سؤال واحد لا يفارقني منذ أن استأنفت إسرائيل حرب الإبادة على غزّة: لماذا نموت؟
لماذا لا يزال دم أهلي يسيل فوق شاشات الأخبار؟ ولماذا تبكي كل يوم أمٍّ جديدة أبناءها الراحلين، وترثي زوجةٌ حبيبها على البثّ المباشر، ويودّع "ناجٍ وحيد" طيف عائلته المغادر بكل أسى؟ لماذا ما زلنا نموت، وكأنّ من واجبنا أن نموت؟
يحقّ لي ويحقّ لأهلي، أن نعرف لماذا نموت. نريد سبباً واحداً فقط للموت، حتى نتصبّر عليه
حسناً، إن كان لا بد من ذلك، فلنعرف لمرة واحدة قبل أن نرحل: لماذا نموت؟ أقصد، من أجل من؟ وفداءً لمن؟ وفي سبيل الحصول على ماذا؟ وهل سيسفر موتنا بالفعل عن دولة؟ أو عن خيمة؟ إن كان ما سيسفر عنه موتنا دولةً، فهل تستحق هذا كله؟ وإن كان خيمةً، فليخبرني أحد، أيّ أحد، كيف يستبدل عاقلٌ خيمةً ببيت، ويدفع دماً مقابل ذلك؟ وهل تستحقّ خيمة من قماش مهترئ هذه الدماء كلها؟
لماذا نموت إذاً؟
كنت سأفهم هذا الموت، لو كان مبنياً للمعلوم، أي لو كان له سقف زمني، في الأقل، مثلاً: سأفهمه لو كان سيتوقف بعد شهر أو اثنين أو عامين، أو عندما يُقتل منّا 50 ألفاً آخرون. حتى إنّ قسوته ستكون حينها أقلّ وطأةً على الذين يموتون، ربما، وسوف يقول الناس: لم يكن محظوظاً، فلو كان كذلك لكان من الناجين. ولن يقولوا: "هذا قضاء وقدر"، "مكتوبله يموت"!
فهل مكتوب على أهلي أن يموتوا دفعةً واحدةً وبهذه الكثافة؟ وهل يعني هذا الموت، أنّ أحداً لن يدقّ جرس نهاية حصة المذبحة، ويُخرج الأحياء من الفصول؟ وأن حكماً لن يُصفّر لتنتهي المقتلة؟
ربما كان لا بد أن نموت لتظلّ حكايتنا قابلةً لأن تُروى، لتظلّ ناقصةً كما اعتادها العالم، ناقصة موت أو تهجير أو سجن. فأنا لم أرَ في حياتي فلسطينياً يمتلك حكايةً كاملةً
إذا كان ولا بد أن يحدث ذلك، ففي الأقل، يحقّ لي ويحقّ لأهلي، أن نعرف لماذا نموت. نريد سبباً واحداً فقط للموت، حتى نتصبّر عليه.
هل نموت ليعود الوطن؟ إن كنا نفعل، فأيّ وطنٍ هذا الذي يتغذى على بركة من دم؟ وهل أعادت برك الدم الذي سال طوال 75 عاماً وطناً، حتى تعيده الآن؟ وإن عاد الوطن فعلاً، بعدما قُتلنا وذُبحنا وقُصفنا وحُرقنا، في البيوت والخيام والمشافي والشوارع، فمن سيسكن هذا الوطن؟
هل نموت لننتصر في جولة حرب؟ إن كان الأمر كذلك، فالهزيمة أفضل من ألف انتصار.
من فقد 50 ألفاً من أبنائه لن ينتصر أبداً. ستظلّ هزيمته تلاحقه إلى الأبد. سيراها في يقظته ومنامه، في ركضه الطويل واستراحته، في بيته المقصوف وفي أثناء عمله، وفي زيارته لكل أماكنه المفضلة التي تحوّلت إلى صحراء من دماء وركام. إذاً، موتنا لا يعيد وطناً، ولا يحقق انتصاراً… لماذا نموت إذاً؟
رهانات خاسرة
أواسي نفسي أحياناً، فأقول: ربما كان لا بد أن نموت لتظلّ حكايتنا قابلةً لأن تُروى، لتظلّ ناقصةً كما اعتادها العالم، ناقصة موت أو تهجير أو سجن. فأنا لم أرَ في حياتي فلسطينياً يمتلك حكايةً كاملةً. وعليه، ربما، يجب أن نموت في المنتصف، قبل أن نعرف الحياة جيداً، قبل الحب والزواج، قبل أن نصبح أطباء ومهندسين وروّاد أعمال ومفكرين، قبل إنجاب طفلة صغيرة اسمها مريم. وقبل أن تكتمل فكرة الوطن في عقولنا، فتنتجُ أبناء ومقاومين.
وفي أحيان أخرى، يخطر لي أنّ موتنا هذا ليس سوى مغامرة. يشبه الأمر أن يلعب أحدهم الروليت وهو يائس، فيراهن على كل ما يملك، ماله، بيته، أطفاله، وحتى مستقبله. ثمّ يبدأ باختبار الخسارة شيئاً فشيئاً، ولا يتوقف. يخبره من حوله بأن يتمهل قليلاً، أن يتراجع، أن يستسلم، ويحتفظ بما تبقّى، لكنّه لا يتوقف، حتى يخسر كل ما يملك. هل كنا رهاناً خاسراً في لعبة روليت؟
لا فرق بين دولة وخيمة
لا تحدثني عن الصبر، ولا تروي لي كيف ضحّى الجزائريون بمليون شهيد لتحرير بلادهم، والأفضل ألا تذكر أمامي كيف هزمت فيتنام أمريكا. أنا لا يهمني ماذا حدث في العالم من قبل، لا يشغل تفكيري ذلك. فمن يعيش في خيمة، لن يفكر في التاريخ، بل سيفكر في كيفية تجاوز الطابور الطويل للحصول على الخبز، وكيف يمكن تعبئة غالونات المياه الفارغة. وفي الليل، سوف يفكر في كيفية حماية الأطفال من صقيع الحياة وجمر القصف، وفي لحظة يأس/ قصف، سيخطر بباله سؤال واحد: لماذا نموت؟
وهنا، لا يقصد بالموت، الفناء الجسدي. فمن يعيش في خيمة، يدرك معاني أخرى للموت تبدأ بالدم ولا تنتهي بجوع أو عطش أو ارتجاف. ومن يفقد بيته وعمله، يدرك معاني إضافية للموت. أما من يفقد عائلته كاملةً ويصبح "الناجي الوحيد"، فيصبح الموت رفيقاً دائماً لعينيه.
لا تحدثني عن الصبر، ولا ترى في ضعفي وحزني ودموعي فوق الركام "صموداً"، بل يأساً. ولا أريد منك سوى إجابة واحدة، أي إجابة، تخبرني فيها، لماذا هذا الموت كله؟ وإن كان له آخر، فما آخره؟ وإن كان سيسفر عن دولة أو خيمة، فلا فرق بين الرايتين.
لماذا لا نموت الآن وتنتهي الحكاية؟
لا يهمني من ينتصر ومَن يُهزم. لا يهمني إن رُفعت شارات النصر بعد الإبادة أم خُفضت. ما يهمني هو أن تنتهي الإبادة، أن نعرف لمرة واحدة: لماذا نموت؟ وأن يتوقف أهلي عن الموت صباحاً ومساءً، وأن يُمنحوا وقتاً كافياً للحزن على أحبائهم، أولئك الذين كُفّنوا بأكياس بلاستيكية، ورحلوا دون جنازات. أولئك الذين لملموا عظامهم من الشوارع، ودُفنوا ناقصين يداً أو قدماً أو رأساً، في مقابر جماعية.
لا يهمني أي شيء، لكنني لا أريد أن يظلّ الموت جار أهلي، وأن يصحوا ويناموا على رؤيته، وأن يمرّ وقت طويل، طويل جداً، حتى ينسوا ما حدث، ولن ينسوا. فمن ينسى أنه قُتل في العيد، بينما يتبادل الناس القُبلات والزيارات العائلية في الخارج؟
أنا لا يهمني ماذا حدث في العالم من قبل، لا يشغل تفكيري ذلك. فمن يعيش في خيمة، لن يفكر في التاريخ، بل سيفكر في كيفية تجاوز الطابور الطويل للحصول على الخبز
من ينسى أنّ غيره كان يحتفل، بينما هو جائع في خيمته أو في بيته المقصوف جزئياً؟ ومن ينسى أنه مات كثيراً دون أن يعرف ولو لمرة واحدة لماذا كان يموت؟ لماذا كان يجب أن يموت؟
على أي حال، ما دام علينا أن نموت في النهاية، فلماذا لا نموت الآن موتةً أبدية وتنتهي الحكاية؟ فلا نعود نزعج العالم بموتنا المتكرر، ولا بسؤالنا عن ماهية الموت وسببه. أو، فلنُمنح فرصةً واحدةً فقط للبحث عن قبور الذين نُحبّهم، لنقف أمام رفاتهم في التراب، ونحاول جاهدين أن نصل إلى سبب واحد يجعلهم يعرفون: لماذا ماتوا؟ لماذا كان يجب أن يموتوا؟ ولماذا لم يكن هناك احتمال آخر يتوّج بغير موتهم؟ وهل حقاً كانت دماؤهم عبرةً أو فكرةً أو طريقاً، أو كانت مجرّد ماء، انسكب في نهر التاريخ ولم يلتفت إليه أحد؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Hossam Sami -
منذ 3 أيامالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...
diala alghadhban -
منذ 5 أيامو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ 5 أيامشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ 6 أيامجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر