أعرف ولن أغامر. سأبحث عن شيء أعرفه. لمحت من بعيد باقةً من الفتيات الجميلات اللواتي يتحلقن حول ما يشبه النبع الصغير على حاشية نهر يمشي فيه ببطء سائل ذهبي ثقيل. اقتربت أكثر، فداعبت أنفي رائحة العسل. تذكرت فوراً تلك الليالي الطويلة التي كان المغص الشديد يهاجمني فيها فيحول بيني وبين النوم الهانئ، وكيف كانت أمي تجبرني على تناول ملعقة من هذا السائل الذي لم أذكر يوماً أنه هزم المغص اللعين.

ابتعدت بيأس وشعور الجوع ينمو مثل كرة ثلج تهوي من جبل شاهق إلى قاع سحيق. الثلج… هذا النثار الأبيض الشهيّ، لم أرَه هنا، قلت في سرّي.

مرّ هذا اليوم أيضاً وأنا أشاهد الحسناوات يستأثرن بكل شيء، والغيرة التي لم تعرف طريقاً إلى قلبي يوماً، شعرت بأنها تجتاحني الآن.

شربت جرعات قليلةً من ماء عذب لذيذ قبل أن أواصل البحث عمّا يسكت جوعي. لمحت من بعيد بعض الرجال والنساء من أهل المكان. يشبهون الملائكة بحسنهم الخرافي. اقتربت أكثر لكن أحداً لم يلتفت إليّ، وقد انهمكوا في شرب سائل يبدو أنه يجعل مزاجهم خفيفاً يحلق في السماء، مثل ريشة. تناولت منه بضع رشفات، لكنه سائل أيضاً ولن يكون قادراً على إسكات جوعي.

نال منّي التعب فعدت أدراجي إلى فراشي الأثير. ارتميت عليه بتعب شديد. كان الأكل دائماً هاجسي. لا أحتمل الجوع. حتى عندما أسافر لا أعتمد على ما سيقدّم لي في الطائرة، فأملأ حقيبة يدي بأصناف منوعة من الأكل. كيف غابت هذه الفكرة عنّي؟ لماذا لم أفكر في إحضار الأكل معي؟ كم أفتقد حقيبتي الزرقاء الكبيرة التي كانت تتّسع لكل شيء. هي قادرة على حمل أكل يكفيني أسبوعاً، برغم اندراجها تحت قائمة "شنطة يد".

كم أفتقدها! 

ومثل ومضة برق، سطع في ذاكرتي درس عن تاريخ الفراعنة وكيف كانوا يدفنون كل شيء مع موتاهم. لا حاجة لي الآن إلى ما قد يُدفن مع ملك فرعوني من ذهب، فهو يملأ المكان هنا. أحتاج فقط إلى حقيبتي الزرقاء، وحذائي الأبيض الذي كان مريحاً جداً. كنت أستمتع كثيراً وأنا أشتري أحذيتي، وقد أركنها كلها جانباً، ولا أكفّ عن ارتداء أحدها، خاصةً عندما أسافر. وبالمناسبة لم أسافر كثيراً في حياتي السابقة، لكن سفري الأخير هذا لم أعدّ له العدة كما يجب. أحتاج كثيراً إلى حقيبتي وحذائي، وأشتاق إلى خزانتي التي أخذ منّي جمع محتوياتها عمري كله. هذا كله وأكثر يدور في رأسي، ولم أقضِ حتى الآن إلا ثلاثة أيام في الجنّة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image