وضعوا أنفسهم في صدارة الخطر، تعرّضوا للقصف، والضرب، والتخوين في الشارع. انتُهكت حقوقهم أحياناً، وصودرت معدّاتهم أحياناً أخرى. منهم من أُكلت أتعابهم وتُركوا بلا حماية في معظم الأحيان، ومنهم من جُرح، وآخرون قُتلوا. ومع ذلك، لم تُذكر أسماؤهم، ولم يُمنحوا حتّى أبسط أشكال الاعتراف.
بينما كان العالم يُتابع الحرب الإسرائيلية على لبنان، خلال عامي 2023 و2024، من خلف الشاشات، كانوا هم مَن يحيك المشهد الإعلامي على الأرض، لحظةً بلحظة. أدخلوا الكاميرات إلى الأزقة، تتبّعوا آثار الغارات، وثّقوا ركام الأبنية وآراء أهلها، وفي الوقت نفسه كانوا حماة الفرق الإعلامية، ومستشاريها الأمنيين، وخريطة تحرّكها، ومفتاح عبورها إلى الميدان.
يُطلق عليهم في الأوساط الصحافية اسم "المنسّقين الميدانيين"، أو كما يُعرفون عالمياً بـ"الفيكسر".
وفي بلد كلبنان، حيث لا يوجد تنظيم حديث أو واضح للقطاع الإعلامي، لا يقتصر التجاهل على تغييب أسماء "الفيكسرز"، بل يتعدّاه إلى ما هو أسوأ، وأحياناً أخطر من ذلك بكثير. واقعٌ كشفته الحرب الأخيرة، مُظهرةً معاناة متعدّدة الأوجه، تختلف حسب كل حالة، وظروف العمل، والوسيلة الإعلامية التي يرافقونها، فما هي التحدّيات التي عاناها "الفيكسرز" خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان؟ وما هي الدروس المستقاة لتحسين وضعهم الوظيفي؟
دور جديد... وغامض
خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، كان الظهور الأول لمصطلح "الفيكسرز"، بحسب منظّمة "مراسلون بلا حدود"، حيث أُطلق على المتخصّصين الذين "يُصلحون" أو ينسّقون كل ما يحتاجه الصحافي الزائر.
في بلد كلبنان، حيث لا يوجد تنظيم حديث أو واضح للقطاع الإعلامي، لا يقتصر التجاهل على تغييب أسماء "الفيكسرز"، بل يتعدّاه إلى ما هو أسوأ وأحياناً أخطر من ذلك بكثير. فما هي التحدّيات التي عاناها "الفيكسرز" خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان؟ وما هي الدروس المستقاة لتحسين وضعهم الوظيفي؟
فمن دون "الفيكسر"، لا يستطيع المراسل الأجنبي أن يعمل بسرعة أو بفعالية في الميدان، إذ يمتلك شبكة علاقات واسعة تفتح الأبواب وتُسهّل إجراء المقابلات، في بيئة تسودها الفوضى والنزاع المسلّح، ما يجعله بمثابة البوصلة التي ترشد الصحافي في عالم فقد معالمه المعتادة.
لا يعمل "الفيكسر" في بيئة مستقرّة أو محايدة. هو في قلب النزاع، ابن المنطقة، يعرف خرائط الخطر، مفاتيح الأحياء، ومزاج القوى المتحكّمة في الشارع. أحياناً، يكون سائق التاكسي هو "الفيكسر"، وأحياناً تكون صحافية هي المترجمة والمنسّقة والمرافقة والحامية الشخصية لفريق أجنبي لا يفقه شيئاً عن تفاصيل النزاع المحلّي.
يُعدّ مفهوم "الفيكسر" جديداً في لبنان، بحسب منسّقة "تجمّع نقابة الصحافة البديلة"، إلسي مفرج، ففي الحروب السابقة مثل حرب تموز عام 2006، أو ما سبقها من أحداث، كان المراسلون المحليون في لبنان يؤدّون دور "الفيكسر"، ولكن دون أن يُعرفوا رسمياً بهذا الاسم.
مع اقتراب الحرب، بدأ هذا المفهوم بالظهور تدريجياً، خاصّةً مع قدوم قنوات تلفزيونية أجنبية للعمل في الميدان. وكان كثيرون يتولّون هذا الدور، "دون أن يكون لديهم فهم دقيق لما تعنيه وظيفة الفيكسر"، بحسب مفرّج.
لم يكن أحد يعرف تماماً ما هو "الفيكسر"، وما هي صلاحياته، ومسؤولياته، أو حتّى حقوقه. هذا الغموض أثّر بطبيعة الحال، وفق مفرّج، على الأداء المهني خلال فترة الحرب. فعلى سبيل المثال، هل كان "الفيكسر" هو من يتولّى التنسيق الأمني في المناطق؟ هل كان يجري الاتصالات اللازمة؟ هل كان يملك القدرة على التقييم الأمني وتحديد ما إذا كانت منطقة معينة آمنةً أو لا؟ أو أنه كان يسير فقط وفق ما تطلبه منه الفرق الإعلامية التي يعمل معها؟
من جهة أخرى، هل كان "الفيكسر" يعرف حقوقه من ناحية العقود، والحماية، أو التأمين؟ هل كان يتلقّى وصفاً وظيفياً لمهمّاته؟ هل من المفترض أن يكون مجرد سائق أو دليل ميداني؟ أو أنه يتحمّل أيضاً مسؤوليات التواصل والترجمة والتنسيق الميداني وحتّى تأمين الحماية؟ كل هذه الأسئلة طُرحت وظهرت بوضوح خلال الحرب، حسب ما تقول مفرج.
زاد من هذا الغموض والفوضى، غياب إجراءات رسمية محدّدة من قبل وزارة الإعلام اللبنانية لتسجيل "الفيكسرز"، حيث لم يكن يتم إدراجهم بشكل رسمي ضمن الفرق الإعلامية الأجنبية، برغم أنهم في الواقع كانوا واجهة هذه الفرق الأجنبية بالنسبة إلى الوزارة، التي كانت تطلب وجودهم والتنسيق معهم عند منح الأذونات خلال الحرب، على الرغم من غياب الإطار القانوني لعملهم، ما جعلهم غالباً عرضةً للاستغلال والمخاطر القانونية والأمنية.
لا تدريب ولا حماية
برغم عملها مرافقةً لفرق إعلامية أجنبية خلال الحرب الأخيرة في لبنان، لم تتلقَّ الصحافية آنا ماريا أوهان، أي تدريب رسميّ قبل خوض التغطية الميدانية للحرب، وهي حالة النسبة الأكبر من "الفيكسرز" الذين عملوا خلال الحرب الأخيرة. المؤسّسة التي تعاقدت معها لم تسألها عما إذا كانت تمتلك أصلاً مؤهّلات التعامل مع التغطيات الحربيّة، أو أي معرفة بالإسعافات الأولية أو إجراءات السلامة. كل ما اعتمدت عليه كان خبرتها الشخصية، وفق ما تروي آنا.
كانت لدى آنا، تجربة سابقة في سوريا خلال حصار مدينة حلب. وبرغم أنّ مصطلح "فيكسر"، لم يكن متداولاً حينها بسبب غياب الإعلام المستقل، إلا أنها أدّت فعلياً هذا الدور، وقامت بمرافقة الصحافيين الأجانب وتيسير عملهم على الأرض.
ظروف الحرب السورية، كما تقول آنا، كانت مختلفةً تماماً عن تلك التي عاشتها في لبنان إذ عايشت فيها القصف الجوي والضربات الروسية من قرب، ولم يكن الوضع أفضل من ناحية الحماية حيث لم تُزوَّد بأي معدّات سلامة مثل السترة الواقية أو الخوذة، ولم يُعرَض عليها تأمين صحي. المؤسّسة التي تعاقدت معها تجاهلت هذه الاحتياجات الأساسية، وتركتها عرضةً للخطر المباشر، برغم أنها كانت مهدّدةً بالقصف أو الإصابة في أي لحظة.
"أقلّ ما كان يمكن أن يقدّموه، الحماية الأساسية والتأمين في حال الإصابة أو الدخول إلى المستشفى، ولم يفعلوا"، تقول آنا. وفي غياب أي عقد تأمين صحي، يصبح وقوع الإصابة أو الموت مجرّد رقم إضافي لا تتحمّل أي جهة مسؤوليته.
بدورها، ومع اندلاع الحرب الإسرائيلية على لبنان، كانت الصحافية فاطمة البسّام، تخطو أولى خطواتها كصحافية ميدانية في نزاع بهذا الحجم. تقول: "كنت في الحادية عشرة من عمري خلال حرب تموز 2006، ومنذ ذلك الحين قرّرت أن أصبح صحافيةً لتغطية الحروب، لكن ما واجهته على الأرض في هذه الحرب فاق توقعاتي".
"كنّا جيلاً بلا خبرة سابقة في الحروب، وبلا استعداد نفسي أو مهني، ودون أي دعم من المؤسّسات الإعلامية التي نعمل معها"، تتابع البسّام، التي لم يسبق لها أن تلقَت أيضاً أي تدريب على السلامة أو العمل في مناطق النزاع.
في بعض الحالات، وفّرت الفرق الأجنبية خوذات وسترات، لكن في الغالب، كانت تعتمد البسّام على علاقاتها الشخصية، مع منظّمات محلّية لتأمين أبسط أدوات الحماية. "كنت مضطرةً إلى حماية نفسي بنفسي"، تُردف.
انتهاكات "لا تُحصى"
الانتهاكات التي تعرّض لها "الفيكسرز" كانت "كثيرةً ولا تُحصى"، وفقاً لمنسّقة "تجمّع نقابة الصحافة البديلة" إلسي مفرّج. وفي بعض الأحيان، يكون "الفيكسر" نفسه سبباً في تعرّضه للانتهاك، بدخوله إلى منطقة خطرة دون تنسيق مسبق، أو تشجيعه الفريق الأجنبي المرافق على الدخول إلى منطقة حساسة كمنطقة الضاحية الجنوبية مثلاً، دون الحصول على إذن رسمي من وزارة الإعلام، متذرّعاً بعلاقاته الشخصية أو "المونة" على الأشخاص الموجودين على الأرض، ليُفاجأ لاحقاً بأنه لا يمكنه التحرك من دون إذن قانوني.
مع ذلك، فإنّ الحرب الأخيرة كشفت أنّ الأذونات القانونية وحدها لا تكفي، وتحتاج بجانبها إلى معرفة محلّية بالمنطقة وأهلها، لضمان الحماية الأكيدة في بلاد تشهد، فضلاً عن الحرب، فوضى كبيرةً في الشارع، ومناطق متفلّتةً خارجةً عن سلطة الدولة.
في هذا الإطار، ترى الصحافية البسّام، أن "امتلاك الفيكسر علاقات محلّيةً ومعرفةً دقيقةً بالمناطق، جزء أساسي من عمله، إذ إنّ لكل حيّ مفاتيحه، ولكل منطقة زعاماتها". كان على البسّام، التنسيق مسبقاً مع شخصيات محلّية لتفادي أي مواجهة، فالخطر ليس في القصف فحسب، بل أيضاً في ردات الفعل المحلّية العشوائية و الفوضى، وانعدام الحماية، وهذه الأمور يمكن أن تودي بحياة الفيكسر كما الصواريخ والرصاص.
في مرحلة معيّنة، ومع اشتداد الحرب في الشهرين الأخيرين منها، شهد الشارع احتقاناً كبيراً وحالةً من البارانويا الجماعية خوفاً من حجم الاختراقات الأمنية التي أظهرتها إسرائيل على الساحة اللبنانية، وهو ما تُرجم في الشارع إلى نوع من البارانويا الجماعية.
والأكثر خطورةً كان تسجيل حالات عنف تشبه المحاكمات الميدانية لأشخاص، لمجرد الاشتباه بهم، كأن يكونون أجانب أو ملامحهم توحي بأنهم أجانب، أو من اللاجئين السوريين، خاصّةً إن كانوا صحافيين ومصوّرين يتنقّلون بمعدّات وكاميرات أو يتّجهون إلى أماكن القصف والاستهدافات. سُجّل ذلك في مناطق عدة، كالضاحية الجنوبية والشياح وزقاق البلاط والباشورة، بالإضافة إلى مناطق عدة في جنوب لبنان.
