شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
الصين تضرب عبر تيك توك… كيف تترنح البراندات أمام جيل Z؟

الصين تضرب عبر تيك توك… كيف تترنح البراندات أمام جيل Z؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

اقتصاد نحن والتنوّع

الجمعة 18 أبريل 202501:35 م

في مفارقة ليست بريئةً، تراند اليوم ليس شنطةً فاخرةً من براند عالمي. التراند هو كلفة هذه الشنطة! ومن كان يظنّ أنّ السوشال ميديا ستتغلغل في ثقافة البشر إلى حدّ تصبح فيه أداةً من أدوات الحرب الناعمة؟ 

في زمن الحروب الحديثة، وفي ردّ مبدئي على قرارات ترامب برفع الرسوم الجمركية، أشهرت الصين سلاحاً جديداً، يمكن وصفه بالـ"سيريالي"، فيديو مدّته 30 ثانيةً على منصة "تيك توك". 

نعم، سلاح اليوم هو تراند جديد على منصة "تيك توك"، افتعل ضجةً عالميةً كبيرةً قد تغيّر سردية مجتمع الفخامة إلى ما لا عودة منه. 

كذبة البراندات

الحرب الدائرة قد تبدو اقتصاديةً، لكن أدواتها متنوعة حدّ العجب، ونتائجها تتوسع لتطال العالم بقطاعاته وفئاته كافة. آخر فصل من فصول هذه الحرب كان رقمياً، وهو ما نراه على "تيك توك" من خلال تراند صيني جديد يمكن نعته بـ"تراند الفضح". الفكرة بسيطة وذكية: صانع محتوى صيني، قد يكون تاجراً، أو موظفاً في مصنع، أو حتى شخصاً مؤثراً، يعرض منتجاً من علامة تجارية غربية فاخرة مثل Hermès أو Dior، أو Gucci، ويقارن بين سعر بيع المنتج في أوروبا أو الولايات المتحدة، وسعر إنتاجه الحقيقي في الصين. 

الفروقات صادمة: حقيبة تباع بـ3،800 دولار، كلفتها في المصنع 100 دولار، أو حذاء يباع بـ1،200 دولار، تكلفته 90 دولاراً. 

التراند يتضمن فيديوهات تُظهر المصنّعين وهم يكشفون تفاصيل الأسعار ويقارنونها بالأرباح الهائلة التي تجنيها الشركات الغربية. هذا ليس كل شيء؛ فهناك فيديوهات أخرى، مثل فيديو لشاب صيني يستعرض قميصاً يباع بـ700 دولار ويقول: "نحن نصنعه هنا، ويباع هناك وكأنه قطعة من الماس". 

الصين فهمت مبكراً أن من يملك السردية الرقمية يملك مفاتيح التأثير العالمي. وعبر حملة ذكية على تيك توك، أطلقت سيلاً من الفيديوهات القصيرة التي سردت، صدمت، وأربكت الأسواق. لم تحتج إلى خطاب سياسي أو وثائقيات مطوّلة؛ كانت 30 ثانية كافية لتحويل المستهلك من مُعجب بالماركة إلى ناقد شرس يطالب بالحقيقة

يكفي أن نكتب على "تيك توك"، "الصين تفضح أسعار البراندات العالمية"، لنرى كيف يفضح الصينيون كل شيء، من السعر على موقع العلامة التجارية، إلى صور من خطوط الإنتاج.

لأنّ الموضوع ليس مجرد "فضول صناعي"، وليس حتى دفاعاً عن حقوق المستهلك. هو ببساطة إعادة توزيع السردية.

لسنوات طويلة، كانت السردية الاحتكارية للماركات الغربية تقول: نحن التميّز، نحن الذوق، ونحن نمتلك حق التسعير لأننا نمنحكم شعوراً بالفخامة. لكن عندما يكشف شخص عادي كيف أنّ "الفخامة" تُحاك بخيط رخيص، وتسعّر بـ100 ضعف كلفتها، تهتزّ السردية من جذورها.

الجيل الذي يغير قواعد اللعبة

هنا يكمن دور الجمهور، خصوصاً جيل Z، الجيل الذي نشأ على المحتوى القصير، وعلى ثقافة التحدّي، والذي لا يكنّ "الولاء" للماركات. يسجّل عن هذا الجيل أنه يثق بمن يتفوه الصراحة، وبمن يُظهر الكواليس، وبمن يُضحك وفي الوقت نفسه يُربك. 

ولأنّ الصين تدرك هذا جيداً، عمدت إلى إغراق منصة جيل Z تحديداً، بفيديوهات تكشف الحقيقة الخفية، لتخلق الفضول لدى هذه الفئة، ويبدأ بذلك التشكيك في السلطة التجارية الغربية.

الصين، بذكائها المعتاد، لم تتصرف كضحية. بل على العكس، إنها تلعب دور المخرِج، فهي من خلال منصة إلكترونية: تسرد، تصدم، وتدفع الناس إلى مشاركة الفيديو، وتبدأ رحلة البحث عن الحقائق. وهنا تماماً، يتحول الرأي العام من مستهلك سلبي إلى ناقد فعلي.

هل هو تراند عفوي؟

لا. لا شيء بريئاً في عالم السرديات. التراند منظّم، منتشر، ومرصود من الإعلام الغربي. بحسب مقال نشره موقع Business Insider، فالفيديوهات التي تكشف الفرق بين كلفة الإنتاج وسعر البيع في الماركات العالمية أصبح جزءاً من "حرب سردية" صينية، كونها لا تركز على الأسعار فحسب، بل أحياناً تفضح شروط العمل، أرباح الشركات، وحتى التلاعب بالحرفية.

منصة "تيك توك"، هي منتج صيني يحاول ترامب، منعه من الولايات المتحدة الأمريكية، وصار واضحاً الآن أنها ليست مجرد فضاء ترفيهي، بل أداة ناعمة لبث الرسائل الكبرى. 

جيل Z، الذي لا يكن ولاءً أعمى للماركات، صار اليوم قوة ضاربة في قلب الحرب الناعمة، يبحث، يشكّك، ويعيد تشكيل مفهوم الفخامة بعيداً عن الأسعار الباهظة.

وبعكس فيسبوك ويوتيوب، "تيك توك" تعتمد على خوارزميات تدفع المحتوى "المشوّق" والساخر إلى الواجهة. وهذا بالضبط ما تستغلّه الصين. لا تحتاج إلى بث وثائقيات طويلة، يكفي فيديو فيه موسيقى رائجة، شخص يحكي بثقة، وبيانات رقمية دقيقة.

تأثير "تيك توك" على السوق؟

بدأت العلامات التجارية تشعر بالخطر. لم يعد كافياً تبرير الأسعار بالتصميم أو الحصرية. الصورة اهتزّت. صرنا اليوم أمام مشهدية جديدة: فالحديث عن علامة تجارية "مهيوبة" مثل Balenciaga أو Louis Vuitton، أصبح مزيجاً من الضحك والغضب، بسبب فيديو "فضح". 

أما الجيل الجديد من المستهلكين، فبدأ بالبحث عن بدائل، وطرح أسئلةً جديدةً، وإعادة النظر في "فكرة الفخامة" كلها.

يُذكر أنّ هذه العلامات التجارية لطالما واجهت فضائح فرديةً، لكنها تمكنت من احتوائها، كتلك التي حصلت قبل نحو شهر، حيث نشرت فتاة أجنبية على حسابها في "تيك توك"، فيديو تروي فيه كيف أنّ أحمر الشفاه الذي اشترته على أنه "لوريال"، مطبوع عليه من الداخل "ديور"، ما يعني أنّ المصنع نفسه ينتج الاثنين لكن مع فرق السعر. نشرت الفتاة نفسها فيديو آخر تجري فيه مقارنة للمنتجين مع فارق الأسعار الشاسع، ليتبيّن أنّ الفوارق تكاد تكون معدومةً. 

السوق العربي... ماذا عنه؟

قد يخيّل إلى البعض أنّ هذه الحرب الناعمة بين الصين والولايات المتحدة تجري في ساحة لا تخصّنا، لكن الحقيقة أنّ جمهور العالم العربي ليس بعيداً عن المعركة، بل هو في صلبها، فنحن كمستهلكين عرب، نُعدّ من أكثر الشعوب إنفاقاً على العلامات التجارية الغربية، ولا سيّما في الخليج.

ما نراه في هذه الفيديوهات على "تيك توك"، عن حقيبة تباع في نيويورك بـ3،000 دولار بينما تُصنع في الصين بـ80 دولاراً، لا يعني المستهلك الأمريكي أو الأوروبي فحسب، بل يضع أمامنا نحن أيضاً مرآةً لخياراتنا وعلاقتنا بالماركات.

في مجتمعاتنا، حيث تُربط الماركة أحياناً بالمكانة الاجتماعية والهيبة والـ"برستيج"، يصبح تفكيك السردية التي تسوّقها هذه العلامات فعلاً تحررياً. التحرر من الأوهام والمظاهر والضغط الاجتماعي هو ما نحتاجه فعلياً. 

وفي السنوات الأخيرة، سجّل الفضاء الإلكتروني العربي بالفعل موجةً جديدةً من الوعي، خاصةً لدى الجيل الجديد، الذي صار يسأل أكثر عن كواليس عملية الاستهلاك: السعر، مصدر المنتج، الحاجة الفعلية… إلخ. وهنا تأتي قوة "تراند الفضيحة" الصينية، لتغذّي هذا النوع من الأسئلة، لا بل لتعطي أدوات واقعيةً للتحليل والنقاش.

ومع هذا، نجد في الأرشيف العربي مؤخراً الكثير من محاولات الانتفاض على "حتمية امتلاك البراندات"، كشرط للانتماء إلى عالم الفخامة، إذ نشرت حسابات عديدة على "تيك توك" وإنستغرام مقارنات بين أسعار مستحضرات التجميل العالمية التي تباع "بأسعار خيالية"، ونظيراتها المصنعة في المصانع نفسها في كوريا والصين وتركيا، لكنها تباع بأسعار تقلّ عن الثلث. 

لقد تمكنت البضائع الكورية للعناية بالبشرة من اكتساح الأسواق الخليجية والعراقية، فصرنا نرى آلاف المقاطع لصانعي محتوى عرب يجرون فيها مقارنات مباشرةً بين ما يسمونه "dupes" محلية، وعلامات فاخرة عالمية، تحديداً في عالم العطور، "ليس فقط من باب التوفير"، بل من أجل دعم الصناعات المحلية والتحول إلى "الاستهلاك الذكي"، كما حدث في لبنان بعد الأزمة الاقتصادية عام 2019، حيث عاد الحديث عن ضرورة دعم الاقتصاد المحلي من خلال وضع الثقة بالصناعات الوطنية.

في العالم العربي، تيك توك فتح باب الأسئلة: هل الفخامة حقاً تستحق أثمانها؟ أم أننا نشتري وهماً مُغلفاً بشعارات أوروبية براقة؟ ففي الخليج الذي يُعدّ سوقاً ذهبياً للماركات الغربية، بدأت الحسابات على "تيك توك" و"سناب شات" تتكلم عن "الغش التجاري الفاخر"، حيث يتم تصنيع بعض القطع في بلدان غير المذكورة في التسويق، بينما يدفع المستهلك العربي مبالغ طائلةً مقابل الشعار فحسب

وفي تونس والمغرب، ظهرت مؤخراً تراندات مشابهة تسلّط الضوء على العلامات المحلية الناشئة التي تنافس بمكونات طبيعية وأسعار منطقية، مقابل منتجات أوروبية يتم تسويقها عبر إعلانات تتلاعب بالهوية الثقافية، وتفترض أنّ كل ما هو "أوروبي" هو الأفضل.

حتى في الخليج الذي يُعدّ سوقاً ذهبياً للماركات الغربية، بدأت الحسابات على "تيك توك" و"سناب شات" تتكلم عن "الغش التجاري الفاخر"، حيث يتم تصنيع بعض القطع في بلدان غير المذكورة في التسويق، بينما يدفع المستهلك مبالغ طائلةً مقابل الشعار فحسب.

إعادة السردية

هذا النوع من المحتوى ليس للتسلية فحسب، حتى لو لم يعِ ناشروه ذلك، فهو يعيد تشكيل العلاقة بين المستهلك والسلعة. فكل فيديو يكشف فيه شخص عن الفرق بين الأصل والتقليد، أو يكشف آليات التسويق الطبقي، هو سهم صغير يصيب سرديةً عمرها عقود.

والعالم العربي، مع كل أوجاعه الاقتصادية والاجتماعية، لديه اليوم فرصة نادرة:

أن يتحرر من عقدة "البراند"، ويعيد تعريف الفخامة والمكانة الاجتماعية، ويجد المعنى الحقيقي للقوة والنفوذ من داخل ثقافته، لا من استيراد خارجي.

في الختام، الأكيد أنّ قواعد اللعبة تغيرت. وقادة الرأي الذين لطالما استأثروا برواية القصة، صار صوت الجمهور ينافسهم: "نريد أن نعرف القصة الحقيقية". 

أما الصين، دولةً ومجتمعاً، فيبدو أنها فهمت باكراً أن من يملك السردية، يملك القوة، وأن من يملك المنصّة، يمتلك فرصة تغيير موازين السوق، والتأثير على العقول. لذا اختارت أن تقاتل في جولة أولى عبر "تيك توك"، من خلال السرديات والوعي الرقمي والتسويق الذكي، لعلّ العرب يسلكون المسار عينه، ويتجهون نحو الداخل، ويعودون ليأخذوا مكاناً في العالم، لا أن يظلوا سوقاً استهلاكياً كما هو الحال اليوم.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

تنوّع منطقتنا مُدهش

لا ريب في أنّ التعددية الدينية والإثنية والجغرافية في منطقتنا العربية، والغرائب التي تكتنفها، قد أضفت عليها رومانسيةً مغريةً، مع ما يصاحبها من موجات "الاستشراق" والافتتان الغربي.

للأسف، قد سلبنا التطرف الديني والشقاق الأهلي رويداً رويداً، هذه الميزة، وأمسى تعدّدنا نقمةً. لكنّنا في رصيف22، نأمل أن نكون منبراً لكلّ المختلفين/ ات والخارجين/ ات عن القواعد السائدة.

Website by WhiteBeard
Popup Image