بوابة خارجية، ثم طابور طويل، وكاميرات مراقبة تتابع كل حركة. بوابات إلكترونية تنقل صورة الجسد، حتى العظام، إلى الجنود الإسرائيليين الجالسين خلف الزجاج المحصّن. تُضيء البوابة باللون الأخضر إذا اجتاز المرء الفحص الأمني بنجاح.
تتبع سلمى (اسم مستعار)، اللافتة التي تشير إلى المسلك المخصص لاستصدار البطاقات الممغنطة، التي تمنحها السلطات الإسرائيلية للفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة، حتى يتمكنوا، عبرها، من استصدار تصاريح لدخول القدس والداخل.
تقف سلمى، داخل حاجز قلنديا، جنوبي رام الله، حيث يبدأ الطريق نحو القدس. تصعد بضع درجات إلى ساحة بالكاد تتسع لعشرين شخصاً، لكنها الآن تغصّ بأكثر من مئة فلسطيني، جميعهم ينتظرون الغرض ذاته؛ المرور.
دأ جسدي يرتجف، ووجدتُ دموعي تتساقط لا إرادياً. انتبه الضابط إلى ارتجافي، فابتسم ساخراً وقال: "إذا كنتِ بردانةً، أستطيع أن أدفّيك
تنتظر سلمى، دورها لتدخل غرفةً لا تتجاوز مساحتها مترين، عبر بوابة إلكترونية أخرى، حيث ينتظر الجندي المسؤول عن استجوابها، فيتأكّد من هويتها، ومن تصويرها، ومنحها البطاقة الشخصيّة. لكن قبل أن يعيدها إليها، حدّق فيها، ورفع حاجبيه باستغراب قائلاً: "مدينة أريحا؟ كيف تكونين من أريحا بهذا الجمال وهذه الملامح الشقراء؟".
وتضيف سلمى، شارحةً في حديثها إلى رصيف22: "أجبتُ بأنّي من الخليل، ليردّ قائلاً: الآن أصبح الأمر منطقياً. ثمّ طلب مني الاستدارة لالتقاط صورة البطاقة الممغنطة، فرتّبت شعري بحركة عفويّة. تدخّل وقال لي إنّي لستُ بحاجة إلى ترتيب أي شي لأنّي أجمل ما رأت عيناه. بعدها، نادى على جنود آخرين كانوا خارج الغرفة ليروني. تحدّث الجنود الثلاثة بالعبريّة وتفحصوني بعيونهم، وقبل أن يذهبوا قال لهم جملةً واحدةً بالعربية: هل تصدّقون أنّ هذا الجمال فلسطيني؟".
يستغلّ الجنود الإسرائيليون السلطة التي يمتلكونها على الحواجز لخلق شعور بالهيمنة والتهديد عند الفلسطيني الذي يضطرّ إلى العبور من خلالها، مُهاناً ومُعرّضاً للتنكيل أو القتل في كثير من الأحيان. وفي هذا السياق، يتحول الجسد الفلسطيني العابر إلى وسيلة سيطرة وإخضاع تتجاوز معانيه البيولوجية. وفي اللحظة التي تقف فيها الفتاة أو المرأة الفلسطينية أمام الجنديّ على الحاجز، لا يعود الحاجز أداة تحكّم في حركتها وحسب، بل يصبح أداة تهديد مستمرّ لحريّة جسدها كإنسان عموماً، وكامرأة خصوصاً.
تعرٍّ وتحرّش ورؤية أعضاء تناسلية لجنود
ما حدث مع سلمى، لم يكن استثناءً، بل هو جزء من مشهد مكرر تعيشه النساء الفلسطينيات على الحواجز. فعلى حاجز قلنديا، أيضاً، وفي غرفة تفتيش تحاصرها أعين جنديين مسلحَين وضابط يتقن العربية، وجدت سماح (اسم مستعار)، نفسها محتجزةً في مساحة خانقة.
"بعد استجواب طويل، ومحاولات متكررة لإثبات أنّ الهويّة التي أحملها ليست هويتي، بل هويّة امرأة أخرى من القدس، وأنّي أحاول أن أدخل دون تصريح، انحرف التحقيق فجأةً إلى منحى آخر. لم تعد الأسئلة تتعلق بالتصريح أو العبور، بل بدأت تنزلق تدريجياً إلى خصوصياتي؛ أين أعيش؟ من أرافق؟ ماذا أرتدي في العادة؟ بدا وكأنّ الضابط لم يكن يسعى إلى الحصول على إجابات بقدر ما كان يختبر مدى قدرتي على التحمّل"، تقول سماح، لرصيف22.