أكثر ما يُميّز "الفيكسر" عن باقي أعضاء الفريق الصحافي، ويعرّضه لخطر أكبر، هو أنّ وجهه معروف، ولهجة حديثه مفهومة، وهويته محلّية. لذلك، عند أي خلاف أو خطر أو اشتباه، غالباً ما يكون أول من يُستهدف، والأخطر أنه هو الذي سيبقى في البلاد وبين الناس بعد رحيل الفريق الصحافي الأجنبي
تروي البسّام، كيف بات المواطنون أنفسهم يتصرّفون كأنهم جهات أمنية. أحياناً كان يوقفها أحدهم في الشارع ليحقّق معها: "من أنت؟ مع من تعملين؟ لماذا تصوّرين؟"، في غياب شبه كامل لأي جهة رسمية تؤمّن لها الحماية أو تفرض احترام عملها.
أحد "الفيكسرز" توفي نتيجة أزمة قلبية خلال تعرّضه مع فريق قناة إيطالية للهجوم من قبل شبّان في بلدة الجيّة، شمال مدينة صيدا، وذلك على الرغم من تنسيق الفريق والفيكسر مع الأطراف الرسمية والحزبيّة كافة، وحصوله على الموافقة للتصوير، إلا أنّ مجموعةً من شبان المنطقة كان لهم رأي آخر حينها، وقرّروا منع التصوير بالقوة، لينتهي الأمر بالفيكسر أحمد عقيل حمزة، على الأرض مصاباً بأزمة قلبية توفي بسببها.
أكثر ما يُميّز الفيكسر، عن باقي أعضاء الفريق الصحافي، ويعرّضه لخطر أكبر، هو أن وجهه معروف، ولهجة حديثه مفهومة، وهويته محلّية. لذلك، عند أي خلاف أو خطر أو اشتباه، غالباً ما يكون أول من يُستهدف، والأخطر أنه هو الذي سيبقى في البلاد وبين الناس بعد رحيل الفريق الصحافي الأجنبي.
تعدّد الأذونات
كانت قضية تعدّد الأذونات وجهات التنسيق، وسط تلك الفوضى، من أكثر ما عاناه "الفيكسرز" في عملهم خلال الحرب، خاصّةً وسط أجواء مشحونة يسهل فيها التنصيف والاتهام وهدر الدماء، حيث لم يكن هناك جهة واحدة مسؤولة عن إصدار الأذونات للجميع أو لمختلف المناطق.
في بعض الأحيان، يُمنح الإذن من وزارة الإعلام، وفي أحيان أخرى من جهة حزبية محلّية، وغالباً ما تُلغى الأذونات من جهة إذا لم توافق جهة أخرى.
"أخذت إذناً رسمياً من وزارة الإعلام، ثم منعتنا جهة سياسيّة من التصوير برغم وجود الإذن"، تقول آنا. أما البسّام، فتروي: "حصلت على إذن رسمي من وزارة الإعلام، ثم مُنعت من التصوير في المنطقة نفسها من قبل جهة حزبيّة، دون أن يكون لسلطة الدولة أي اعتبار. ردّ أحدهم ساخراً: 'معك إذن من الدولة؟، الدولة ما بتمشي هون'".
وتروي آنا، أيضاً، حادثةً حصلت للمصوّر الذي يرافقها في منطقة الطيونة في بيروت خلال الحرب، فعلى الرغم من حصولها على إذن من جهة تابعة لحركة أمل، إلا أنّ أحد العناصر لم يكن على علم بذلك، وأوقف المصوّر وهدّد بمصادرة معدّاته. تدخّلها السريع، مستفيدةً من علاقتها الشخصية بأحد المعنيين، أنقذ الموقف، على حدّ قولها.
فجوات تدريبية… وفجوات قانونية
نشرت مؤسّسة "مهارات"، تقريراً حول تحدّيات التغطية الإعلامية للحرب الإسرائيلية على لبنان، تطرّق إلى دور الإعلام في الحرب ودور الصحافي، بالإضافة إلى التحدّيات التي عانت منها التغطية الإعلامية للحرب ولا سيّما لناحية اختيار الخبر والزاوية التي يتم تناولها، خصوصاً في ظلّ صعوبة الوصول إلى المعلومات، وهي الإشكالية التي سلّطت الضوء عليها "مهارات" أيضاً ضمن تقريرها.
من ناحية أخرى، تابعت مؤسّسة سمير قصير، عبر مركز الدفاع عن الحريات الإعلامية "سكايز"، الانتهاكات التي طالت الصحافيين والفيكسرز خلال الحرب، إلى جانب التحدّيات المهنية والاقتصادية التي واجهها العاملون في القطاع. وسبق أن رصدت مؤسّسة "مهارات"، بجانب جهات أخرى مثل "مراسلون بلا حدود"، و"تجمّع نقابة الصحافة البديلة" و"سمكس"، النقص الحاد في تدريب الصحافيين اللبنانيين على التغطية في البيئات المعادية ومناطق النزاع، والتي تشكّل جوهر العمل الإعلامي في بلد مثل لبنان.
لتدارك هذا القصور، أُطلقت على مدى السنوات الماضية سلسلة من المبادرات التدريبية، شملت السلامة الشخصية، والأمن الرقمي، والإسعافات الأولية، وأساليب النجاة. وبرغم استفادة عدد كبير من الصحافيين والمصوّرين من هذه البرامج، بقيت الحاجة أكبر من قدرات هذه المبادرات، في ظل غياب أي سياسة رسمية ممنهجة من قبل الدولة أو النقابات المهنية.
وخلال الحرب، تكفّلت هذه المبادرات بتأمين تجهيزات أساسيّة مثل الخوذ، والسترات الواقية، وحقائب الإسعافات الأولية، ضمن آلية إعارة تتيح للصحافيين و"الفيكسرز" استخدامها عند الحاجة، لتعويض غياب الدعم المؤسّساتي الرسمي. كما عمل "تجمّع نقابة الصحافة البديلة" بشكل عاجل على إعداد عقد نموذجي يحدّد حقوق "الفيكسرز" و"الفريلانسرز"، ولا سيّما لجهة الحماية والتأمين ورفض التنقّل في المناطق الخطرة، بالإضافة إلى تضمينه بنداً خاصّاً بالتدريب.
إلى جانب النقص التدريبي، ظهرت فجوة قانونية حادّة تتعلّق بتوصيف "الفيكسرز" وتنظيم عملهم. وفي هذا الإطار، يشير الصحافي حسين شحرور، إلى التخبّط في منح الأذونات، حيث تختلف المتطلبات بين الجهات الرسمية: أحياناً تُطلب بطاقة من نقابة المحررين، وأحياناً من وزارة الإعلام أو المجلس الوطني للإعلام، مع اختلاف في شروط تسجيل المؤسّسة الإعلامية نفسها. هذا التخبط انعكس سلباً على الحماية القانونية والتنظيمية، خصوصاً لـ"الفيكسرز".
من جهتها، توضح المحامية غادة مفرّج، أن لبنان يفتقر إلى قانون إعلامي حديث يعترف بمهنة "الفيكسر" أو يأخذ في الاعتبار خصوصية عمل الصحافيين المستقلين. ونتيجةً لهذا الغياب، لا يحصل "الفيكسرز" على بطاقات صحافية رسمية، ما يحصر وجودهم القانوني بما يرد في الأذونات الصادرة عن مؤسّسات إعلامية أجنبية، التي قد تُدرج أسماءهم ضمن فرقها، في حين أنّ المؤسّسات المحلّية غالباً ما تمتنع عن ذلك، باستثناء بعض المحطات الكبرى.
وفي تطوّر لافت، بدأت وزارة الإعلام حديثاً تشترط وجود شخص محلّي ضمن الفرق الإعلامية الأجنبية لتنسيق العمل ميدانياً، لكنها لم توضح من هو هذا الشخص، ولا الإطار القانوني أو التنظيمي الذي يحكم وجوده، أو آلية حمايته على الصعيدين الأمني والإداري.
المؤسّسات الإعلامية… الوزر الأكبر والمستغل الأبرز
تصف فاطمة البسّام، تجربتها في تغطية المعارك في الجنوب وهي نازحة، حيث كانت تتعرّض للتخوين والتحقيق بسبب عملها مع وسائل إعلام أجنبية، ما جعلها موضع شكّ. كما تعرّضت لمضايقات بسبب شعار القناة التي تعمل معها، برغم أنّ علاقتها بها كانت مؤقّتةً. وتضيف البسام، أنّ "الفيكسر" يواجه أيضاً تمييزاً من قبل السلطات، التي تسهّل لوسائل إعلام دون أخرى حسب الانتماءات السياسية، ما يعرّضه للهجوم من الناس.
أما آنا ماريا، فقد عانت من غياب التأمين الصحي لعملها كمنسّقة ميدانية مع الفرق الأجنبية، ولم تتلقَ حمايةً أو دعماً برغم تعرّضها لمخاطر. كما واجهت صعوبات ماليةً حيث عملت دون عقود، ما جعلها عرضةً لتأخير الأجور، ودفعها لاحقاً إلى فرض الدفع المسبق. كما تم استخدام خدماتها ليوم واحد فقط، برغم الاتفاق على تغطية عشرة أيام، دون أي تعويض.
غياب العقود والأمان الوظيفي يعني غياب الاعتراف بالفيكسر كمكوّن أساسي في الفريق الإعلامي. بعض المؤسّسات ترفض دفع الأجر إن لم يتضمّن اليوم تصويراً، متجاهلةً أنّ التنسيق للحصول على الأذونات قد يستغرق ساعات من العمل.
هذا الفراغ القانوني والمعرفي استغلته بعض المؤسّسات لمصلحتها، في حين أنّ الحاجة الاقتصادية دفعت الكثير من الأشخاص إلى القبول بأدنى الشروط المعروضة، حتّى لو كانت بلا حماية، وبلا حقوق أو ضمانات، ومقابل القليل من المال فقط، وبمهمّات مضاعفة لا تندرج ضمن عمل "الفيكسر"، على ما تؤكد مفرّج.
ضياع في الهوية... يضيّع الأجور
غياب تعريف واضح لوظيفة "الفيكسر"، وتداخلها مع مسؤوليات المنتج الميداني، أدّيا إلى خلق بيئة ضبابية يتعرّض فيها الصحافي المحلّي للاستغلال من جهة، وللتهميش من جهة أخرى. تقول البسّام: "أنا من كنت أنسّق، وأؤمّن التصاريح، وأجهّز الاتصالات، وأحياناً أُجري المقابلات بنفسي. الصحافي الأجنبي كان يقف أمام الكاميرا ليسأل سؤالين فحسب، ثم ينسب العمل كله إليه".
وتردف: "أصبحنا نقوم بمهام كاملة كفيلد بروديوسر (منتج ميداني)، دون أن يُطلَق علينا هذا اللقب رسمياً، ودون أن نحصل على أجرٍ يتناسب مع حجم المخاطر والمسؤوليات".
ينتقد المسؤول الإعلامي في مؤسسة سمير قصير، جاد شحرور، ذهنية بعض المؤسّسات الإعلامية التي لا تستثمر في تجهيز وحماية فرقها، وتتجاهل أنّ الاستثمار في الكوادر الصحافية هو استثمار في المؤسسة نفسها. ويؤكد أنّ بعض المؤسّسات تعدّ الفيكسر غير ضروري، وتُحمّل مهامه للمراسل
يشير عاملون في هذا المجال، إلى غياب أي تسعيرة واضحة أو حدّ أدنى. "هناك من كان يتقاضى 100 دولار في اليوم، وهناك من كان يأخذ 400، ونحن نقوم بالمهام نفسها. الفوضى وغياب المعايير جعلا أي شخص، حتّى من لا يمتلك أي خلفية إعلامية، يعمل كفيكسر، ولأنه يملك سيارة أجرة في المطار أو شبكة علاقات حزبيّة أو سياسيّة فحسب. هذا التسيّب خلق منافسةً غير عادلة، وخفّض الأجور، وشجّع المؤسّسات الإعلامية على استغلال هذا الواقع لتوفير التكاليف على حساب الكفاءة والجودة"، وفق البسّام.
من ناحيته، ينتقد المسؤول الإعلامي في مؤسسة سمير قصير، جاد شحرور، ذهنية بعض المؤسّسات الإعلامية التي لا تستثمر في تجهيز وحماية فرقها، وتتجاهل أنّ الاستثمار في الكوادر الصحافية هو استثمار في المؤسّسة نفسها. ويؤكد أنّ بعض المؤسّسات تعدّ "الفيكسر" غير ضروري، وتُحمّل مهامه للمراسل، ما يحرم الفريق من التخصّص ويؤدّي إلى فوضى وظيفية.
ويلفت شحرور، إلى أنّ بعض المؤسّسات الأجنبية استغلت غياب القانون لتجاهل مستحقات "الفيكسر" أو الاتفاق المبرم معه، دون أن تكون هناك جهة يلجأ إليها للمطالبة بحقوقه، برغم قيامه بعمله على أكمل وجه. ويخلص إلى أنّ المشكلة تتعلّق بإخفاق المؤسّسات الإعلامية، المحلّية والأجنبية، في التعامل المهني والأخلاقي مع الحقوق الاقتصادية والمهنية للفيكسرز.
التوصيات والدروس المستفادة
لا يمكن اعتبار ما جرى خلال الحرب مجرد سلسلة أحداث استثنائية. بل هو كشف صارخ لبنية إعلامية مهترئة في لبنان، لا تعترف بدور الفيكسرز والفريلانسرز وغيرهما من فئات الصحافيين غير التقليديين، ولا تضمن لهم الحقوق الأساسية.
توصيات كثيرة خرجت من شهادات وآراء محدّثينا، لعلّ أبرزها: الاعتراف القانوني بوظيفة الفيكسر كجزء من الجسم الصحافي، وإعادة الاعتبار لهذه الوظيفة، ووضع تسعيرة واضحة أو حدّ أدنى للأجور، وفرض توقيع العقود الملزمة قبل بدء العمل، وتوفير التدريب على السلامة المهنية والإسعافات الأولية، وإدراج الفيكسر ضمن التصاريح الإعلامية الرسمية، ومسؤولية المؤسّسات الإعلامية الأجنبية في تأمين الحماية القانونية والصحية لمن يعمل معها كأي صحافي آخر في الفريق.

وتختم إلسي مفرّج، من ناحيتها، مستذكرةً: "شهداء الفيكسرز الذين سقطوا في الحرب الأخيرة، بينهم من استُشهد في أثناء عمله إلى جانب فرق إعلامية معروفة، ومنهم من توفي بعارض صحي خلال محاولته حماية فريق إعلامي من موقف ميداني خطير". وتطرح مفرّج، تساؤلاً بالغ الأهمية: "هل تمّ الاعتراف بحقوق هؤلاء بعد استشهادهم؟ وهل التزمت المؤسّسات التي عملوا معها بأي مسؤولية مهنية أو إنسانية تجاههم وتجاه ذويهم؟".
ختاماً، في ظلّ غياب الاعتراف القانوني والحماية المُلزمة، تبقى تلك الأسئلة معلّقة، لكن حتّى ذلك لا يعفي من الاعتراف الأخلاقي بالفيكسر كشريك في العمل الصحافي، لا كأداة مؤقتة تُستخدم ثم تُنسى. فربما لا تُكتب أسماؤهم على الشاشة، لكن بعضهم كتبوا الأخبار بدمهم، ورحلوا دون اعتراف.
*أُعدّ هذا التقرير ضمن مشروع "إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان". موّل الاتحاد الأوروبي هذا التقرير، وتقع المسؤولية عن محتواه حصراً على عاتق "مؤسّسة مهارات"، وهو لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الأوروبي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Hossam Sami -
منذ 3 أيامالدراما المصرية فـ السبعينات الثمانينات و التسعينات كانت كارثة بمعنى الكلمة، النسبة الأغلبية...
diala alghadhban -
منذ 5 أيامو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ 5 أيامشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ 6 أيامجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر