في صندوق رسائل فيسبوك، وجدت رسالةً فيها جملة مضى على كتابتها وقت طويل. كانت من صديق شاركني صور الربيع، وكانت مصحوبةً بجملة "بلّش الربيع".
كانت هذه المرة الأولى التي أذهب فيها نحو ما أسمّيه "صندوق الذكريات" خاصّتي، وفيه ألبومات لصور التقطها قبل الحرب. خاصية الموبايل تُخرج لي يومياً صوراً منه دون أن أبحث عنها. تحوّلت هذه الخاصية إلى"ميكانيزم" دفاعي حقيقي للهروب من ضغط توحش الأيام. اللحظة التي يُطلق الهاتف فيها صورةً من "ذاكرته"، من زمن سابق لأيام الإبادة هذه، حتى لو كان زمناً مملّاً، لحظة مخيفة يبدو فيها كأنّ الحرب باتت أسلوب حياة غزّياً خالصاً مستمرّاً، ونحن في طور السنة الثانية منها.
تسرقني وأسرقها الصور التي يرشحها لي هاتفي، فتأخذني لحظة كرسالة قدر خفية تربت على القهر الذي بات يسكن تفاصيلي اليومية. لكنها المرة الأولى التي تدفع بي جملة نحو "صندوق الذكريات"، حتى لتبدو هذه الجملة أشبه بما قالته فيروز في أغنيتها: "طلّ وسألني إذا نيسان دقّ الباب". تساؤل وقفت أمامه فيروز، كما وقفت أنا: هل فعلاً جاء نيسان؟ هل فعلاً نحن في الربيع؟
"بلّش الربيع"! كانت بمثابة فعل الدفع نحو الصندوق. أريد أيضاً مشاركة صور الربيع تلك. أنا أيضاً لديّ ربيع!
أحبّ كيف تبدو المدينة في الربيع. شيء ما يجعلك تظنّ أنّ وقتاً فرّ هارباً منك. هجرك وتركك بعيداً تلوك الذاكرة نفسها، وتبحث عن دليل على أنّ لديّ "نيسان"، وما زال يدقّ الباب
"سارقات الربيع"
أحبّ كيف تبدو المدينة في الربيع. شيء ما يجعلك تظنّ أنّ وقتاً فرّ هارباً منك. هجرك وتركك بعيداً تلوك الذاكرة نفسها، وتبحث عن دليل على أنّ لديّ "نيسان"، وما زال يدقّ الباب. الشعور بالوقت في غزّة وأيام حربها يبدو غريباً، إذ لا وقت إلا للانفجارات، وتتبّع خرائط الإخلاء، ومواعيد الطوابير، ومواعيد فصل المولدات، ومواعيد الالتحاق بالمواقع التي توفر خدمات الإنترنت. الوقت يركض كما العالم يركض نحوه، فيما نحن نركض في وقت يخصنا وحدنا. فلكٌ واحد مغلق تدور فيه الساعات، وكأنّ الحياة تمشي خارج حدودنا أسرع مما نحن عليه.
"بلّش الربيع!"
الجملة الحماسية هذه تنذر المدينة دائماً بأن تخلع "جاكيتها" أو "جاكيتاتها". نطلق أنا وصديقاتي على فصل الربيع "خلع الجاكيتات الثقيلة". إنها صفارة الانطلاق الخاصة بنا نحو الشرق -شرقي القطاع- في يوم كهذا من أيام الربيع الذي يحملني وصديقاتي نحو بيت حانون، إلى مدخلها من الجهة الجنوبية. تشير البوصلة إلى مهرجان ألوان خاص؛ أرض واسعة يغزوها اللون الذهبي الذي من القمح. علينا أن نتجاوز تحذيرات الناطور الذي يقف عند مدخل الأرض يلوّح بعصاه، وينادي بلهجة بعيدة: "وين… وين؟ رح يتكسّر القمح!".
غزّة لها أسلوبها الخاص بالندّية، فأين سيذهب الورد إن لم تشبع حواس البلاد منه؟
لكننا بوداعة أطفال مقصودة نلوّح له، ونصرخ: "موسم سعيد يا عمّ، نحن لسنا سارقات قمح، نحن سارقات لحظة فقط! نريد صورةً، أو صوراً".
ويبدأ الصراع مع الوقت بأن نلتقط أكبر عدد ممكن من الصور قبل أن يأتي الناطور، وينهرنا لأنه يرانا "سارقات قمح". الوقت كان أشبه بلعبة "ترامبولين" يمرح بها الأطفال في مواسم العيد. وعندما يقترب الناطور نعتذر ككاذبات: "نحن لم نكن نعرف أنه ليس مسموحاً!".
فيقول بوداعة المرحّبين: "ولو، أهلاً وسهلاً بكنّ!".
وبعد هروبنا الضاحك، نلهو هناك عند بيّارات البرتقال إلى الشرق قليلاً، حيث يبدو زهر البرتقال لامعاً ومهرجاناً مختلطاً بالروائح. في إحدى المرات، جازفنا ودخلنا عبر الطريق الترابي إلى شارع اسمه "شارع البنات"، بالسيارة، متجاوزين قانون السير على الأقدام. ظننّا أنّ معنا رخصةً خاصةً بما أنّ الشارع يحمل نوعنا الاجتماعي، لكننا بعد خطوتين اكتشفنا سرّ خسارتنا هذه؛ إذ كيف يبدو الربيع ربيعاً وأنت تسير إليه بقدمين محمولتين في سيارة؟ هذه خيانة للحواس! ومن السيارة نزلنا بأقدام حافية متجاوزات شعور الشوك الذي يخزنا، وبدأنا نقفز في المساحات الخضراء الشاسعة تلك، حتى نادت علينا السيدة صاحبة البيت البسيط وسألتنا: "من أنتنّ؟".
بسرعة لملمنا أقدامنا الحافية، وهربنا غرباً، وبصوت عالٍ لوّحت لها وأجبتها: "نحن سارقات الربيع!".
وحين ركبنا السيارة كانت الأغنية قد بدأت. وعند مقطع "يا رب نسمة هوا تردّ الويلف ليَّا"، صارت البيّارات خلفنا وغادرنا نقلب الصور في الهواتف ونخطّ المواقف في الذاكرة.
من الباص تفوح رائحة الحرب المخلوطة "بالسيرج"، وهو وقود بديل في ظلّ انقطاع الوقود. لمحت صورةً لرجل يعزف الساكسفون، وصوت بكاء ونحيب… لكن لم أحمل رائحة قطاف الورد في يدي، برغم أنّ الرجل مازحني حينما صعد طفل إلى الباص، قائلاً: "بس لسه الباص بيحمل ورد!"
كيف يمرّ العيد بلا ورد؟
"بلّش الربيع!"
إنها الإشارة إلى محاولة اكتشاف أخرى نحو الشرق، حيث كانت آخر مرّة "بلّش فيها الربيع" في نيسان/ أبريل 2023. كانت الأرض شرقي خان يونس، تنذر بمهرجان ألوان آخر أيضاً. قمح ذهبي، وبعض أزهار تشير إلى الربيع وبدايته، وكأنّ البلاد تخلع أيضاً "جاكيتاتها"، فتكشف أشكالاً أخرى للألوان تشكّل فسحةً شرقيةً قليلةً تهرب إليها من صخب الحياة إلى صخب الربيع حيث تتنافس ألوانه هناك على طول الخط الشرقي للقطاع، لتصير ملامح القطاع المحصور والمحاصر أشبه بحالة الربيع في كل العالم. الربيع كان تذكاراً لغزّة بأنها صورة مماثلة لما في العالم كله.
إذ حين يأتي نيسان بأيامه الربيعية، يدقّ أبواب المدينة فتفتح له أبواباً كثيرةً، وعلى إثره تشعر بأنّ عليها الخروج من معاطفها الغامقة إلى مهرجان الألوان الربيعي الذي يحيط بالقطاع عبر طول الخط الشرقي.
الربيع كان تذكاراً لغزّة بأنها صورة مماثلة لما في العالم كله.
"بلّش الربيع!" ذو الرائحة الخاطفة في وسط المدينة وشوارعها حين تأتيها الأعياد. كيف يمرّ العيد بلا ورد؟ هناك في شارع الوحدة، يقع أهم محال الورد اسمه "سفير الحب". بداية اكتشاف تنسيق الورد في "بوكيه" كانت من عنده. محل صغير تجذبك إليه حالة اللون الأحمر التي تسيطر على بوابته، وموسيقى من ساكسفون تشعر بها عند وقوفك أمام مهرجان الورد الأحمر، وعلى الرصيف الآخر كنت أنتظر الباص الخاص بالمحل الذي يأتي بالورد، فأدخل إليه دخول منتظر أوّل القطاف. كنت أظن أن الورد يشبه التقاط الخبز الساخن، والتقاط الثمرة عن الشجرة لأول مرة. يشبه متعة أن تأخذ أول قطفة بيدك، ليظل المحل سفيراً لقطفة الورد الأولى. بالنسبة لي، ظلّت أمي لسنوات تمنعني في عيدها أن أجلب لها ورداً من محل آخر. بعد حين، اكتشفت محلاً يبدو فيه الورد مصفوفاً كزهرات في حديقة منظمة؛ خليط ألوان من البنفسج، والجوري، والأبيض والزهري، بشكل يجعلك تظنّ أنّ "أسمهان" تقف عند الباب وتنادي: "يا بدع الورد، يا جمال الورد"... وتستجيب لندائها لأنّ الربيع "بلّش" حقاً.
"سفيرة الورد"
حينما "بلّش الربيع" الماضي، قابلت عاملاً من عاملي محل "سفير الحب". كان يقود الباص ذاته الذي عرفت منه متعة القطاف الأول للورد. لكن الباص صار وسيلةً تنقل الركاب من النصيرات حتى دير البلح. ومن الباص تفوح رائحة الحرب المخلوطة "بالسيرج"، وهو وقود بديل في ظلّ انقطاع الوقود. لمحت صورةً لرجل يعزف الساكسفون، وصوت بكاء ونحيب… لكن لم أحمل رائحة قطاف الورد في يدي، برغم أنّ الرجل مازحني حينما صعد طفل إلى الباص، قائلاً:
"بس لسه الباص بيحمل ورد!".
قبل أيام، مررت بشارع النصر حيث "فلور"، وهو المحل الثاني في تجربة الربيع خاصتي. المحل صار مكان نزوح لعائلة الرجل الذي يسكن في بيت لاهيا، وهي سفيرة الورد الأولى للقطاع وللعالم. وحينما ضيّق عليها الاحتلال بحصاره منذ 2007، ومن ثم توقفت الحكومة الهولندية عن دعم زراعة الورود منذ العام 2016، صارت بيت لاهيا تصدّر للسوق المحلي كبديل حيّ. غزّة لها أسلوبها الخاص بالندّية، فأين سيذهب الورد إن لم تشبع حواس البلاد منه؟
على بوابة المحل يقف الرجل في كشك بسيط استبدل فيه مهمة تنسيق الورد بتنسيق بعض المعلبات التي صارت بديلاً لتجارة الورد تلك. لوّحت للرجل الذي كان يتناول وجبةً من العدس في صحن، ومضيت أبحث عن صورة أصف بها صوت أسمهان مختلطاً بالهزل والبكاء وهي تغنّي: "يا بدع الورد، يا جمال الورد"!
تمرّ أمام الربيع لأوّل مرة بسيارة تحمل قدميك. وخز الشوك في القدمين الحافيتين في الماضي، يخز قلبك الآن، ولا يمكن لك أن تتجاهله فيما ترى الحرب والآليات تقضم كل المساحة الشرقية، التي كانت مساحة إنذار الربيع الأبدي للمدينة -ستُسمى في ما بعد "المنطقة العازلة"
وخز الشوك في قلبي
لقد تنازل كل شيء عن دوره في أيام الحرب هذه التي ارتاحت يدها قليلاً ثم عادت. نجحت في أيام استراحتها تلك في أن أمرّ بالربيع الذي بدا غريباً حقاً. إنها المرة الأولى التي أعود فيها للمرور نحو جنوب القطاع عبر شارع صلاح الدين، وعبر الحاجز الذي أفرزته الحرب. أن تمرّ سيارتك بألوان كثيرة، لكن في أراضٍ مهجورة تسمع فيها صوتاً ما ينادي على سارقي الربيع… إلا أن مدفعية الحرب وحواجزها تخطف الصوت وتغلق فمه وتضع سلاحاً في رأس المنادي، وتقول: "ما في حدا". تمرّ أمام الربيع لأوّل مرة بسيارة تحمل قدميك. وخز الشوك في القدمين الحافيتين في الماضي، يخز قلبك الآن، ولا يمكن لك أن تتجاهله فيما ترى الحرب والآليات تقضم كل المساحة الشرقية، التي كانت مساحة إنذار الربيع الأبدي للمدينة -ستُسمى في ما بعد "المنطقة العازلة"- وغيرها من أراضٍ افترشت بألوان مهرجان الربيع كأنها تتجهز لاستقبال السارقين… لكن الحاجز يقف بثقله عليها، ويقطع يدها كلما لوّحت بزهرة ربيع.
"بلّش الربيع"!
كانت إشارة الغرق في "صندوق ذكريات" لأول مرة دون أن تدفعني ذاكرتي لأجد نفسي أخبّئ وجهي، و"طار فيّي الربيع". حاولت أن أشرح أنني أيضاً أمتلك "ربيعاً"، لكنني نظرت فلم أجد سوى ربيع لم أسرقه منذ عامين.
"بلّش" الربيع وغيره من المواسم بدأت. صارت إشارة جملة فيروز حين قالت: "أيام عالبال بتعنّ وتروح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
diala alghadhban -
منذ يومينو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ يومينشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ يومينجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...