شغلت فكرة المعجزة حيّزاً كبيراً من الاهتمام، في الوجدان الديني الجمعي على وجه عام، وفي الوجدان الإسلامي على وجه الخصوص. في كتابه "المعجزة أو سبات العقل في الإسلام"، تناول المفكر السوري جورج طرابيشي، مسألة تكاثر عدد المعجزات المنسوبة إلى النبي عبر القرون، فذكر أنّ سيرة ابن هشام -وهي من أقدم السير النبوية- لم تذكر إلا عشر معجزات فقط، بينما فاق عدد المعجزات التي أوردها علي بن برهان الدين الحلبي، المتوفى سنة 1044هـ، في كتابه "السيرة الحلبية"، الألف معجزة.
على النحو ذاته، تواترت أخبار الكرامات والأفعال الخارقة للعادة المنسوبة إلى الأولياء، وتعددت آراء الفرق الإسلامية بخصوص الاعتراف بتلك الخوارق، بين من أقرّها ووافق عليها من جهة، ومن رفضها وأنكرها من جهة أخرى.
المعتزلة والخوارج
رفض المعتزلة الاعتراف بالكرامات، وبنوا موقفهم على أساس أنّ الإتيان بخوارق العادات، هو من قبيل المعجزات التي اختص الله بها الأنبياء والرسل وحدهم، دوناً عن غيرهم، وذلك بهدف إثبات صدق حديثهم، وتسهيل مهمتهم في أثناء الدعوة في الأقوام التي بُعثوا إليها. من هنا، لم يصحّ عند المعتزلة أن يؤيَّد غير الأنبياء بالخوارق، لأنّ ذلك يُسقط الحالة الاستثنائية التي يتمتع بها الأنبياء، وبذلك يشتبه الأمر على الناس ويختلط عليهم. وفي هذا المعنى، نقل ابن أبي العزّ الحنفي، في شرحه للعقيدة الطحاوية عن بعض أئمة المعتزلة: "... لو صحت -الكرامة- لأشبهت المعجزة، فيؤدي إلى التباس النبي بالوليّ...".
رفض المعتزلة الاعتراف بالكرامات، وبنوا موقفهم على أساس أنّ الإتيان بخوارق العادات، هو من قبيل المعجزات التي اختص الله بها الأنبياء والرسل وحدهم
كذلك، شكّك المعتزلة في أخبار وقوع الكرامات للصحابة والتابعين. في هذا السياق، ضعّف القاضي عبد الجبار الهمذاني، في كتابه "المغني في أبواب التوحيد والعدل"، الروايات التي تحدثت عن الخوارق المنسوبة إلى عمر بن الخطاب، وعليّ بن أبي طالب، وأمثالهما، وقال إنه "لو ثبتت الكرامة لهؤلاء، فقد كان من الواجب أن تظهر في المواقف الصعبة التي احتاجوا إليها... فقد كان أولى بأن يظهر المعجز على أمير المؤمنين -يقصد عليّاً بن أبي طالب- في حال منازعة غيره له كمعاوية وغيره؛ لأنّه كان أقوى في إزالة الشبهة وفي الاستغناء عن التحكيم الذي نتج من خلاف الخوارج ما نتج... وكان ظهورها ربما يغني عن تكليف المحاربة...".
على الدرب نفسه، سار الخوارج عندما وافقوا المعتزلة في إنكار الاعتراف بالكرامات. فلم تتطرق كتبهم القديمة إلى ذكر خوارق العادات. برغم ذلك، أشارت بعض المراجع الإباضية -ولا سيما الحديثة- إلى إمكانية وقوع بعض الكرامات. على سبيل المثال، ذكر مفتي عمان الإباضي أحمد الخليلي، أنّ الكرامة جائزة للأولياء، واستدلّ على ذلك بقصة أصحاب الكهف الواردة في القرآن الكريم.
الأشاعرة والسلفية
على النقيض من المعتزلة والخوارج، اعترف أهل السنّة والجماعة بكرامات الأولياء، وعدّوها امتداداً لمعجزات الأنبياء والرسل.
في هذا المعنى، قال الإمام أبو جعفر الطحاوي، في عقيدته المشهورة المسمّاة بـ"العقيدة الطحاوية"، وهي من أشهر المتون العقائدية عند أهل السنّة والجماعة: "ونؤمن بما جاء من كراماتهم -أي الصحابة- وصحّ عن الثقات من رواياتهم".
في كتابه "شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة"، قام هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري اللالكائي، بذكر مجموعة كبيرة من الكرامات المنسوبة إلى الصحابة، والتي تقبّلها أهل السنّة فذاعت في ما بينهم واشتهرت. على سبيل المثال، نقل عن أبي بكر الصديق، أنه قد عرف عند وفاته بجنس الجنين الذي كان في بطن إحدى زوجاته، وأنه طلب من عائشة، أن تراعي حق أختها في الميراث بعد موته. في السياق نفسه، أورد اللالكائي، مجموعةً من الكرامات المتفرّقة عن عمر بن الخطاب، منها أنّه قطع خطبته في أحد الأيام في المسجد النبوي في المدينة المنوّرة، ونادى من فوق المنبر: "يَا سَارِيَةُ بْنَ زَنِيمٍ الْجَبَلَ، مَنِ اسْتَرْعَى الذِّئْبَ فَقَدْ ظَلَمَ"، فإذا بصوته وقد تجاوز حدود الزمان والمكان، ليصل إلى سارية في العراق، في أثناء قتاله ضد بعض كتائب الجيش الفارسي.
على النقيض من المعتزلة والخوارج، اعترف أهل السنّة والجماعة بكرامات الأولياء، وعدّوها امتداداً لمعجزات الأنبياء والرسل.
من جهة أخرى، تواترت أخبار الكرامات التي وقعت لأئمة أهل السنّة، ومن ذلك ما ذكره أبو بكر البيهقي، في كتابه "مناقب الشافعي"، عندما تحدث عن بعض الكرامات المنسوبة إلى الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ومنها أنه كان يعرف مهنة الرجل قبل أن يسأله، وأنه عند وفاته قد أخبر أصحابه بمصائرهم، فقال لبعضهم إنه سيدخل السجن، وإن البعض الآخر سوف يعود لاتّباع مذهب الإمام مالك بن أنس، فيما أخبر الربيع بن سليمان بأنه هو الذي سيحمل عبء نشر علمه بين الناس. كذلك، اشتهر الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، بالعديد من الكرامات والخوارق التي وقعت له زمن محنة خلق القرآن، ومن أشهرها أنه في أثناء تعذيبه، كاد سرواله أن يسقط، وكادت عورته أن تنكشف أمام الناس، فإذا بيد ذهبية تخرج من باطن الأرض وترفع سروال ابن حنبل، وذلك حسب ما يذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي، في كتابه "مناقب الإمام أحمد بن حنبل".
الشيعة
يثبّت الشيعة كرامات الأولياء والأئمة. وفي هذا السياق، صُنّفت العديد من الكتب التي تحدثت عن الكرامات الباهرة التي وقعت للأئمة الشيعة الاثني عشرية. من أهم تلك المؤلفات، كلّ من "نوادر المعجزات في مناقب الأئمة الهداة"، لمحمد بن جرير الطبري الإمامي، و"عيون المعجزات" للحسين بن عبد الوهاب، و"مدينة المعاجز" لهاشم البحراني.
في كتابه "نوادر المعجزات"، تحدث الطبري الإمامي، عن السبب الديني الداعي إلى تأييد الأئمة بالكرامات، فقال: "ولو لم يجعلهم كذلك -قادرين كاملين عالمين معصومين- لم تبدُ من أولهم وأوسطهم وآخرهم القدرة الباهرة، والمعجزة التامة، والبراهين الساطعة، والدلائل الواضحة، والعلوم الكاملة وما اتّبعهم أحد، وما آمن بهم نفر ولصارت أمور الخلق داعيةً إلى البوار وذهاب الحرث والنسل...". تاريخياً، فُسّرت كثرة الكرامات المنسوبة إلى الأئمة بكونها ردّ فعل على الظروف الصعبة التي عاشوا فيها. في هذا المعنى، قال جورج طرابيشي: "إن أوّل ما يميز أدبيات المعجزات الشيعية الإمامية، هو تضخّم الخيال كبديل تعويضي عن انكماش الواقع".
يؤمن الصوفية بأنّ العديد من الأولياء قد حصلت لهم الكرامات في حياتهم وبعد موتهم. ويعتقدون أنّ الأولياء المعروفون باسم "رجال الغيب"
بشكل عام، سيلاحظ الباحث في كرامات أئمة الشيعة، تعدد أشكالها وتباين خصائصها. على سبيل المثال، توجد بعض الكرامات المرتبطة بالولادة، ومنها أنّ عليّاً بن ابي طالب، بعد ولادته، كلّم النبي مباشرةً، وقال له: "السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم تنحنح بإذن الله تعالى، وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون". في حالات أخرى، تظهر الكرامة على شكل قيام الإمام بمسخ أحد معارضيه. من ذلك أنّ رجلاً قد غصب زوجة أحد الشيعة، فجاء هذا الشيعيّ إلى عليّ بن أبي طالب، شاكياً، فأرسل عليّ بعمار بن ياسر، ليأتي له بهذا الغاصب، فلمّا حضر أمامه، قال لعمار: "يا عمار، جرّده من ثيابه"، وقرعه بالقضيب على كبده، وقال: "اخسأ لعنك الله"، فمُسخ هذا الرجل وتحوّل إلى سلحفاة! كذلك، حفلت المدوّنات الشيعية بأخبار الكرامات المختصّة بالقدرة على الحديث بلغات متعددة، إذ ورد على لسان الإمام الكاظم، قوله: "إنّ الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا منطق الطير والبهائم، فمن لم تكن فيه هذه الخصال فليس بإمام...". كما جاء في بعض الروايات أنّ الحسين بن علي، لقي أسداً وهو في طريقه إلى الكوفة، "فسأله: ما حال الناس بالكوفة؟ فردّ الأسد عندها: قلوبهم معك وسيوفهم عليك..."!
الصوفية
يؤمن الصوفية بأنّ العديد من الأولياء قد حصلت لهم الكرامات في حياتهم وبعد موتهم. ويعتقدون أنّ الأولياء المعروفون باسم "رجال الغيب"، والذين تتباين مكانتهم ويتوزعون على طبقات الأقطاب، والأبدال، والأوتاد، والنقباء، والنجباء، قد أوتوا القدرة على القيام بعدد كبير من الخوارق التي مُنحت لهم من خلال العناية الإلهية.
على سبيل المثال، تواترت أخبار الكرامات التي وقعت لمجموعة من التابعين الأتقياء الذين عُرفوا باسم "الزّهاد الثمانية". من هؤلاء التابعي أويس القرني. يذكر أبو نعيم الأصبهاني، في كتابه "حلية الأولياء وطبقات الأصفياء"، أنه -أي أويس- قد أخبر بعض أصحابه، بمقتل عمر بن الخطاب، على يد أبي لؤلؤة المجوسي، برغم أنّ أخبار هذه الحادثة لم تكن قد انتقلت بعد من المدينة إلى الكوفة حيث يسكن أويس. ومن هؤلاء الزهّاد، هرم بن حيان العبدي، الذي قيل إنّ: "السماء قد أمطرت على قبره في اليوم الذي دُفن فيه، وما لبث أن نبت العشب على قبره في اليوم نفسه"، وذلك بحسب ما يذكر ابن سعد، في كتابه "الطبقات الكبرى". كذلك، تحدّث ابن عساكر، في كتابه "تاريخ دمشق"، عن كرامات التابعي أبي مسلم الخولاني، الذي خرج سالماً من النار، بعدما ألقاه فيها أحد مدّعي النبوّة!
من جهة أخرى، امتلأ كتاب "الطبقات الكبرى"، لعبد الوهاب الشعراني، بأخبار الكرامات التي وقعت لأقطاب الصوفية المعروفين. على سبيل المثال، لم يقبل القطب عبد القادر الجيلاني، الرضاعة عندما وُلد بسبب صوم رمضان. كما جاء في أخبار القطب أحمد البدوي، أنه لمّا هوجم من قِبل عدد كبير من قطّاع الطريق في أثناء رحلته إلى مصر، فإنه "... أومأ إليهم بيده فوقعوا أجمعين!". أما القطب إبراهيم الدسوقي، فيذكر الشعراني أنه "كان يتكلم بالعجمي والسرياني والعبراني والزنجي وسائر لغات الطيور والوحش"، كما ورد عنه أنه أحيا أحد الأطفال بعد موته!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جعفر أحمد الكردي -
منذ 11 ساعةجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 14 ساعةعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 3 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ 5 أيامأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...