وتردف: "خرج الجنديان، وبقيتُ وحدي مع الضابط في غرفة التوقيف. كانت المساحة ضيّقةً، بالكاد تتّسع لنا. كان يقترب أكثر مع كل إجابة أنطق بها، حتّى كاد الفراغ بيننا يتلاشى. شعرتُ بجسدي يتقلص، وكأنّي أودّ أن أختفي داخل نفسي. بدأ جسدي يرتجف، ووجدتُ دموعي تتساقط لا إرادياً. انتبه الضابط إلى ارتجافي، فابتسم ساخراً وقال: "إذا كنتِ بردانةً، أستطيع أن أدفّيك. أو يمكنك ببساطة أن تكوني صادقةً، وعندها، سأرسلكِ إلى السجن رحمةً منّي".
وكان تقرير صادر عن لجنة تحقيق دولية، صدر في منتصف آذار/ مارس 2025، قد أكد أن "إسرائيل استخدمت، بشكل متزايد، العنف الجنسي والإنجابي وأشكالاً أخرى من العنف القائم على النوع الاجتماعي ضد الفلسطينيين"، منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
قد تبدأ المرأة بتحميل نفسها مسؤولية ما تتعرض له، بدلاً من توجيه اللوم إلى المتحرش، أو الجندي الإسرائيلي في هذه الحالة. مع الوقت، قد تتحول هذه المشاعر إلى سلوكيات تجنبيّة، فتتفادى النساء المرور عبر الحواجز، ويلجأن إلى عزلة اجتماعية
ورافقت إصدار التقرير جلسات استماع عقدت في جنيف، استمعت خلالها اللجنة إلى ضحايا وشهود العنف الجنسي والإنجابي والعاملين الطبّيين الذين ساعدوهم، بالإضافة إلى ممثلين عن المجتمع المدني وأكاديميين وخبراء، منهم كفاية خريم، منسّقة المناصرة الدولية في مركز المرأة للإرشاد القانوني والاجتماعي، التي قالت إن فريقها وثّق عنفاً جنسياً على الحواجز، لافتةً إلى أن ثمة حاجزاً في الخليل بات معروفاً بين النساء اللواتي يدركن أنّ عبورهن يجعلهن عرضةً لرؤية الأعضاء التناسلية لجنود إسرائيليين.
خلص التقرير إلى أن العنف الجنسي، كالتعرية العلنية القسرية والتحرش الجنسي والتهديد بالاغتصاب والاعتداء الجنسي، "يتم ارتكابه في جميع أنحاء الأرض الفلسطينية المحتلة كإستراتيجية حرب لإسرائيل للسيطرة على الشعب الفلسطيني وتدميره"، كما يقول التقرير.
خوف النساء ثم عزلتهنّ
وفي حديث الطبيب النفسي الفلسطيني الدكتور فتحي فليفل، إلى رصيف22، عن الخوف الداخلي والحذر الذي يتحول إلى عبء نفسي لدى النساء على الحواجز، يقول: "إحدى أدوات السيطرة علينا هي دفعنا إلى تذويت مخاوفنا، سواء كانت مرتبطةً بالتحرّش أو بأي تهديد آخر، ليصبح الخوف نفسه حاجزاً إضافياً. حين يحدث ذلك، تبدأ علاقتنا بالمكان بالتشوّه، فنحاول تجنّبه بدلاً من مواجهته، وننكمش داخل مساحات ضيقة خوفاً من الاحتمالات السيئة".
ويتابع: "الأخطر، هو أنّ هذا التذويت لا يقتصر على الخوف فحسب، بل يمتد ليخلق مشاعر اللوم الذاتي. قد تبدأ المرأة بتحميل نفسها مسؤولية ما تتعرض له، بدلاً من توجيه اللوم إلى المتحرش، أو الجندي الإسرائيلي في هذه الحالة. مع الوقت، قد تتحول هذه المشاعر إلى سلوكيات تجنبيّة، فتتفادى النساء المرور عبر الحواجز، ويلجأن إلى عزلة اجتماعية. هكذا يصبح الخوف أداةً أخرى للتحكم في حركتهنّ".
