أعتذر لأني لستُ نسوية "كوول"، لكنّي أحارب لأن أكون أنا فقط.
ترعبني الألقاب والمسميات الفضفاضة منذ صغري، أشعر بأنها تأتي مع دستةٍ كاملةٍ من المسؤوليات والتوّقعات وتحتّم على حاملها أخذها "صبّة واحدة"، لذا كنت أشتم كلّ من يلقبني بالنسوية، أردتُ أن يُسمح لي بفعل ما أحب وأن أصرخ في وجه العنف دون مسمّيات، وساعدني المجتمع على أن أعتبر "النسوية" وصمة عار، وعندما كبرتُ فهمتُ كيف يشوّه المجتمع كلّ ما يخافُ منه في عيون أطفاله، حتى يسلبه قوته ويقتله في المهد، وبأعجوبةٍ ما لم يفلح هذا معي، لأني كبرتُ وصرتُ نسويّة، لكنّي لست نسوية "كوول". ليس دائماً على كلّ حال.
كنت أفكّر في علاقاتي العاطفية والاجتماعية قبل كتابة هذه المادة، واكتشفت أن سبباً رئيساً في تدهورها هو عدم توافق توقعاتي مع توقعات الآخرين في علاقاتي مهما كان نوعها، وسأتحدّث وأخاطب الطرف الآخر هنا بضمائر المذكّر لسهولة الكتابة لا لجندرة النص، علماً بأنّ كلّ ما سأقوله ينطبق على الجنسين.
كيف تحدّد النسوية طبيعة علاقاتنا؟
لم يعد يخفى على أحد أن الاهتمام بالقضايا الإنسانية صارت مقياساً مهمّاً لتحديد العلاقات الإنسانية، إذ بدل أن يسألني الطرف الآخر اليوم عما إذا كنت أحب أم كلثوم، يسألني: "وأنت مع قضايا النساء؟"، وجوابي على هذا السؤال سيحدّد إذا ماكنا سنصبح أصدقاء، أو في أفضل الأحوال سنتواعد، أما أنا فأحدّد جوابي ومسار هذه العلاقة عندما ينطق سؤاله تماماً، فلو قال: "أنت مع قضايا المرأة وهالحكي الفاضي؟"، أحاول التركيز على ما تعلّمته من أساليب الخطابة وسلوكيات التحاور السلمي حتى لا أسخر من سؤاله، ولو سألني: "شو رأيك بالقضية النسوية؟"، أبتسم وأنا أوضح له وجهة نظري الخاصة بها.
أقول لأبي إني تعبتُ من العمل وبحاجةٍ لأن يقشر لي البرتقال بجانب مدفأة الحطب، دون أن أُعامل باستخفافٍ أو أتّهم بالرماديةِ أو ادّعاء الحرية، أليست الحرية في أن نكون ما نريد الآن؟
لكنّ العلّة الأساسية ليست في كوني نسوية، بل باتفاقي مع الشخص المقابل -بغض النظر عن جنسه- على كون كلينا يحترم النساء وحراكهنّ، وهنا نبدأ برسم التوقّعات؛ يتوقع من وجهي حلقين على الأقل، مع آيلاينر أسود كثيف، ولسان أطول مني، بينما يتوّقع من خزانتي ألا تحوي شورتاً أطول من شبرين، وبالطبع أن نذهب إلى البار متى شاء لنسكر ثم نعود إلى بيته، حيث سنشتم ونتناقش كثيراً حول تعقيدات الشرق الأوسط وانغلاقه الفكري، وما يؤديه من كبتٍ جنسي وتفاقمٍ لحالات العنف، قبل أن نمارس جنساً عنيفاً بدورنا، بينما أتوقع منه أن يشعر بالحرية معي لدرجة ألا يضطر للكذب أو الالتفاف عندما يريد التعبير عن مشاعره أو رغباته، وأن يستمرّ باحترامي، لو لم أجد إحداها أو كلها مناسبة لي، وبالطبع يحدث هذا مع النساء مثليات الجنس، لو اكتشفن أني لست مغايرة الجنس بشكلٍ تام، فكيف أصنّف نفسي على أني داعمة لحقوق المثليين والمثليات، وأرفض دعوة أحدهم إلى سيجارة حشيش وأعاتبهن لو لمسوني دون إذن؟
أريد أن يعانقني العالم، بالبيجاما والفستان
أناصر كلياً أحقية تصرّف الأشخاص مثلما يحبّون، أحقية تغيير أشكالهم وإبداء آرائهم كيفما كانت، مثلما أحب شخصياً أن أسكر وأغني وألا أتعرّف على نفسي من كثرة الماكياج، أن ألوّن شعري ووجنتيّ وأركض بفستانٍ يكاد لا يغطي غير وركي، وأحارب حتى لا يهاجمني أو يحاكمني أحدهم لو فعلت، غير أني في أغلب الوقت أحب الحفاظ على مساحتي الخاصة والتزام حدود الأدب في كلامي، أن أكون لطيفةً وساذجةً وأساعد أمي في تنظيف الصحون وأقول لأبي إني تعبتُ من العمل وبحاجةٍ لأن يقشر لي البرتقال بجانب مدفأة الحطب، دون أن أُعامل باستخفافٍ أو أتّهم بالرماديةِ أو ادّعاء الحرية، أليست الحرية في أن نكون ما نريد الآن، أم علينا أن نُسجن طيلة العمر في رغباتٍ لا تجتاحنا دائماً؟
أناصر كلياً أحقية تصرّف الأشخاص مثلما يحبّون، أحقية تغيير أشكالهم وإبداء آرائهم كيفما كانت
أحب التنويه إلى أن هذا الاكتشاف لم ينبع من حدة ذكائي و"فطحلتي"، لأنني كنت أتصفح فيسبوك مثل أي شابة تحاول عدم الانتحار عن طريق تضيع وقتها بما لا يهم، عندما تعثّرت بمنشور حول تنميط "المرأة النسوية" لشابة اسمها كاتيا الداغستاني، وشعرتُ بها تخرج من منشورها لتصفع إدراكي لذاتي صفعةً تخلخلُ كل موازينه، فكيف لم أحاول قط الحديث عما أواجهه كنسوية، لا من استهزاءٍ بقضيتي وحسب، بل من توقعاتٍ عن شخصيتي كلها!
التنميط... عقبةٌ لم نلحظها بعد
أعرف تماماً أننا جميعاً نلحظ التنميط ونحاول ألا نقع ضحيته، لكن هل نجحنا في ذلك بعد؟
لا أعرف عنكم، غير أنّ أحد أصدقائي التقى أخيراً بفتاة أحلامه، وأول ردة فعلٍ صدرت عني لمّا رأيتهما معاً كانت: "ليس غريباً، إنها كوول مثله، وسيكونان ثنائياً جيداً"، وفجأةً انتبهت إلى تكويني صورةً ذهنيةً كاملةً عن بنتٍ لا أعرف عنها غير اسمها وصورتها، بل وعن شكل علاقتها المستقبلية بصديقٍ لا أعرف أبداً كيف يحبّ، ولا إن كان "كوول" في العلاقة، أم أنهما فقط يلتقطان صوراً مميزة. أنا مثلهم، عرّفتُ الشخص "الكوول" من منظورٍ خاصٍ تماماً، ولم أدرك ذلك قبل أن أكتب هذه المادة، والآن أشعر بالخجل.
يحدث هذا مع النساء مثليات الجنس، لو اكتشفن أني لست مغايرة الجنس بشكلٍ تام، فكيف أصنّف نفسي على أني داعمة لحقوق المثليين والمثليات، وأرفض دعوة أحدهم إلى سيجارة حشيش وأعاتبهن لو لمسوني دون إذن؟
بعد انتباهي لكيف تحوّلت هذه الانطباعات إلى جزءٍ من سلوكي الحياتي؛ بدأتُ ألاحظ تشعّب هذه الظاهرة لتلتصق بنسيجنا الاجتماعي الحديث، وداهمني إدراكي لكوننا نحن الذين نحارب كلّ يوم للقضاء على الصور النمطية القديمة نخلق صوراً لا تقل وحشيةً عنها، غير أنّ قناعها ملوّنٌ أكثر وليست كلّ الجواكر مُضحكةً.
ماذا نفعل؟
سمعتُ مرةً بنظريةٍ نفسيةٍ مفادها أننا لا نستطيع تجاهل معرفتنا بشيءٍ ما حالما نعرفه، لذا منذ عرفتُ أنّي أنمّط نفسي والآخرين، رغم مناداتي بعدم التنميط، صرتُ أحلّل أحكامي على الآخرين بطريقةٍ مختلفة، آخذةً بعين الاعتبار كونها قد تكون متأثرةً بتوقعاتٍ شخصية لا تعكس بالضرورة أفعال أو شخصية صاحبها، ما ساعدني على جعل توّقعاتي أكثر واقعيةً وأقل شمولية، وحطّم قيوداً كثيرةً تخنق علاقاتي ومشاعري.
لا أعرف ما الذي يمكن أن نفعله كجماعة, غير أنّي الآن أدرك أن أول خطوات التغيير والحريّة تبدأ بالوعي, وعندما نعي تصبح الحريةُ خياراً أكثر واقعية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون