يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
في حزيران/ يونيو 2025، ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات، محافظة الجيزة، محوّلاً إيّاها إلى خرابة مترامية الأطراف. في صباح اليوم التالي، أعلنت وزارة الصحة أنّ عدد الوفيات بلغ ثلاثة ملايين إنسان، بينما باتت الإصابات والمفقودون خارج نطاق الحصر. فزعت العاصمة، وفرضت ذكريات زلزال 92 نفسها؛ إذ لم تعرف البلاد كارثةً مشابهةً منذ ذلك الحين. لسنا اليابان، ولا نملك استعدادها للزلازل، لكن من يستطيع مساءلة الطبيعة؟
الصدفة وحدها أنقذتني. كنت في الفيوم، نائماً فوق سجادة خضراء في الصحراء، وقت سقوط العقار الذي استأجرت فيه شقّةً صغيرة. أشعر بالخدر في قلبي كلما استذكرت كم المصادفات التي أنقذت اسمي من أن يوضع ضمن قائمة الضحايا. طوال طريق العودة، ظللت أقلّب بين صور الكارثة وفيديوهاتها التي يملؤها الصراخ. لم أكن متحمساً للسفر إلى الفيوم. شكراً لأصدقائي على الإلحاح.
مصائب قوم عند قوم فوائد. بعد عودتي إلى القاهرة، منحتني وزارة الإسكان، مع غيري من المنكوبين، شقّةً مؤقتةً في مدينة الشروق. لم يعد هناك فارق بين من كان يملك العقار، ومن كان يستأجره، فالجميع صار بلا مأوى. تشاركت الشقة مع محمد عصام، وهو رجل صموت كان يملك شقةً فخمةً في المهندسين تطلّ على شارع البطل أحمد عبد العزيز. بعد سلام بارد، دخل كل منّا إلى غرفته وأغلق بابه خلفه. اليوم يتساوى المستأجر والمالك.
"في حزيران/ يونيو 2025، ضرب زلزال بقوة 7.8 درجات، محافظة الجيزة، محوّلاً إيّاها إلى خرابة مترامية الأطراف. في صباح اليوم التالي، أعلنت وزارة الصحة أنّ عدد الوفيات بلغ ثلاثة ملايين إنسان، بينما باتت الإصابات والمفقودون خارج نطاق الحصر"
بدأت حدود خراب الجيزة عند ميدان الجلاء من ناحية الشرق، وانتهت بكفر غطاطي من الغرب، وما بين النقطتين انهارت العقارات والمحال فوق الأرصفة لتشكّل عجيناً من الحوائط. يقارب سكان الجيزة عشرة ملايين قبل الكارثة، بعد تصفية الموتى والمفقودين لم يتبقَّ سوى ستة. لنقل إنّ هذا العدد يحتاج إلى مناطق معدّة لاستقباله، وهذا ما لم يكن موجوداً. اضطرت الحكومة إلى شراء كل الكومباوندات التي فشلت في تسويق نفسها وتحولت إلى خرائب بكامل إرادة مطوّريها وبتراب الفلوس. خمسة وخمسون كومباونداً كانت معدةً لمتوسطي الدخل، انتشر فيها سكان الجيزة، من الشروق إلى التجمع لطريق السويس. تناثر سكان الجيزة بشكل عشوائي، سكان المهندسين وفيصل واللبيني والقرى التي تحيط بالأهرام والدقّي وإمبابة. كان التوزيع بحسب أسبقية الوصول، فإذا انتهت العمارات انتقلوا إلى الكومباوند الآخر في القائمة التي يحملها موظفون في سيارات زرقاء بعثت رسائل على هواتف سكان الجيزة بقوائم الكومباوندات، وتم نقلهم جماعياً. كلنا أخوة في التشرّد.
كان مصيري أن أنتقل إلى كومباوند "الزهرة" في الشروق. اسم سخيف ومملّ، وكأنّ عجوزاً متقاعداً اختاره. كان مثل كل الكومباوندات المعدّة لمتوسطي الدخل؛ رصيف يسلّم رصيفاً ثم ميدان صغير شديد التفاهة، وعمارات متطابقة تقف كالشواهد بجانب بعضها، وبعض الشجر الخجول لكسر الحالة الخرسانية التي تطغى على المكان، ولكن على عكس الكومباوندات الحديثة فارغة الشوارع، انتشر السكان في المكان كالنمل ليتعرفوا عليه. في النهاية لا يشبه المكان الحواري الضيقة التي قضوا حياتهم بين جدرانها. تلك ليست بيئتهم الطبيعية، مع مرور الأيام بدأوا بوضع بصمتهم على المكان؛ كنبة أمام منزل، جوزة خشبية، منشر ملابس عملاق ملحق بالبلكونة الصغيرة. هناك من وضع نصبة شاي، وآخر أنشأ مربعاً من الصاج وعلّق عليه يافطة "الورشة العالمية للسيارات"، وتحتها بخط أصغر "تأسست في 1990"، وتحتها بخطّ صغير للغاية، "مدحت شمعة".
سألت نفسي كيف؟ لقد وصلنا قبل أسبوعين فقط. ولكنني رددت على نفسي بأنه بالتأكيد يكمل مسيرة الورشة السابقة التي "فُعصت" تحت العقارات المنهارة. فكرت في أنّ الدول والأيديولوجيات الكبرى تسير بتلك الطريقة نفسها؛ نستمدّ قيمنا وتراثنا وفخرنا القومي على أنقاض أمم لا نفهم روح عصرها، ولكننا نقول بثقة شديدة نعم، هؤلاء أجدادنا ونحن امتداد طبيعي لهم، وهكذا التاريخ، خرائب تسلّم خرائب، فلتحيا الورشة العالمية للسيارات.
الجيزة ليست حواري شعبيةً ضيّقةً فحسب، هنالك الدقّي والعجوزة والمهندسين والمنيل وسكان الكورنيش بدايةً من إمبابة وانتهاءً بكوبري عباس، وهناك القرى المحيطة التي تحول بين الجيزة الإسمنتية والصحراء العارية. كلّ من هؤلاء يريد الحياة مع جيرانه السابقين أو ما تبقّى منهم بالطريقة التي اعتادوا عليها، خصوصاً في أوقات رثاء صعبة مثل هذه. بدأت المناطق بعملية تبادل للشقق وأعادوا ترتيب الحكومة العشوائي بترتيب يذكّرهم بحياتهم السابقة، في الجيزة. وبدأ السكان بتسمية الكومباوندات بأسماء مناطقهم القديمة، كومباوند الدقّي، وفيصل، والهرم، والعجوزة، والمهندسين 1 و2، وكومباوند الحوامدية، وأبو النمرس، وكرداسة. وانتشر تقليد بوضع جدارية في بداية كل كومباوند بعد البوابات بصور "شهداء" الحيّ. كل منطقة تخلّد مفقوديها. اختلفت خامات الطباعة والرؤية البصرية للتصميم والكلمات المصاحبة حسب مزاج كل حيّ. ولكن التقارب ليس كل شيء، لقد ضاعت البيئة الحاضنة، واستعادة مزاج المكان غير ممكنة من دون المكان.
"فكرت في أنّ الدول والأيديولوجيات الكبرى تسير بتلك الطريقة نفسها؛ نستمدّ قيمنا وتراثنا وفخرنا القومي على أنقاض أمم لا نفهم روح عصرها، ولكننا نقول بثقة شديدة نعم، هؤلاء أجدادنا ونحن امتداد طبيعي لهم، وهكذا التاريخ، خرائب تسلّم خرائب، فلتحيا الورشة العالمية للسيارات"
انتقلت في عملية التبادل العقاري إلى كومباوند العجوزة 2، على طريق السويس، شككت في أنّ "محمّد" شريكي في السكن لا يعرف بأني سأنتقل، سألته: عاوز تيجي معايا؟ توقعت أن يقول: لا، ولكنه دون حماسة قال: "آه يا ريت". لا يخرج من غرفته منذ وصولنا. لم أودّ سؤاله عن حياته السابقة لعلّي أوقظ أحزاناً يكافحها، فصمتت. انتقلنا بحوائجنا الخفيفة واستلمنا الشقّة التي كانت تشبه القديمة بأي حال. بدأت بالتعرف على بعض الوجوه التي كنت أراها في الشارع. لم أكن اجتماعياً، ولكن "محمد" مارس سلوكه السابق نفسه؛ أغلق بابه عليه بحيث أصبحت غرفته تصدر طنيناً من اتّساع هوّة الصمت في داخلها. ماذا يفعل في الداخل؟ لا كمبيوتر، لا إنترنت، ولا سرير، بل مرتبة نحيلة على الأرض. بدأت في تلك الفترة بالانخراط في ما يسمّى "اجتماع سكّان العجوزة"، وهو لقاء يومي يحاول فيه السكان كسر حالة الموت العالقة في الأجواء، يتحدثون عن أحبّائهم الموتى ويبكون، ويقرأون الفاتحة على أرواحهم، وأحياناً يتحدثون عن كيفية إعادة العجوزة مرةً أخرى على طريق السويس. كنت أشعر بأنّ تلك الأحاديث، بضغط العاطفة، تتحول إلى هلوسة جماعية ينخرط فيها الجميع بعنف، وكأنها تغذي شعوراً مفقوداً. هل لأنني كنت مستأجراً حديثاً؟ عهدي بالجيزة كلها لا يتجاوز ثلاثة أعوام، ولكن هؤلاء تربّوا فيها، وفيهم من عاشت سلاسة عائلته لفترات طويلة في العجوزة. أقول لنفسي: ربما لم أفهمهم لأنّ تجربتي مع المكان مختلفة، أنا اعتدت التنقل، لذلك لا صدى لتلك المشاعر في نفسي، ربما، ولكن في بعض الأوقات كنت أشعر بأني وسط أشخاص يحتاجون إلى رعاية نفسية فورية، يهلوسون مثل الجماعات الدينية المغلقة.
خفت على محمد عصام، شريكي الصموت، لذلك دعوته إلى هذا الاجتماع. شعرت بأنه يشبههم، وربما يجد عزاءً في مخالطتهم. ضربت بابه، فخرج بعد نصف دقيقة تقريباً بوجه عبوس، وحرّك رأسه مومياً إليّ بأن أتحدث، فقلت له: "بقولك إيه؟ في اجتماع هنا بيعملوه جيراننا في المكان، وكنت بقول لو حابب تيجي معايا. أنا بصراحة بروح مليش أصحاب هناك ومعرفش حدّ هنا، حسّيت إننا ممكن نروح سوا، ولا شايف إيه؟".
محمد: "مش عارف، لا، لا مش مهم دلوقتي، ولّا أقولك -وزفر زفرة طويلةً بينما ينظر إلى الأرض- هلبس… هلبس".
أغلق الباب خلفه، بينما شعرت بالرضا عن نفسي. انطلقنا نحو شقّة 1، وهي كما يشير رقمها أول شقة في أول عمارة في الكمبوند، شقّة علي الشامي، مدير متقاعد في الضرائب وكانت لديه شقتان في العجوزة بجوار مسرح البالون. يشتكي كل اجتماع بأنهم كان يجب عليهم إعطاؤه شقّتين وليس شقةً واحدةً كما كان يملك. وبعدما قال ذلك، لفت انتباهه شريكي الصموت، فسأله عن اسمه، فقال: محمد عصام. ضيّق الشامي عينيه وقال له: "أنت والدك عصام الديب؟ صاحب المتّحدة بتاعت أدوات الطباعة؟".
انفرجت عينا محمد وقال: "أيوه". ترجّل الشامي واحتضنه كما لو كان أباه. ثم ربت على كتفه وقال: "شدّ حيلك، إحنا في بلاء، بس نستحمل وهنعدّي". حرّك محمد رأسه مؤكداً على كلامه، ثم بدأ الاجتماع. للمرة الأولى أرى شريكي الصموت منطلقاً ومتفاعلاً ومتحدثاً وباكياً. لقد فجّر الشامي الجدار الذي كان يعزله عن العالم؛ بمجرد أن اجتمع مع منكوبين مثله انفجر كفوهة بركان خامل.
في الأيام التالية أصبح الاجتماع الذي كنت أرتاده بدافع الملل واجباً منزلياً، يتجهز محمد وينتظرني في الصالة قبل الموعد بنصف ساعة، يضرب الباب بحماسة بينما يعدّ القهوة لكلينا لأنّ "في مواضيع مهمة أوي هنتكلم فيها النهار ده". أنظر إليه باستغراب ثم أقول: "تمام". في الاجتماع العاشر تقريباً، وبعدما تعرف صديقي على الجميع وأصبحت أنا المغترب هنا، وأصبح هو من قيادات الكومباوند بالاشتراك مع أبيه الروحي على الشامي، جلس محمد في المنتصف ليقول بصيغة تقريرية: "اتفقنا أنا والحاج على أن نعمل متحفاً لشهداء الجيزة، المتحف ده مش هيكون فيه صورهم بس، بل كل حاجة فضلت معانا من ريحة الجيزة، مفارش الصالة، بواقي خشب الكنب، ورق فضل محطوط في رف سنين، هدوم حبايبنا اللي مش محتاجينها. عايزين نفتكرهم ونفكّر الناس بيهم عشان يخلدوا". صفّق الجميع وبدأ بعضهم بالبكاء بينما استشعرت رائحة الهوس مرةً أخرى. ظاهرياً الأمر جميل، ولكن هناك باطناً أظنّه مخيفاً.
في آخر الكومباوند، هنالك عقارات كانت في مرحلة البناء ولم تكتمل. توقف العمل في المبنى رقم 66 ولم يُنشأ منه سوى دور واحد دون سقف، وأعمدة تمسك الحوائط بينها فحسب. تحوّل المكان إلى متحف الجيزة المفتوح. جهّز السكان المكان بقلوبهم؛ هذا وضع سجاداً، وهذا دهن الحوائط، وهذا أنار المكان، وهكذا بتحالف شعبي تم افتتاح المتحف خلال شهر واحد من العمل. في هذا الشهر بدأ تواجد محمد، يقلّ في الشقة حتى أصبح نادراً. توزّع وقته بين المتحف وبين الغرفة التي خصصها له الحاج علي، في شقته التي يعيش فيها وحده بعد وفاة عائلته كلها في الزلزال. عرفت في ما بعد، ومن آخرين، أنّ "محمّد" عائلته هو الآخر ماتت في الزلزال. حينها تعاطفت معهم، ربما هذا ما يجمعهم، حبل من الحزن الدفين. في يوم الافتتاح، وقف الحاج علي الشامي، وبجانبه محمد، يعلنان عن جوهرة المتحف، مذكرات الحاج عصام الديب، التي كتبها خلال العشرين عاماً الأخيرة من حياته. كان لعصام حلم أن يكون كاتباً ولكن أسلوبه كان رديئاً فلم يوفّق، وورث المصنع من أبيه وأفنى فيه حياته ولكنه لم يتخلَّ عن الحلم القديم. كان يكتب تفاصيل اليوم من بدايته لنهايته، خرج من البيت، ركب السيارة، حدث له موقف مع السايس أو مع شرطي المرور، ويحكي عن الصفقات التي عقدها، ومن اجتمع بهم، وهكذا راكم كرّاسات وصلت إلى إحدى وخمسين كرّاسة، كل واحدة منها من مئة صفحة. كانت كرّاسات من النوع نفسه، ولها اللون نفسه؛ الأزرق. وهكذا وضع محمد عصام الكرّاسات أمامه على منضدة وأشار إليها وقال: "دول هيبقوا تراث الجيزة اللي راحت، أبويا وثق فيها أيامها وسطها، جدرانها وحيطانها والناس اللي فيها، الكراسات دي هنعمل منها نسخ مفتوحة للقراءة في المتحف، والنسخ الأصلية هتتحفظ عشان متبوظش، وأنا مش عاوزكم تقروها و تعيطوا، لا، أنا عايزكم تقروها عشان ذاكرتكم متروحش، الجيزة مراحتش، إحنا هنرجعها تاني".
"هناك لمحت فتاةً لافتةً، ذكّرتني للحظة بلورا هارينج، في دور ريتا، في فيلم "مولهولاند"؛ البشرة الخمرية الساحرة نفسها. أشعر برباط قوي معها، لم تكن تصفق بل تنظر إلى الجمهور بغضب. اقتربت منها وقلت بحذر: "حاسس إنّهم أفوروا شوية""
انفجر الجميع بالتصفيق والتصفير، بينما ربت الحاج علي الشامي، على كتف محمد، بفخر أبويّ. لم أشعر بالحماسة وصفقت ببرودة وأنا في آخر صفّ من الزوار. عندما تكون غير واثق باختيارك تنظر حولك بحثاً عمّن يؤيدك. هناك لمحت فتاةً لافتةً، ذكّرتني للحظة بلورا هارينج، في دور ريتا، في فيلم "مولهولاند"؛ البشرة الخمرية الساحرة نفسها. أشعر برباط قوي معها، لم تكن تصفق بل تنظر إلى الجمهور بغضب. اقتربت منها وقلت بحذر: "حاسس إنّهم أفوروا شوية".
فقالت بصوت خافت وبأداء سينمائي إذ تحدثت دون أن تنظر إليّ: "افورو إيه ده الدماغ فوتت".
ثم نظرت إليّ، فشعرت بوهن في قلبي من نظرتها، وقالت: "أنا مريم، من سكان العجوزة أكيد"، وابتسمت.
قلت: "وأنا هاشم، من المتطفلين على الجيزة".
مريم وهي تضحك: "متطفّل إزاي؟".
هاشم: "يعني حاسس إني جاسوس في المكان، مش حاسس زيّهم وفي نفس الوقت مسحول معاهم".
مريم: "لا، متحسّش بالغربة. أنا عشت فيها ثلاث سنين بس وحصل اللي حصل فلقيت نفسي هنا".
هاشم: "أنا برضو مكملتش ثلاث سنين، ده غريب جداً".
مريم: "لا مش غريب، أنا عارفاك كويس".
تعجّبت من ردّها! من أين تعرفني؟ ولكن في الوقت نفسه بدأت الهستيريا بالتصاعد. صعد السكان واحداً تلو الآخر، كلّاً يقول كلمته، فتنوعت الكلمات ولكنها اشتركت في موضوعين: رثاء الراحلين، وتقديس الجيزة. أنهى الحاج علي، بأنّ الغرفة المجاورة ستسمّى باسم الراحل عصام الديب، وستكون غرفة قراءة للكرّاسات، وبقية المتحف ستكون مثل بقية المتاحف، لمناظرة المعروضات التي تنوعت بين بواقي سيارات مهشمة، وملابس ممزقة وأحياناً في حالة جيدة، وأحجار من بيوت الناس، والكثير من المعروضات. خرجت أنا ومريم إلى الخارج نعلّق باستهانة على هذه الحالة الهوسية الجماعية التي أصابت السكان، ولكننا كنّا نختم الجمل بأننا نفهم أن الحالة العاطفية طاغية. مريم، خرّيجة كلية آداب قسم تاريخ من جامعة القاهرة، بينما أنا خريج فلسفة، وجدنا الكثير من المشتركات بيننا أهمها حب القراءة والنبش في الماضي، مع نزعة نبذ النوستالجيا. الماضي لم يوجد للتقديس، دفعنا هذا للوقوف في اليوم التالي عند الساعة الثامنة صباحاً أمام المتحف انتظاراً للزيارة. كنا نستهدف قراءة الكراسات، ولكن الزحام كان كبيراً، الصفّ أمام غرفة القراءة كان لانهائياً. خلصنا إلى أنّ الناس بعد حماسة البداية سيرحلون ويتركون المكان للأشباح... انتظرنا حتى العصر حتى غادرت الجموع لنجد غرفة القراءة فارغةً. دخلنا وبدأنا بالقراءة. مريم ستقرأ الأعداد الزوجية وأنا سأقرأ الفردية، ثم نعيد الدورة بالعكس، وهكذا خصصنا أيامنا لتفريغ حياة الحاج عصام الديب.
دعوني أُعطِي تمهيداً لتلك المذكرات الغريبة؛ كلما قرأت فيها شعرت كأنها تتحدث عني أنا، لا عن عصام الديب، برغم أنّ الأحداث والعالم لا يشبهان عالمي تماماً، ولكن هناك شعوراً غريباً يتسرب بأن تلك ردود أفعالي، وتلك تفضيلاتي، كأنها حياة سابقة أو لاحقة. هناك شعور بالطمأنينة تعطيه الكراسات. لم أكن متأكداً من الشعور لذلك حجبته عن مريم، ولكن في اليوم الثالث من القراءة قلت لها ذلك. فاجأتني بأنّ هذا شعورها هي أيضاً، إذ تشعر بأنها هي من كتبتها، وتلك حياتها في بعد ما. بدأنا بالخوف، كيف هذا؟
"تعجّبت من ردّها! من أين تعرفني؟ ولكن في الوقت نفسه بدأت الهستيريا بالتصاعد. صعد السكان واحداً تلو الآخر، كلّاً يقول كلمته، فتنوعت الكلمات ولكنها اشتركت في موضوعين: رثاء الراحلين، وتقديس الجيزة"
في اليوم الرابع كان قد وصل كلّ منّا إلى الكراسة الخامسة. قررنا البدء مرةً أخرى بحيث تقرأ هي الخمسة التي قرأتها والعكس، لنختبر هذا الشعور المربك، ولم يتغير شيء بل بدأت الأمور بالغرابة أكثر. في المذكرة السابعة بدأ الحاج عصام، في وصف شقّتي: "غرفتان صغيرتان ملحقتان بصالة، يخبّئ تحت مخدّة الأنتريه البفرة، ويجلس أمام التلفاز لمشاهدة وثائقي عن الحيوانات، يشرب مانجو بينما يدخّن الجوب حتى ينام أمامه، ويدخل إلى غرفته في الثالثة صباحاً بربع وعيه، بينما قرأت مريم أنه يأخذ حماماً ساخناً في التاسعة ثم يبدأ بوضع روتين البشرة الخاص به ثم ينام باكراً لأنه يستيقظ باكراً. هذا تناقض واضح. قلت لها: "سأذهب لمحمد لأستفسر منه عن أبيه". ذهبت إلى بيت الحاج علي، وطرقت الباب فخرج إليّ محمد. تعجّب من زيارتي، لم نرَ بعضنا منذ يوم الافتتاح، لم يعد يأتي إلى البيت.
"إيه يا هاشم، في حاجة؟"؛ قالها بقلق.
أردفت: "لا، كنت عايز أسألك على حاجة كده".
جلسنا في الصالة ثم قلت له: "إنت قرأت الكرّاسات بتاعت الحاج الله يرحمه؟".
محمد: "طبعاً، قرأتها كلها كذا مرة، بيوصف حياتنا في شارع البطل وذكرياته وشغله، إيه يعني؟".
هاشم: "أصلي في حاجات مش فاهمها، حاسس إنه بيتكلم عنّي، وبعدين في حاجات متناقضة، يعني في كرّاسة بيقول إنه كان بيشرب جوب وينام في الصالة قدام التلفزيون، وكراسات تانية بيقول إنه كان بينام بدري عادي".
محمد: "ثانية واحدة، جوب إيه؟ أنت إيه اللي بتقوله ده؟ أبويا؟ انت مجنون؟".
هاشم: "اهدى بس وتعالى، أنا هورّيك".
انطلقنا نحو المتحف وفتحنا الكراسة التي قرأت فيها ذلك، ولكن لم أجد المكتوب، كانت ذكرياته كأبّ لا كما قرأتها. اعتذرت إليه عن سوء الفهم وقلت له يبدو أنني خلطت بينها وبين رواية قرأتها مؤخراً. عدت إلى مريم، وقلت لها ما حدث، فلم تصدّقني. عدنا إلى المتحف مرةً أخرى. بدأت أريها الصفحة ولكنها أمسكت بها وقالت لي: "هنا مكتوب أنه كان يذهب إلى الحمام ويستحمّ ثم يضع روتين البشرة وينام باكراً". أمسكت بالصفحة فوجدت ما قرأته سابقاً. نظرت إليها وضيّقت عينيّ وقلت: هذه الصفحات تتغير بحسب القارئ.
قررنا في اليوم التالي اصطحاب عمّ سعيد، وهو عامل أمن يجلس على بوابة الكومباوند، وكان من سكان العجوزة القدامى. اصطحبناه ليقرأ لنا ماذا يرى في الكراسات. لم يفهم ولكننا وعدناه بمئتي جنيه لأننا نريد التأكد من جملة معينة. لم يناقشنا بعد العرض المالي، أعطيته الكراسة السادسة وبدأ بالقراءة ثم انتهى وقال: "أيوه، عايز إيه بقى؟".
هاشم: "قولي قريت إيه؟".
عمّ سعيد: "الراجل بيقول إنه بيخلص شغله بيقعد على القهوة اللي تحت البيت لحد الساعة 11 وبعدها بيطلع ينام، أنا برضو كنت بعمل كده بس مش شفته يعني في القهوة، أكيد كان بيقعد على كافيه شوب". وضحك بينما أنا ذاهل أنظر إلى مريم، لأن نظريتي تم إثباتها. أعطيته المال دون أن أنظر إليه وتركنا وهو يظن أننا مجانين. تلك الكراسات لا توثق التاريخ بل تعيد كتابة الماضي بعين القارئ، تعيد إنتاج الذاكرة الجماعية للجيزة كمتاهة، وكل قراءة فيها هي جديدة وذاتية تماماً. جريت نحو كراسة عشوائية، وكانت تحمل الرقم 36، وفتحت أول صفحة فوجدت فيها جملة: "كل قراءة تنشئ كوناً جديداً".
ليس من المصادفة أني قرأت تلك الجملة بمجرد أن استنتجت منظوراً جديداً للنظر إلى الكراسات، تتشكل حسب الوعي، تلاعبني وتلاعب أي قارئ لها، مرآة للالتصاق الماضي بنا، هكذا شعرت بأنّ محمد عصام والحاج علي ليسا مهووسين بل هي استجابة طبيعية لهذه القوة الغامضة التي لا أفهمها.
قالت مريم: "ده إيه الهبل ده، إزاي يعني كتاب بيختلف كل ما حد يقراه، ده معمول عليه سحر يعني".
قالت مريم: "ده إيه الهبل ده، إزاي يعني كتاب بيختلف كل ما حد يقراه، ده معمول عليه سحر يعني".
لم أردّ عليها، بل استمررت في التحديق في الكرّاسات. شعرت بمسؤولية إخبار الناس عن اللعبة التي تمارس ضدهم، برغم أني لا أعرف لماذا؟ اتخذت القرار وفي يوم الجمعة عندما انتفخ المتحف بالزوار، وقفت فوق مكتب القراءة، وسألت الجميع بصوت عالٍ: "أنا عايز كل واحد فيكم يوصف الحاج عصام الديب؟".
أجاب شخص منهم بأنه أصلع، وأخرى بأن شعره قويّ وطويل، وطفل بأنّ شعره ضفائر، ورجل عجوز بأنه لا يملك شعراً لأنه مصاب بالثعلبة. وهنالك من قال إنه نحيل، وممتلئ، وعاديّ، وأمام هذا الارتباك، تدخّل محمد عصام، لينزلني من فوق المكتب، واتهمني بأني أخرّب ذكرى أبيه والجيزة وبأنني دخيل عليها ولست منهم. هكذا بدأت بالصراخ والهستيريا بينما وقفت مريم تراقبني من بعيد وكأنني غريب. تعجبت من موقفها وهي شريكتي في هذه النظرية؛ هل جننت؟ في عزّ انتفاضتي، قلت لهم: "سأثبت لكم وجهة نظري ولكن اتركوني لدقائق". ذهبت وأخرجت الكراسة 36، ولكنني وجدت الصفحة الأولى متغيرةً ومكتوباً فيها: "هذه الكراسة للقارئ الوحيد".
بمجرد أن لمست الصفحة، بدأت أصوات الجمهور الغاضب بالخفوت، والرؤية بالضبابية حتى استيقظت على واقع جديد. الجيزة كما هي، لم يصبها الزلزال، ولكنني فيها وحدي. قدت سيارةً وتجولت في شوارعها الفارغة. وصلت إلى ميدان الجيزة، وهناك وجدت تمثالاً عملاقاً يشبه تماثيل لينين وستالين القديمة الشامخة، لرجل بنظارة وشعر خفيف وتجاعيد تعلو وجهه، يشبه سعد زغلول، ومكتوب تحتها تخليد لمؤسس الجيزة، الحاج عصام الديب: توفي إثر زلزال 1788.
اقتربت من التمثال، وبمجرد لمسه، عدت إلى المتحف في النقطة نفسها التي اختفيت منها، لكنه كان فارغاً وجدرانه مشقوقة كأنه على وشك السقوط، وفي الخلفية صوت بائع متجول يعرفه كل سكان الجيزة ينادي: "بنشترى تكييف قديم، غسالة قديمة، ثلاجة قديمة". لمحت "مريم" تقف وحدها وسط المتحف وتنظر إلي ولكنها لا تردّ علي. تركتني وخرجت من المتحف وأنا خلفها في حالة اضطراب، كأنني لست موجوداً. لماذا تبدو مألوفةً فجأةً؟ هذه مريم السباعي، زوجتي. أتذكر كل شيء الآن، كانت في المنزل وأنا في الفيوم. أخبروني وأنا هناك بأنها ماتت تحت الأنقاض. كانت تختفي كلما انهمرت الذكريات على رأسي. لقد ماتت، وأين كنت من حينها؟ لماذا لا أتذكر؟ أين أنا الآن؟ هل هذه هلاوس سكان الجيزة أو هلاوسي الشخصية؟ بدأ الكومباوند الفارغ ينهار فوق رأسي. ظننت أنني متّ، ولكنني فتحت عينيّ مرةً أخرى لأجد نفسي مقيداً في سرير وسط عنبر كبير فيه خمسون سريراً آخر، وكلنا مقيّدون، بينما يقف طبيب وخلفه أطباء آخرون بزيّهم الأبيض يدوّنون ملاحظات. كان يقول لهم:
"دي أكبر صدمة نفسية جماعية شهدتها البلد دي. الناس دول بقالهم هنا سنتين عايشين في دماغهم ومش مستوعبين إن الجيزة خلاص بقت ماضي. ربّنا يعافيهم".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومعجبني الموضوع والفكرة
Ahmed Alaa -
منذ يومينلا حول ولا قوة إلا بالله
Hossam Sami -
منذ 6 أيامالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...
diala alghadhban -
منذ أسبوعو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ أسبوعشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ أسبوعجميل وعميق