إذا تأخّر كايد دعنا (60 عاماً) من سكّان الخليل خارج بيته، فدقّت الساعة السابعة مساءً دون أن يعود، فسيضطّر إلى المبيت في الخارج. لا يحكم كايد أولياء أمر مسؤولون عن رجوعه المبكر إلى البيت، بل يحكمه الجيش الإسرائيليّ الذي يحاصر حيّه؛ "وادي الحصين"؛ بسياج مستوطنة "كريات أربع" شرق الخليل".
يعبر المستوطنون شارعه متّجهين لأداء صلواتهم التلموذيّة في الحرم الإبراهيمي، فيُغلق الحيّ بشكل كامل، ويحظر فيه الفلسطينيّون من التجول ليلاً والجمعة والسبت من كلّ أسبوع وفي الأعياد اليهودية، وفيما عدا تلك الأوقات، يُجبر السكان على الدخول والخروج من منازلهم في أوقات محددة".
شغل كايد الشّاغل هو توفير الحماية لعائلته وعائلات إخوانه التي يبلغ عدد أفرادها 70، يسكنون في 11 شقّة. "لا أحد منّا يجرؤ على التأخّر في الخارج بعد السّابعة"، يقول كايد لرصيف22. مضيفاً: "نحن نضطر لحمل المؤن الأساسية كالطحين والسكر والأرز والغاز على أكتافنا والسير بها على الأٌقدام لمسافة تزيد عن كيلو ونصف، مروراً بعدة حواجز ونقاط تفتيش تابعة للجيش، قبل أن نصل بيوتنا".
أقامت إسرائيل وسط مدينة الخليل عدّة مستوطنات، ولم ينسحب الجيش منها في إطار الاتفاق الانتقاليّ (أوسلو ب، ففرض منذ سنين قيوداً صارمة ومشدّدة على الفلسطينيين وحركتهم بعد أن أنشأ في قلب المدينة شريطاً متّصلاً ومعزولاً عن بقيّة أجزاء المدينة، بحيث يمنع دخول الفلسطينيّين إليها مشاة أو راكبين، وإن أُتيح لهم ذلك يتحرّكون وفق قيود مشدّدة، فتحوّلت البلدة القديمة إلى غيتو، ومدينة تعيش حصاراً صامتاً أصبح الأمر الواقع في مدينة الخليل.
كما تشمل التدابير المخصّصة لتقييد الحركة وإبعاد الفلسطينيّين عن الشوارع الرئيسيّة وعن محيط منازل المستوطنين 22 حاجزاً و65 سدّة من موادّ مختلفة (لغاية 2019)، الأمر الذي أدى إلى نزوح مكثّف للسكّان الفلسطينيين وإغلاق مئات المصالح التجارية وانهيار اقتصاد مركز المدينة، بحسب مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الانسان، الصادر عام 2019، والذي أشار إلى أن نحو 7 آلاف فلسطيني يقيمون في أماكن متاخمة لمنازل المستوطنين والشوارع التي يستخدمونها.
من لا يلتزم بمساره، أو يتحرك في أوقات منع التجول، يتم احتجازه لما يزيد عن 6 ساعات، ويتمّ الاعتداء عليه وشبحه وضربه ضرباً مبرحاً
نغّصت هذه "القوانين" الأمنيّة" حياة المواطنين الفلسطينيين القاطنين في أحياء جابر، والسلايمة، والسهلة، وتل الرميدة، وشارع الشهداء، وواد الحصين في الخليل. تُضاف في طبيعة الحال إلى العنف اليوميّ من قبل المستوطنين وأفراد الجيش الذين اعترف عدد منهم في مقابلات عدّة بأنّ مهمّاتهم في الخليل كانت عبارة عن "تسلية"؛ يقتحمون بيوت النّاس ليلاً ويدبّون الرعب في قلوبهم.
الطريق إلى المنزل
يعبّر عارف جابر (50 عاماً) عن معاناته جرّاء الحصار. فهو متزوج وله ستّة أبناء ويعيش في حارة جابر (الواقعة بين الحرم الإبراهيميّ ومستوطنة "كريات أربع" المجاورة كذلك لمعسكر وادي الحصين)، ويقول لرصيف22: "يتطلب الوصول إلى منزلي المرور بنقطتين عسكريتين. ويحتوي الحيّ ومحيطه على نقاط تفتيش ثابتة ودائمة، ناهيك عن الحواجز ودوريات التفتيش الراجلة".
يبيّن عارف، هو ناشط في تجمّع "مدافعون عن حقوق الانسان"، "أن إسرائيل رسمت لكل سكان الأحياء المغلقة (وبحسب موقع منازلهم) خريطة مرور ومسار معين للعبور منه دخولاً أو خروجاً، بحيث يمنع عليهم تغييره.
ويقول شارحاً: "سكان حارة جابر والسلايمة، مثلاً، ملزمون بالدخول أو الخروج عبر حاجز الـ160، ومن لا يلتزم بمساره، أو يتحرك في أوقات منع التجول، يتم احتجازه لما يزيد عن 6 ساعات، ويتمّ الاعتداء عليه وشبحه وضربه ضرباً مبرحاً".
يوافقه عيسى عمرو (44 عاماً) من حي تل الرميدة، هناك أقيمت مستوطنة "أدوموت يشاي" التي لا يفصلها عن بيته سوى سياج. يسكن عيسى مع ابنه في هذا البيت منذ عام 2007، بعد أن اضطر الجدّان إلى مغادرته تحت وطأة الاعتداءات المستمرة للمستوطنين المدججين بالسلاح وقوات الجيش.
"يحاول المستوطنون اقتحام المنزل لتخريب ما فيه، لا يفعلون شيئاً سوى التفكير في كيفيّة إخراجنا من منزلنا الذين يطمعون في سرقته"، يقول عيسى لرصيف22.
ويردف: "نمنع أيضاً من ممارسة هويتنا الفلسطينية، كأن نضع علم فلسطين، أو أن نرتدي ملابس مكتوب عليها فلسطين. في المقابل، كل ما يحيط بك هو اللغة العبريّة وأعلام إسرائيل".
يؤكد عيسى أنّ منطقته مغلقة بالكامل، ولا يوجد أي خدمات أساسية يمكنها الوصول إليها كالإسعاف وأعمال الصيانة. "أضطّر للوصول إلى منزلي سيراً عبر الأراضي الزراعية، وقطع مسافة تزيد عن كيلو ونصف، أمرّ فيها بعملية تفتيش وفحص لرقم الهوية للتأكد من أنني من سكان المنطقة"، يضيف.
أضطّر للوصول إلى منزلي سيراً عبر الأراضي الزراعية، وقطع مسافة تزيد عن كيلو ونصف، أمرّ فيها بعملية تفتيش وفحص لرقم الهوية للتأكد من أنني من سكان المنطقة
ويرى عيسى أنّ "غاية إسرائيل والمستوطنين هي ألا يكون لدى الفلسطينيين أيّ شعور بالأمان. وأن لا تجد من يحميك، وأن تكون معرّضاً للموت في أيّ لحظة على يد المستوطنين المسلّحين أو الجيش. وكثيراً ما يحاولون إرهابنا وإخافتنا من خلال إطلاق النار في الهواء".
توضح أريج الجعبري (40 عاماً)، وهي ناشطة اجتماعية ومتطوّعة منذ سنوات في توثيق الانتهاكات بحق القاطنين في المناطق الملاصقة للمستوطنات، والتي تعاني منها أنّ "المواطنين المضطرين للعودة إلى منازلهم في أوقات منع التجول أو الإغلاقات المفاجئة، يعبرون الأراضي الزراعية ويستخدمون السلالم أو ينتقلون من منزل لآخر لبلوغ منازلهم، على الرّغم من الخطر الذي يتعرّضون إليه خلال هذا التحرّك".
بعد السابع من أكتوبر
"بعد بدء حرب الإبادة على غزّة في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، ما عاد يكتفى الجيش برقم الهوية والتفتيش على الحواجز قبل الدخول إلى الحيّ، بل بات مطلوباً من السّكان التسجيل من أجل الحصول على رقم يخولهم العبور من الحاجز إلى منازلهم"، يوضح عارف.
ويردف: "رفضنا سياسة الأرقام والكثير من الناس لم يقوموا بالتسجيل، ما يتسبب بمنع دخول سكان المنطقة لمنازلهم. علماً أنه حتى من يملك رقماً، قد يتعمّد الجنود الإسرائيليّون عدم إدخاله وفق مزاجهم".
ويؤكد عارف أنّه إذا انقطع صاحب الرّقم عن المرور من الحاجز، لأسباب قد تتعلّق بأعياد اليهود أو الأحداث الأمنيّة، يتمّ إزالة اسمه وعليه التسجيل مرّة أخرى.
"الجنود ينصبون لنا الكمائن"
يسرد جابر كيف أنّ الإجراءات المشدّدة تدفع بالكثيرين من سكّان الحي إلى الالتفاف عبر أحياء أخرى، وقطع مسافة تزيد عن 10 كم من سطح إلى منزل إلى سلّم، حتّى الوصول إلى منازلهم.
كثيراً ما نسمع بعد انتصاف الليل صراخ شُبّان، يتبين لاحقاً أنهم حاولوا الانتقال من سطح إى آخر في محاولة منهم للوصول إلى منازلهم، حيث يتم احتجازهم وضربهم وتعذيبهم طوال الليل
ويقول مضيفاً: "رغم أنها عملية محفوفة بالمخاطر، بسبب وجود عشرات كاميرات المراقبة عالية الجودة والمتحركة وطائرات "الدرون"، التي ترصد وتلاحق كل تحركاتنا بشكل دائم، وبسبب نصب الجنود للكمائن؛ إذ يختبئون في الأزقة وأسفل السلالم وخلف حاويات القمامة، في انتظار المتسللين إلى منازلهم".
"وإن ضُبط أصحاب البيوت بعد أن يسمحوا لآخرين بالمرور عبر أسطحهم وسلالمهم، يُغلق الجنود أسطحهم بالأسيجة والجنازير"، يؤكّد جابر.
هذا ما حصل مع أريج لمجرد أنها أفسحت المجال لبعض نساء لكي يمررن من خلف منزلها في شهر رمضان الماضي. تقول لرصيف22: "تم احتجازي معهن عند نقطة تفتيش من الساعة العاشرة ليلاً إلى الرابعة صباحاً".
وترى أريج أنّ هذا مصير كل من يحاول التسلل لبلوغ بيته في أوقات الإغلاقات، فتضيف شارحةً: "كثيراً ما نسمع بعد انتصاف الليل صراخ شُبّان، يتبين لاحقاً أنهم حاولوا الانتقال من سطح إى آخر في محاولة منهم للوصول إلى منازلهم، حيث يتم احتجازهم وضربهم وتعذيبهم طوال الليل".
وتستعرض أريج تجربةً لإحدى السيدات في الخليل. حيث شعرت بالمخاض في وقت الإغلاق ومنع التجوّل. "حاولنا نقلها غير أنّ الجنود الإسرائيليّون لم يقبلوا فأعدناها إلى المنزل واتصلنا بالإسعاف. ورغم محاولاته التنسيق لإخراجها، إلا أن الجيش رفض طلبه. ولم يبق أمامنا خيار سوى انتهاز لحظات استدارة جنود الاحتلال قليلاً، حتى نقوم بتهريبها من الأراضي الزراعية، ومن حارة لأخرى، إلى أن وصلت منزل والدها وأنجبت فيه".
هذه المعاناة تلقي بظلالها على الموظّفين وطلاب المدارس وعلى كلّ كبيرة وصغيرة في حياة أهالي الخليل. "يضطرّ الموظّفون إلى المكوث خارج المنطقة لدى أقربائهم، قبل بدء أعياد اليهود، حتّى يتمكّنوا من بلوغ أماكن عملهم"، تقول أريج.
كما يوضح عارف أن "طلبة إحدى المدارس يعبرون بين كتل اسمنتيّة وحواجز ومنازل للوصول إلى المدرسة"، كما لو أنّهم في فيلم. فيما يضطرّ طلاب مدرسة قرطبة، بحسب عيسى عمرو إلى "المرور من أراض زراعيّة للوصول إلى مدرستهم".
حياة اجتماعية معدومة
"يخشى النّاس والأقرباء من خارج الحيّ زيارتنا، حتى لا يتمّ التحقيق معهم حول أسباب قدومهم إلينا أو احتجازهم لعدة ساعات"، يوضح كايد دعنا.
"الحياة الاجتماعيّة معدومة تماماً، حتى من الأقرباء من الدرجة الأولى. كما أننا نمنع من إقامة المناسبات الاجتماعيّة داخل بيوتنا"، يقول عيسى عمرو، الذي يرى أن "هذه السياسة تهدف إلى تفريغ المنطقة من الفلسطينيين. فحوالي 40 % من المنازل الموجودة في المناطق المغلقة باتت فارغة من سكانها".
ويؤكد عارف أن تعرض الناس للخطر انعكس على الواقع الاجتماعي. فالرجل الذي يريد الارتباط بامرأة من خارج المنطقة المحاصرة، يطلب منه أهلها أن يشتري أو يستأجر منزلاً خارج المنطقة، ليتمكنوا من زيارتها.
ويضيف: "كثيرون خرجوا من هذه الأحياء كي يزوجوا بناتهم. لأن وجود النساء داخل هذه الأحياء يقف عقبة أمام زواجهن".
تحرّش على الحواجز
"يُضاف للحصار والمراقبة وسرقة أموال وهواتف الناس على الحواجز، تحرّش الجنود بالنساء والفتيات"، يقول عارف جابر.
ويضيف: "فعلى حاجز الـ160، يتعمّد الجنود تفتيش النساء جسديّاً. قبل 4 أشهر، مرّت امرأة من الباب الإلكترونيّ، فأصدر صوتاً. حاول الجنديّ تفتيش جسد المرأة لكنها رفضت، ورفض زوجها كذلك. فقام الجنود بضرب الزوج وأبقوه على الحاجز 6 ساعات. في حالة أخرى حدثت قبل شهرين في تل الرميدة، أخرج جندي عضوه أمام فتاة تمر عبر الحاجز. فيما قام آخر بالتحرش بعدد من الأطفال الذين يمرّون وحدهم".
وكشف تقرير حديث في "هآرتس" عن شهادات مواطنات في الخليل تعرّضن للتحرّش الجنسيّ؛ كأن يخلع الجنود ملابسهم أمامهنّ وأن يرغموهن على الذهاب والإياب أمامهم، وعلى الاستماع لمحادثات هاتفية مليئة بالألفاظ النابية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون