شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
ماذا لو اختفى الرجال من العالم لمدّة شهر؟

ماذا لو اختفى الرجال من العالم لمدّة شهر؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والنساء

الاثنين 24 مارس 202510:55 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  


ماذا لو اختفى الرجال من العالم لمدّة شهر؟ سؤال طرحته على إحدى زميلات العمل، بينما كنّا نتحدث عن رجالٍ في ميدان السياسة. أضحكتها الفكرة في البداية، لكنها قالت بعد تفكير: "ربما سيكون العالم مكاناً أفضل، أو تنتهي الحروب على أقلّ تقدير". عدنا إلى العمل بعد ذلك، لكن هذه الفكرة الافتراضية لم تغادر مُخيّلتي: ماذا لو اختفى الرجال من العالم لمدّة شهر فعلاً؟

تستيقظ النساء في أحد الصباحات، ليجدن أنّ أزواجهنّ أو أشقاءهنّ أو آباءهنّ قد اختفوا. يبدو هذا المشهد سينمائياً بشكلٍ مُضحكٍ ومخيفٍ في الوقت ذاته، وأقرب إلى ذلك المشهد من فيلم "وحيد في البيت"، عندما يستيقظ "كيفين"، ليجد أنّ عائلته قد اختفت بالكامل. أُصيب بالذعر في البداية، لكنه سرعان ما تأقلم مع الواقع الجديد، مستغلّاً هذه الفرصة في تجربة كل ما كان محظوراً من قبل. غياب العائلة، والحاجة إلى تولّي المسؤولية وحماية نفسه، دفعاه لتعلم أشياء جديدة، وتحدّي مخاوفه، وحتى مواجهة اللصوص وحده، وهزيمتهم! 

قد يكون الأمر مشابهاً في حالة اختفاء الرجال فجأةً من العالم، إذ ثمَّة فرصة لدى النساء لاكتشاف أنفسهنّ وقدراتهنّ بشكلٍ أوضح، وذلك إلى جانب متعة تجربة الأشياء للمرة الأولى، خاصةً التي لم تكن مُتاحةً للعديد منهنّ في زمن الرجال، لاعتباراتٍ اجتماعية أو دينية ربما، أو بدافع حماية أنفسهنّ من المضايقات والتحرش، مثل تحسُّس أشعة الشمس على الشاطئ وارتداء البكيني، والسير في الشوارع حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل دون خوفٍ أو قلق، والضحك بصوتٍ عالٍ في المقاهي، والتدخين، وحتى الرقص!

"أتخيّل أنّ نساء كثيرات سيرتعدن خوفاً عندما يكتشفن أنّ رجالهنّ، أزواجاً أو آباء أو أشقاء أو أبناء، قد اختفوا. أتخيّل صورتهنّ وهنّ يركضن في المنزل بحيرةٍ، يحاولن الاتصال بهم، لكن الخطوط مغلقة"

في البداية، أتخيّل أنّ نساء كثيرات سيرتعدن خوفاً عندما يكتشفن أنّ رجالهنّ، أزواجاً أو آباء أو أشقاء أو أبناء، قد اختفوا. أتخيّل صورتهنّ وهنّ يركضن في المنزل بحيرةٍ، يحاولن الاتصال بهم، لكن الخطوط مغلقة. ينزلن إلى الشوارع، فيجدن أنّ معظم المحال مغلقة، ويقابلن بعضهنّ بوجوهٍ خائفة لا تعرف ما يحصل، فيقررن التوجه إلى مركز الشرطة، ولكنهنّ لا يجدن أيّ شرطي!

يجتمعن مع بعضهنّ، ويحاولن تفسير هذا الاختفاء الغامض، ثم يدركن من خلال تصفّح الإنترنت أنّ المشكلة عالمية: لقد اختفى جميع الرجال هذا اليوم. إحدى الصحف نشرت خبراً بعنوان: "ماذا يحدث؟ أين ذهب الرجال؟"، أشارت فيه الكاتبة إلى أنّها المرة الأولى التي تقوم فيها بنشر خبر دون موافقة رئيس التحرير، لكن رئيس التحرير رجل، والرجال اختفوا، وهذه حالة طارئة.

في المنازل، يبدو الأمر جنونياً. الأطفال يبكون، ويتساءلون: "أين بابا؟". وفي المؤسسات والشركات والوزارات، حضرت قلةٌ من النساء فقط. كان اليوم الأوّل مخيفاً ومربكاً وفوضوياً. بدأت النساء يشكلن مجموعاتٍ ضمن أحيائهنّ للتنسيق في ما يخصّ هذا الأمر الطارئ، وفتحن قنوات تواصل عالمية لمشاركة أفكارهنّ وتوقعاتهنّ مع الأخريات، وبحث الحلول الممكنة.

بعد مضي أيام عدة، اكتشفت النساء أنّ الرجال ربما اختفوا حقّاً، وأنّ عليهنّ الاستمرار في الحياة أيّاً كان ما حصل لهم. بعض النساء لم يستطعن تقبُّل الأمر، فاعتكفن في بيوتهنّ، متشبّثاتٍ بهواتفهنّ المحمولة، أو متسمّراتٍ خلف النوافذ وفي الشرفات في انتظار عودتهم: غياب الرجل، يعني غياب الحب بالنسبة لهنّ، وتالياً غياب الشمس، واللحن، والضوء، والقيمة الحقيقية للحياة. أخريات وجدن أنفسهنّ سعيداتٍ بالواقع الجديد ومتحمساتٍ له.

عادت النساء إلى العمل، لكن بتوزيعٍ مختلفٍ للأدوار. بعضهنّ بدأن بتعلّم مهنٍ وحِرفٍ جديدة. أسَّست النساء في بعض البلدان لجاناً لتولّي أمور الأعمال التي تتطلب قدرات وجهوداً بدنيةً خاصةً بالرجال، مثل البناء والصيانة وإدارة الموانئ والمناجم. كما نظَّمن فرقاً لتعليم النساء القيادة الاحترافية للمركبات الثقيلة، وصيانة شبكات الكهرباء والمياه، فيما خاضت أخريات في مجالاتٍ غير مألوفة، كإطفاء الحرائق وإدارة محطات الوقود. بلدان عدة أقامت دوراتٍ تدريبيةً عاجلةً لتأهيل النساء في العديد من المجالات، واستقدمن خبرات من دول أجنبية، وبدأت المحطات التلفزيونية في بلدان أخرى ببثّ برامج تعليمية لمساعدة النساء على إتقان المهام التي لم يكنّ معتاداتٍ عليها.

سارت الأمور بشكلٍ جيد. انتهت الحروب على الجبهات تماماً، وبدت الثكنات العسكرية مساحاتٍ مهجورةً. وُقّعت عقود توريد النفط بين البلدان ونُفّذت بسلاسةٍ ودون شروط: اتفقن على توزيعٍ عادلٍ لموارد الكوكب، وزوَّدت الدول الغنية الدول الفقيرة باحتياجاتها.

"انتهت الحروب على الجبهات تماماً، وبدت الثكنات العسكرية مساحاتٍ مهجورةً. وُقّعت عقود توريد النفط بين البلدان ونُفّذت بسلاسةٍ ودون شروط: اتفقن على توزيعٍ عادلٍ لموارد الكوكب، وزوَّدت الدول الغنية الدول الفقيرة باحتياجاتها"

تخلصت العديد من النساء من البقع الزرقاء والسوداء على أجسادهنّ، وارتحن من الضرب. أصبحن ينمن بهدوءٍ دون أنين. منهنّ، ولا سيّما في المنطقة العربية، من خرجن ليرين ضوء النهار للمرة الأولى، وعيونهنّ مفتوحة بشكلٍ كامل، دون محرمٍ يرافقهنّ ويمنعهنّ من الالتفات. ومنهنّ من جرَّبن طعم الرحلة والمشوار، وتعرَّفن على مدنهنّ، واكتشفن أنّ الحياة جميلة، وتأمّلن عظيم خلق الله من شجرٍ وبحرٍ ونهرٍ وزهر.

تفوقت النساء في أمريكا اللاتينية وأوروبا واليابان والصين على سيدات المنطقة العربية، بل إنَّ نساء الأرض جميعاً تفوَّقن عليهنّ في إدارة شؤونهنّ وتقديم الحلول والتعلّم السريع. شعرت النساء العربيات بالخجل، وحاولن تقديم كل ما بإمكانهنّ فعله. لم تشتكِ نساء العالم الآخر منهنّ، بل تفهَّمن الظروف التي جعلت معظمهنّ غير قادراتٍ على تأدية أدوارٍ كبيرة، على الرغم من وجود من استلمن زمام الأمور والمناصب القيادية، بينهنّ.

"تخلصت العديد من النساء من البقع الزرقاء والسوداء على أجسادهنّ، وارتحن من الضرب"

بعد مضيّ ثلاثة أسابيع، بدأت النساء يشعرن بانفلات الأمور من أيديهنّ، وبالإرهاق، ولا سيّما في الجوانب البدنية التي تتطلب مجهوداً عضلياً كبيراً، مثل رفع الأوزان الثقيلة أو إصلاح البنية التحتية المتهالكة، وبدأ نقص بعض المواد الأساسية يظهر في الأسواق، لأنّ القطاعات اللوجستية لم تكن مهيَّأةً بالكامل للتعامل مع غياب الرجال، وبدأ الإرهاق العاطفي والبدني يُنهِك الكثير منهنّ.

في أحد الأيام، وبعد مرور شهرٍ كامل، استيقظت النساء على حدثٍ مفاجئ مجدداً: عودة الرجال. اندفع العديد منهنّ نحوهم بعاطفة جيّاشة، بينما وقفت أخريات في صمتٍ تامّ، تتصارع في أذهانهن مشاعر متضاربة بين الدهشة والترقب. منهنّ من اعترفت للآخر خلال الأيام اللاحقة، بأنّ الحياة لا تُطاق من دونه، ومنهنّ من ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إنّ النساء لا يردن حياةً يغيب فيها الرجل مجدداً وإن ليوم واحد. وأخريات شعرن بسعادة مؤقتة، سرعان ما تلاشت مع عودة الأمور إلى طبيعتها القديمة.

لكن مع مرور الوقت، بدأ الجميع يلاحظ أن ثمة شيئاً قد تغيّر. لم تكن النساء كما كنَّ، فقد اكتشفن جوانب جديدةً في أنفسهنّ، وأصبحن أكثر ثقةً بإمكانياتهنّ. بعض العلاقات الأسرية تغيّرت، حيث أصبح الأزواج يتعاملون مع زوجاتهم بندّية أكبر، وتخلّت العديد من النساء عن الأنماط القديمة في العيش، ولم يعدن يقبلن بالأدوار التقليدية التي فُرضَت عليهنّ سابقاً، أو أن تدار حياتهنّ بالنيابة عنهنّ، ولكن التجربة علمت الأغلبية عموماً أنّ الحياة يجب أن تُدار بشراكة حقيقية، دون تأطير للأدوار أو تقسيم مسبق لها بين الرجل والمرأة.

وبينما كان الجميع يحاول استيعاب هذا الواقع الجديد، لم يكن السؤال: "هل ستعود الحياة كما كانت؟"، بل: "كيف ستبدو الحياة بعد الآن؟"...


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

رصيف22 من أكبر المؤسسات الإعلامية في المنطقة. كتبنا في العقد الماضي، وعلى نطاق واسع، عن قضايا المرأة من مختلف الزوايا، وعن حقوق لم تنلها، وعن قيود فُرضت عليها، وعن مشاعر يُمنَع البوح بها في مجتمعاتنا، وعن عنف نفسي وجسدي تتعرض له، لمجرد قولها "لا" أحياناً. عنفٌ يطالها في الشارع كما داخل المنزل، حيث الأمان المُفترض... ونؤمن بأن بلادنا لا يمكن أن تكون حرّةً إذا كانت النساء فيها مقموعات سياسياً واجتماعياً. ولهذا، فنحن مستمرون في نقل المسكوت عنه، والتذكير يومياً بما هو مكشوف ومتجاهَل، على أملٍ بواقع أكثر عدالةً ورضا! لا تكونوا مجرد زوّار عاديين، وانزلوا عن الرصيف معنا، بل قودوا رحلتنا في إحداث الفرق. اكتبوا قصصكم، وأخبرونا بالذي يفوتنا. غيّروا، ولا تتأقلموا!.

Website by WhiteBeard
Popup Image