شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
من حسين الرحّال إلى القاسم الحداد… كم

من حسين الرحّال إلى القاسم الحداد… كم "قاسم أمين" عرف العرب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والنساء

الثلاثاء 22 أبريل 202512:31 م

في العام 1899، أطلق المفكر المصري قاسم أمين، قنبلته المدوّية بعدما طرح كتاب "تحرير المرأة"، في المكتبات، وهو العمل الذي لن أكون مبالغاً لو حسبته ضمن كتبٍ قليلة كُتب لها أن تغيّر تاريخ الإنسان، ليس في مصر وحدها، ولكن في الشرق الأوسط بأسره.

بيد أنّ التأثير الأهم لم يكن حالة الجدل الشديد التي لاحقت الكتاب وصاحبه تأييداً ورفضاً، وإنّما فيمن غُرست فكرة تحرير المرأة وتعليمها في عقولهم، فلم يكتفوا بتأييد أمين، في مساعيه، وإنما شمّروا عن سواعدهم لتنفيذ تلك الدعاوى بالمزيد من الكتابة عنها، أو حتى بتأسيس مدارس لتعليم الفتيات. هذا التأثير شاع في دول عربية عدة نستعرض بعضها في هذا التقرير.

حسين الرحال… قاسم أمين العراق

بحسب ما ورد في دراسة "حسين الرحال ونشاطه الفكري والسياسي في العراق"، لقيس إدريس جاسم وابتسام حمود محمد، فإنّ المفكر والصحافي العراقي حسين الرحال، سخّر قلمه سنواتٍ طويلةً للدفاع عن حقوق المرأة حتى لُقّب بـ"قاسم أمين العراق".

وُلد الرحال، في بغداد عام 1901، ووفّر له والده تعليماً رفيعاً انتهى بدراسته الهندسة في ألمانيا، حيث عاصر الثورة العمالية 1918، وشارك في فعالياتها، وتأثّر بخُطب قادتها روزا لوكسمبورغ Rosa luxemburg، وكارل ليبنخت Karl liebknechtK. 

في عام 1899، فجر قاسم أمين جدلاً تاريخياً بإصداره كتاب "تحرير المرأة"، ناشراً فكرة مساواة المرأة وتعليمها في مصر والشرق الأوسط. لم يقتصر تأثيره على الجدل العنيف بين مؤيديه ومعارضيه، بل ألهم حركة عملية تجاوزت الكتابة إلى تأسيس مدارس وإطلاق مبادرات نسوية حقيقية

في كتابه "نصف قرن من تأريخ وطن"، وصفه سالم عبيد النعمان، بقوله: "هو التلميذ مفرط الذكاء الذي شاهد العمال الألمان في برلين ومعهم جمهرة من الشباب المثقف ينصبون المتاريس في الشوارع، ويُطالبون بحكومة سوفياتية على طراز حكومة لينين في روسيا، ولقد اطّلع هذا الشباب على كتابات لينين فعاد إلى بغداد يحمل أفكاراً ماركسيةً".

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، توقفت الحكومة العثمانية -حاكمة العراق آنذاك- عن تمويل بعثة الرحال التعليمية، فعاد إلى العراق وعاصر اندلاع ثورة العشرين التي كانت شرارة تأسيس دولة العراق الحديثة.

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1924، أصدر الرحال وجماعة من أصدقائه، مجلة نصف شهرية حملت اسم "الصحيفة"، عُيّن حسين مديرها المسؤول، ومصطفى علي رئيساً لتحريرها، وعُدّت باكورة الصحافة الاشتراكية في العراق.

تبنّت المجلة نهجاً فريداً في الصحافة العراقية حينها، وهو طرح مواضيع تتميز بالجرأة وعدم الخوف من القضايا التي قد تثير ضيق المجتمع، كالماركسية ونظرية التطور، وقضايا المرأة وحقوقها التي احتلت ركناً رئيسياً من كتابات الرحال ورفاقه، وهو ما علّق عليه المؤرخ الفلسطيني المختص بالعراق، حنا بطاطو، بقوله: "إنّ الماركسية دخلت إلى عقول العراقيين بشكلٍ غير معلن مرتديةً ثياب تحرر المرأة".

لتحقيق هذا السبيل، خاض حسين الرحال ورفاقه معارك فكريةً عدة، أبرزها ستُعرف باسم "السفور والحجاب"، بعدما طالب في مقالاته بإلغاء النقاب ومساواة المرأة بالرجل، كما خصّص في مجلة "الصحيفة"، أبواباً كاملةً للحديث عن المرأة وسُبُل تحريرها في المجتمع.

وفي مقالة له بعنوان "الحتمية في المجتمع"، وصف الرحال، نظام العائلة العربية بأنّه من "بقايا أيام الإقطاع، وأن الحريم والحجاب من البصمات الأخلاقية للإقطاع".

وفي مقالاتٍ أخرى كثيرة، طالب الرحال، الحكومة العراقية بإطلاق ثورة اجتماعية ترفع مكانة النساء داخل العراق مثل باقي الدول الشرقية، كتركيا وإيران ومصر. بسبب هذه الدعاوى الجريئة، أُطلق على حسين لقب "قاسم أمين العراق".

وبحسب ما ورد في كتاب "دور النخبة القانونية في تأسيس الدولة العراقية"، فإنّ الرحال كان له فضل كبير على حركة تحرير المرأة بعدما "جعلها تأخذ شكل حملة، وتمت على يديه عقلنة الفكرة وتقديمها كمطلب من مطالب العملية التاريخية". 

في العراق، حمل حسين الرحال لواء تحرير المرأة وواجه حملات عنيفة من رجال الدين والجمهور، وصلت إلى إصدار فتاوى بإهدار دم رفاقه وإغلاق مجلته "الصحيفة".

بطبيعة الحال، لاقت هذه الأفكار معارضةً صريحةً من أغلب طوائف المجتمع العراقي المحافظ آنذاك، فتشكّلت وفود زارت مجلس الوزراء ووزارة الداخلية وديوان البلاط الملكي، للاعتراض على هذه المقالات، وتطوّر الأمر لاحقاً بشكلٍ دفع أحد العوام إلى إطلاق النار على شخصٍ يُشبه عوني بكر صدقي، أحد الأصدقاء المقرّبين للرحال، معتقداً أنه صديق صاحب الكتابات المثيرة للجدل.

وفي معرض حديثه عن مجلة "الصحيفة"، قال صلاح الخرسان، في كتابه "صفحات من تاريخ الحركة الشيوعية في العراق": "هُوجمت الصحيفة من قِبَل الخطباء في الجوامع، ونُظمت مضابط جُمعت فيها تواقيع المواطنين، ورُفعت إلى الجهات المسؤولة تطالب بإغلاقها".

ووفق ما ذكر الأخرس، في كتابه، فإنّ رجلَي الدين، محمد بهجت الأثري ونجم الدين الواعظ، أصدرا فتوى بإهدار دم عددٍ من أعضاء "جماعة الرحال".

تأثراً بهذا الضغط الشعبي، صدر قرار حكومي بإغلاق "الصحيفة"، وبحسب ما أورده النعمان، في كتابه، فإنّ الرحال بعد هذا القرار لم يتوقف عن العمل الصحافي؛ بل ساهم مع الصحافي العراقي ميخائيل تيسي، في تحرير جريدة "كناس الشوارع"، التي توقفت عام 1925، بعدما تعرّض ميخائيل لاعتداء بسبب محتوى الجريدة.

المثير في حياة هذا المفكر العراقي، أنه لم يكن مجرد داعية تحرير على الورق، وإنما طبّق كل ما نادى به على أعضاء أسرته، وتحديداً على نسائها، اللواتي نشطن على الدرب نفسه الذي سار عليه؛ فشقيقته هي أمينة الرحال التي درست القانون وتخرجت في كلية الحقوق 1943.

وأمينة هي أول امرأة تشغل منصب عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بين عامي 1941 و1943، وهي أول امرأة عراقية تخلّت عن الحجاب في بغداد، حسب ما ورد في كتاب "الفكر السياسي للأحزاب والحركات العلمانية في العراق"، وأيضاً اشتهرت بأنها أول امرأة تقود سيارةً في العراق.

أما زوجته، فهي سعدية سليم فتاح، الناشطة النسوية التي تخرجت في دار المعلمات، وحملت أفكاراً مشابهةً لأفكار حسين، وكثيراً ما دعت إلى التوسع في تدريس الفتيات باعتبارها خطوةً أساسيةً لبناء مجتمع متطور. وفي مرحلة تالية، التحقت بكلية الحقوق، ثم عُيّنت في سلك القضاء، وشاركت في تأسيس جميعة المرأة المناهضة للفاشية والنازية، وساهمت في وضع مسوّدة قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لعام 1959.

بابكر بدري… قاسم أمين السودان

بحسب كتاب "أضواء على الحركة النسوية السودانية"، لأحمد إسماعيل ووليد الطيب، فإنّ بدري كان أحد أبرز رجال الحركة المهدية، وقد تبنّى فلسفةً تحرريةً لتعليم النساء، تأثراً بالمدارس الحكومية المدنية التي شاهدها في مصر.

وفق كتاب "أعظم عشرين شخصيةً سودانيةً في القرن العشرين"، لوائل خضر، فإنّ بدري، نُقل إلى مصر أسيراً خلال انخراطه في الحركة المهدية التي حاولت تنفيذ حركة جريئة عبر غزو مصر بقيادة عبد الرحمن النجومي، الذي هُزم في "موقعة توشكي" عام 1889.

عقب أسره، نُقل بدري إلى القاهرة، حيث عاش فترةً طويلةً من الزمن وتنقّل بين مدن مصر الكبرى كالمنصورة والإسكندرية وأسوان فتعلّم وعمل في التجارة، وكانت الرحلة التي غيرت حياته.

وبحسب ما أورده محمد المكي إبراهيم في كتابه "الفكر السوداني: اصوله وتطوره"، فإنّ بابكر، كان من طليعة رجال المهدي الذين قبلوا الأمر الواقع وتعاملوا مع النظام الحاكم الجديد للبلاد (البريطاني المصري)، بل قبلوا في فترات لاحقة بالتعاون معه مثلما فعل محمد عُمر البنا، شاعر المهدية الأكبر الذي أصبح مفتشاً للمحاكم الشرعية، وبابكر المهدي الذي نجح في انتزاع ثقة واحترام البريطانيين فمنحوه حريةً كبيرةً للعمل.

على غرار المدارس المصرية، أسس بابكر، أول مدرسة على الطريقة الحديثة لتعليم الفتيات السودانيات في مدينة رفاعة (وسط السودان)، عام 1907. اشتملت مناهجها على تعليم القراءة والكتابة والقرآن بجانب مهارات أنثوية مثل الحياكة وأشغال الإبر. 

في السودان، أسس بابكر بدري أول مدرسة حديثة للفتيات عام 1907، متحدياً مقاومة اجتماعية عنيفة وصلت إلى محاولة اغتياله. رغم الاعتداءات والاتهامات بالكفر، ثبت بدري، ونجح في إرساء تقاليد تعليمية للفتيات، امتدت لاحقاً عبر أجيال إلى تأسيس جامعة الأحفاد ودعم حقوق المرأة 

في كتابه "أيامي في السودان"، وصف هنري جاكسون، أحد الموظفين البريطانيين في السودان، تلك الخطوة بـ"المغامرة الشجاعة لأنه في ذلك الوقت كانت أغلب الدول الإسلامية لا تتسامح مع أي نوع من تعليم البنات".

وكما هو متوقع، لاقت هذه الخطوة معارضةً شديدةً من رجال الدين والمحافظين، وبحسب المكي، فإنّ أغلبهم كانوا من تلاميذ بابكر من المهدية المتطرفين الذين عدّوا أنه "أدخل على السودان بدعةً استعماريةً رديئة".

برغم ذلك، أنشأ بدري، المدرسة، بل كانت بناته وبنات أسرته على رأس الملتحقات بها (بدأت المدرسة بـ12 بنتاً من بينهنّ 4 من بنات بدري و5 من بنات إخوته والبقية من بنات أصدقائه الشخصيين).

نجاح تجربة بابكر، شجّعت آخرين على افتتاح مدارس لتعليم الفتيات في مدينة الكاملين وأخرى في القطينة، بينما فتح الإمام عبد الرحمن المهدي، مدرستين في منازله داخل أم درمان.

ومع بدء تخريج الطالبات في المدارس الأهلية، برز السؤال-المشكلة: أين تذهب خريجات هذه المدارس؟ وهذا الأمر دفع السلطات لاحقاً إلى فتح كلية للمعلّمات لتكون أول مدرسة عليا للفتيات في السودان، وذلك عام 1921.

المثير في الأمر، أنّ كثيراً من رجال المجتمع السوداني رفضوا إلحاق فتياتهم بكلية المعلمات، لأنها كانت تشترط إقامة الفتيات داخلها، فما كان من بابكر، إلا أن ألحق ابنته واثنتين من بنات إخوته بالكلية سعياً منه إلى تغيير نظرة المجتمع إلى هذه الكلية.

لم تمرّ هذه الأنشطة دون عواقب؛ فبحسب كتاب "حكاوي أم درمان"، لشوقي بدري، فإنّ رجلاً هاجم مدرسة بابكر، وضربه وحاول خنقه حتى كاد أن يقتله لولا أن لحق به العاملون في المدرسة، وخلال محاكمته برّر المُهاجِم فعلته بأن أحد الشيوخ أخبره بأنّ بابكر كافر.

بشكلٍ عام، حظي بابكر بسيرة مهنية حافلة في مجال التعليم؛ ففي 1917، تم تعيينه مفتشاً للتعليم، وبعدما تقاعد عن عمله الحكومي بدأ بإنشاء مدارس الأحفاد التي حققت نجاحاً كبيراً حتى وصل عدد الملتحقين بها إلى ما يزيد على 800 طالب عام 1950، بحسب جاكسون.

وعقب رحيله، نعاه وزير التعليم السوداني ميرغني حمزة، قائلاً: "الناس يتحدثون عن أفلاطون وفكتور هوغو وبرتراند رسل من أعلام المربّين، ونتحدث عن بابكر بدري الفيلسوف الذي بنى فلسفته على واقع الحياة، واستخلص منها مناهج ستظلّ أبد الدهر مناراً يُستهدى بها".

تميّزت سيرة بدري بأمرٍ لا نكاد نجده في غيره من باقي المُصلحين، وهي أن أحفاده ساروا على دربه التنويري حتى اليوم، فبعد وفاته استمر أحفاد بابكر في قيادة مسيرته التعليمية النسائية، فأكملوا حلم بابكر بتوسيع "مدارس الأحفاد" التي تحولت لاحقاً إلى "جامعة الأحفاد" التي أسسها ابنه يوسف بدري، عام 1966، للفتيات فحسب، وكانت الجامعة السودانية الوحيدة التي خصصت معهداً كاملاً لـ"دراسات الجندر".

وفي 1979، أسسوا جمعية "بابكر بدري للدراسات النسوية"، التي تحظى بدعمٍ من الأمم المتحدة، وقادت حملات عدة لدعم صحة الأسرة السودانية ومحاربة الختان والزواج المبكر.

الطاهر الحداد… قاسم أمين تونس

كتابات كثيرة عدّت آراء المفكر التونسي الطاهر الحداد، امتداداً لدعوات قاسم أمين، أبرزها كتاب محمد المي، "مسألة المرأة بين قاسم أمين والطاهر الحداد"، الذي طبعته وزارة الثقافة التونسية على نفقتها.

المفارقة الأولى التي جمعت بين الرجلين، أنّ الطاهر وُلد عام 1899، وهي السنة التي صدر فيها كتاب "تحرير المرأة" لقاسم أمين. وبحسب الكتاب، فإنّ الطاهر تلقّى تعليماً دينياً محلياً بدأ في الكتاتيب وانتهى في جامع الزيتونة، الذي نال منه ما عُرف وقتها بـ"شهادة التطويع". 

طرح الطاهر الحداد أفكاراً ثورية عن حقوق المرأة في كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع"، فواجه التكفير والطرد والعزلة الاجتماعية، ولم يُنصف إلا بعد عقود حين تحققت بعض مطالبه مع استقلال تونس وتقنين الأحوال الشخصية.

مبكراً، أظهر الحدّاد تبنياً نادراً لقضية المرأة، فبرغم أنه خصص كتابه "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية" (1927)، لمناقشة أسباب ضعف حركة العمال في تونس، فإنه تطرّق فيه إلى كمّ المشكلات الأسرية التي تعصف بالمجتمع التونسي، فكتب: "كم يلزمنا من المجلدات والتفكير العميق إذا أردنا أن نتحدث عن البيوت والحياة الزوجية وأسباب التشويش العائلي وكثرة الطلاق وسهولة وقوعه".

بعدها، طرح المفكر التونسي كتابه "امرأتنا في الشريعة والمجتمع" (1928)، الذي كان وقعه كالقنبلة في تونس بعدما تبنّى فيه ابن الجامعة الزيتونية، طرحاً جريئاً بضرورة الاجتهاد بنصوص الشريعة بما لا يوقع الظلم على المرأة ولا يبخس حقوقها، ورأى أنّ ما انتهت إليه الشريعة الإسلامية في عهد النبي يجب ألا نتوقف عنده بل أن نستزيد فيه من الحقوق.

في إحدى فقرات الكتاب، ذكر الحداد "لقد حكم الإسلام في آيات القرآن بتمييز الرجل عن المرأة في مواضع كثيرة، وليس بمانع أن يقبل بمبدأ المساواة الاجتماعية عند توفر أسبابها بتطور الزمن ما دام يرمي في جوهره إلى العدالة التامة، فهو الدين الذي يدين بسُنّة التدريج في تشريع أحكامه، وليس هناك ما ينصّ على أن ما وصل إليه التدريج في حياة النبي هو المأمول الذي ليس بعده نهاية".

من هذه القناعة، طالب الحداد بالمساواة في الميراث بين المرأة والرجل، ومنح المرأة حق الطلاق، وعارَض تعدد الزوجات، وغيرها من الآراء التي عُدّت ثوريةً أيامها، وفي ختام مؤلَّفه، كتب الحدّاد: "بدل أن يسعى المسلمون لتأهيل المرأة من الوجهة الاجتماعية حتى تستثمر بحق ما يعطيها الإسلام من حقوق، فإنهم حجبوها عن العالم أجمع بما جعلها أبلغ مثال للجهل والبله والغُبن وسوء التربية".

كذلك وجّه الطاهر، دعوات بالغة الجرأة إلى سفور المرأة ورفض النقاب، فكتب ساخراً: "ما أشبه ما تضع المرأة من النقاب على وجهها منها للفجور بما يُوضع من الكمامة على فم الكلاب كي لا تعضّ المارين"، وفي موضعٍ آخر عدّ أنّ الحجاب "منع المرأة من التعليم وإدارة شؤون المعاش اليومي".

أيضاً انتقد تعدد الزوجات ورأى أن هذه العادة تسرّبت إلينا من الجاهلية، فكتب: "إنما هو سيئة من سيئات الجاهلية الأولى التي جاهدها الإسلام وفق سياسته التدريجية".

فور صدور الكتاب، اشتعلت ضجة حوله، فحاولت جماعة المثقفين المُجددين دعم الطاهر الحداد، في أفكاره لتحرير المرأة، مثلما فعلت مجلة "العالم الأدبي" الشهيرة، ومثلما فعل الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي، الذي كتب في إحدى رسائله: "يُقال إنّ النظارة تفكر في القيام على صديقنا الطاهر الحداد وطلب حجزه كما فعلت مشيخة الأزهر في مصر بـطه حسين وكتابه، ويوم الجمعة ستُقام للصديق حفلة تكريمية كبرى وستُتلى فيها الخطب والقصائد"، حسب ما ورد في كتاب "ثورة النخبة الإصلاحية التونسية"، لفتحي بو عجيلة.

في تشرين الأول/ أكتوبر 1930، أُقيم ذلك الحفل، وفيه ألقى الحداد، كلمةً أعلن فيها دعمه الكبير لأفكار قاسم أمين، الذي "قيّضه الله لمصر رغم معارضات دعاة القديم"، حتى بدأت "نساء مصر في التحرر بصفة تدريجية".

برغم هذا الدعم النسبي من فريق المُجددين، إلا أنّ الغلبة والصوت الأعلى ضد الحدّاد كانا لمعارضيه الذين خلّفت حملاتهم عليه آثاراً سلبيةً ضخمةً في حياته، وأبرز المعارضين كانوا فقهاء جامع الزيتونة الذين شكلوا لجنة لتقييم الكتاب انتهت بإدانته، فكُفِّر وطُرد من عمله في الجمعية الخيرية الإسلامية، وسُحبت منه شهادة التطويع، ومُنع من إلقاء الدروس، بحسب بو عجيلة.

كما سمح فقهاء الزيتونة لكتابَين بالصدور ردّاً على الحداد؛ فكتب ضده الشيخ الحنفي محمد صالح بن مراد، كتابه "الحِداد على امرأة الحدّاد"، كذلك ألّف عمر بن إبراهيم المدني البري، كتابه "سيف الحق على من لا يرى الحق"، واصفاً الحداد بأنه "فرد من شيعة طه حسين وسلامة موسى وأضرابهما من رؤساء الملحدين المتسترين بدعوى التجديد والإسلام".

بحسب كتاب "منطلقات التنوير في الثقافة التونسية"، لمحمد المي، فإن الحداد عاش أعواماً حزينةً لم يتوقف فيها عن النضال، فوضع كتاباً عن إصلاح التعليم الفقهي الزيتوني، وآخر ضمّ فيه أشعاره إلا أنه لم يرَ النور إلا بعد وفاته، أما كتابه "امرأتنا"، فلم يُسمح بطباعته مُجدداً إلا عام 1972.

في كانون الأول/ ديسمبر 1935، تُوفي الطاهر ملاحقاً باللعنات، فلم يسِر في جنازته سوى نفر قليل من أصدقائه من بينهم صديقه الصحافي الهادي العبيدي، الذي كتب على ضريحه: "هذا ضريح شهيد الحق والواجب المُصلح الاجتماعي الطاهر الحداد"، ولم يُردّ إلى الطاهر اعتباره إلا في عهد الاستقلال التونسي، حتى قُنّنت الأحوال الشخصية في صورة قوانين 1957، ودخل حيّز التنفيذ الكثير مما حلم به المصلح الاجتماعي التونسي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image