غادرتُ بسرعة البرق، ولا أعلم كيف وصلت إلى البيت. جلست وحدي، مرعوبةً، أحاول استيعاب ما حدث
لكن ليس كل خوف يؤدي إلى العزلة، فهناك فرق بين الحذر الذي يعزّز الوعي، والخوف المركّب الذي يشلّ الحركة. يوضح الدكتور فليفل: "الحذر يمكن أن يكون شكلاً من أشكال التمكين، فهو يجعل المرأة في حالة استعداد نفسي للتعامل مع أي خطر محتمل. أما الخوف الذي تسعى إسرائيل إلى ترسيخه، فهو خوف معقد، يمنعنا من ممارسة حياتنا بحرية، ويفرض علينا قيوداً غير مرئية تجعل تنقلنا بين الأماكن مشروطاً بها".
ويشدّد على أنّ الحديث عن هذه القضية بطريقة صحية لا يزيد من الخوف، بل يسهم في تمكين النساء وكسر عزلتهنّ ومنحهنّ أدوات نفسيةً للتعامل مع هذه التحديات.
تتفق رئيسة وحدة حقوق الإنسان في وزارة الداخلية الفلسطينية، هيثم عرار، مع فليفل، في أن مواجهة التحرش الذي تتعرض له الفتيات والنساء على الحواجز الإسرائيلية يجب أن تكون مصحوبةً بوعي وثقة، لا بخوف وصمت.
وتؤكد أنّ هذه الانتهاكات ليست مجرد ممارسات فردية، بل جزء من سياسة ممنهجة ترمي إلى تقويض دور المرأة الفلسطينية في النضال الوطني، وعرقلة مشاركتها الفاعلة في المجتمع. فبينما يُحاط الحديث عن هذه القضايا بالحذر المجتمعي، نظراً إلى تبعاتها الاجتماعية، يصبح من الضروري تبنّي نهج جماعي لمواجهتها، باعتبارها جزءاً من الصراع الأوسع ضد الاحتلال.
وتضيف عرار: "هناك أهمية قصوى للتصدي لهذه الانتهاكات، وعدم السماح لها بأن تتحول إلى وسيلة لإخضاع النساء الفلسطينيات أو تقييد حركتهنّ. فهذه القضية لا تخصّ النساء وحدهن، بل تتطلب موقفاً فلسطينياً جماعياً لمواجهتها. في اتحاد المرأة الفلسطينية، ناقشناها بالتفصيل في تقرير وثّق الانتهاكات التي تتعرض لها الفتيات والنساء، ومن ضمنها التحرش الجنسي. لذلك، أدعو النساء الفلسطينيات إلى الجرأة في فضح هذه الممارسات، سواء حدثت على الحواجز، أو في أثناء التفتيش المنزلي، أو داخل السجون الإسرائيلية".
وتؤكد عرار، على أن الحديث عن هذه الانتهاكات ليس مجرد ردّ فعل، بل شكل من أشكال المقاومة. ويجب أن تستند الفتاة أو المرأة إلى دعم مجتمعها وأسرتها، لتكوين شبكة حماية تُحصّنها من هذه الجرائم غير القانونية وغير الأخلاقية التي تمارسها إسرائيل وجيشها".
في النهاية، سلّم الجندي سلمى البطاقة الممغنطة، ممسكاً بيدها لحظة استلامها. "غادرتُ بسرعة البرق، ولا أعلم كيف وصلت إلى البيت. جلست وحدي، مرعوبةً، أحاول استيعاب ما حدث"، تقول.
على الحواجز الإسرائيلية، لا يتوقف الانتهاك عند لحظة الحدث، بل يظل عالقاً في الذاكرة، ويترك أثراً نفسياً ممتداً. يحوّل الجنود العبور عبر هذه الحواجز إلى تجربة مشحونة بالخوف، حتى دون وقوع اعتداء مباشر، وكأنّ إسرائيل تشيّد حواجز غير مرئية داخل النفوس بالإضافة إلى الحواجز الماديّة، تجعل الخوف حاضراً دائماً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
diala alghadhban -
منذ يومو انتي احلى سمرة
حاولت صور مثلك بس كان هدفي مو توثيق الاشياء يمكن كان هدفي كون جزء من حدث .....
ssznotes -
منذ يومشكرًا لمشاركتك هذا المحتوى القيم. Sarfegp هو منصة رائعة للحصول...
saeed nahhas -
منذ يومجميل وعميق
Mohamed Adel -
منذ أسبوعلدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ أسبوعاذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ أسبوعهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...