شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عن

عن "كرتون الحرب والنزوح السوريَّين"... وعن برامج الأطفال بين الحاضر والماضي والوجدان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الخميس 6 أبريل 202301:54 م

تندرج هذه المادة ضمن ملف الرسوم المتحركة (استراحة في عالم الألوان والأمل)، في قسم ثقافة، رصيف22.


كانت لحظة فارقة في أوج طفولتي نهاية السبعينات حين وصلت الكهرباء إلى قريتنا، وبدأتُ أتعرّف معها على عجائب هذا الاختراع العظيم، من إنارة وتلفاز وأدوات كهربائية بسيطة في تلك الفترة. قبل ذلك، عرفت الراديو القديم في بيت عمي، مختار القرية، والذي كان يعمل على المدخرات وكان معطلاً في أغلب الأوقات.

أحضر أخي تلفازاً صغيراً (بالأسود والأبيض)، وبدأت معه معرفتي ببرامج الأطفال التي كانت حدثاً مهماً في حياة طفل لم يعرف إلا اللعب في أراضي القرية مع أصدقائه.

مع اشتعال الحرب في سوريا، لم يكن لبرامج الأطفال وجود في حياة أطفالي، وربما كانت حكاية ليلى والذئب التي تقصّها عليهم زوجتي قبل النوم هي الحكاية الوحيدة التي كانوا يسمعونها بعيداً عن قصص الحرب والرصاص 

غير أن المفاجأة الكبرى كانت بداية الثمانينيات، عند وصول التلفزيون الملون وبشاشة أكبر هذه المرة، لتتضح معه معالم الصورة بألوانها الحقيقية، ولتصبح المشاهدة أكثر متعة وتشويقاً. يبدأ البث في الثالثة عصراً بالقرآن الكريم، ومن ثم ساعة من البرامج التعليمية التي كانت مملة بالنسبة لنا، لتأتي حصتنا ومدتها ساعة واحدة فقط، يُعرض فيها برنامجان كرتونيان.

كانت أغلب البرامج الرائعة التي نحضرها بدبلجة عراقية أو لبنانية إلى اللغة العربية الفصحى: سنان، وريمي، وساسوكي، وهايدي، وليدي أوسكار، وحكايات عالمية، وما تزال أغاني مقدمات تلك البرامج راسخةٌ في أذهاننا؛ يشدّني الحنين لدى سماعها إلى تلك الأيام البيضاء، وأتمنى لو أن الزمن توقف تلك اللحظة ولم أرَ هذه الأيام السوداء.

تجاوز تداعيات النزوح

مع اشتعال الحرب في سوريا، كان النزوح الأول لي مع عائلتي في آب/أغسطس 2012 من مكان عملي، مدينة حلب، إلى مسقط رأسي قرية فريتان في ريف السلمية الشرقي، حيث العزلة شبه التامة عن العالم الإلكتروني بسبب انقطاع التيار الكهربائي ووسائل التواصل كافة، بما فيها المرئية. لم يكن لبرامج الأطفال وجود في حياة أطفالي، وربما كانت حكاية ليلى والذئب التي تقصّها عليهم زوجتي قبل النوم هي الحكاية الوحيدة التي كانوا يسمعونها بعيداً عن قصص الحرب والرصاص، فكان لا بد من النزوح الثاني إلى مدينة السلمية.

لم يختلف الأمر كثيراً في النزوح الثاني، لناحية التواصل المتلفز مع العالم، لكن كان لا بد من حلّ لإبعاد أطفالي عن قصص القتل والدماء وقطع الرؤوس من جهة، وجعلهم يلتزمون الجلوس تحت الغطاء لتجاوز برد الشتاء القارس آنذاك، لعدم توفر وسائل التدفئة من جهة أخرى.

لمعَت فكرة تحميل برامج أطفال قديمة على "كارت" ذاكرة الموبايل، فكانت البداية من "حكايات عالمية"، البرنامج الراسخ في ذاكرتي والذي أوصل لنا أمهات قصص الشعوب والروايات العالمية عندما كنا صغاراً، لنقرأها كتباً عندما كبرنا.

لفت نظري تأثر أطفالي بقصة "البؤساء"، وبكائهم عند مشاهدة قصة "العندليب والوردة". هنا، عادت بي الذاكرة إلى طفولتي وبكائي لموت الكلب "زوربينو" في مسلسل ريمي المدبلج والمنتج في التلفزيون العراقي، كما تذكرت صديقا لي قال لي إن آخر مرة بكى فيها كانت عندما مات حمار فلونة في البرنامج الشهير عن عائلة روبنسون كروزو السويسرية. أتساءل اليوم: هل يمكن لبرنامج كرتون حديث أن يُوصلك إلى هذه الحالة من التأثر؟

كان لتلك البرامج أثر واضح في شخصيتنا وبنائها وتكوين نظرة بعيدة، نوعاً ما، عن الواقع، وأن الخير لا بد وأن ينتصر على الشر في النهاية. نظرة بعيدة كل البعد عن بلدٍ تدمّر وسالت الدماء فيه، وضاعت البوصلة لدرجة لم تعد تميّز الخير من الشر. الكل أشرارٌ عندما تفوحُ رائحة الموت من كل زاوية في بلدك.

كانت ساعة الزمن تدور ببطء شديدٍ، وتزداد قسوة الأيام، وأنا أحاول، عبثاً، إنقاذ ما يمكن إنقاذه من تداعيات الحرب على أطفالي. كانت فكرة لا بأس بها، لكنّ صوت الحرب وقعقعة السلاح كانا أعلى من أي صوت، وكانت جزئية برامج الأطفال صغيرة مقارنة بما يرونه ويسمعونه من قصص وحكايا الدمار، ويمكن تلمّس ذلك من طريقة لعبهم في الحي، وهو لعبٌ تغلب عليه صفة العنف والضرب والمعارك الوهمية، كما هي حال جميع أقرانهم فيه، على أقل تقدير.

كان للبرامج الكرتون أثر واضح في شخصيتنا وبنائها وتكوين نظرة بعيدة نوعاً ما عن الواقع، وأن الخير لابد وأن ينتصر على الشر في النهاية. نظرة بعيدة كل البعد عن بلٍد تدّمر وسالت الدماء فيه.

في تلك الفترة، أقامت "مؤسسة الآغا خان" دورةَ إعداد نفسي لكيفية التعامل مع الطفل أثناء الحروب. لم أتوانَ وزوجتي لحظةً عن المشاركة فيها، لكن كنا نحن الكبار، نحتاج تأهيلاً نفسياً أيضاً حتى نستوعب ما جرى ويجري والكوارث التي واكبت نزوحنا.

بعد العودة إلى حلب، والصدمة التي رافقتها لرؤية منزلي المدمّر وقصاصات الورق المتبقية من ذاكرتي المكتوبة شعراً أو نثراً، وبعض الصور، وعدة كتبٍ تسللت خلسةً من المحرقة التي طالت مكتبتي.. هدأَت، نوعاً ما، نار الحرب العسكرية، لتبدأ الحرب من أجل لقمة العيش، والتي استهلكت وقتي بالكامل.

كرتون الجائحة وما بعدها

زادت جائحة كورونا الطين بلةً، وازداد معها الضغط الاقتصادي والنفسي والقصص التي رافقتها عن "ترهات" طرائق الوقاية من الوباء، ليأتي الحجر الصحي الذي فرض علينا أوقات فراغ هائلة كان لابد من ملئها. وفعلاً، ومع توفر النت، بدأت بمشاهدة برامج الأطفال القديمة على اليوتيوب مع أطفالي، وشاهدنا "النسر الذهبي"، "صراع الجبابرة" و"جزيرة الكنز"، وهي مسلسلات تصور البطل وكأنه "جيفارا الأطفال": الشخصية التي تقف دائماً في وجه أشرار هذا العالم، والبطل المنقذ الذي يحضر فجأة في الوقت الذي تحتاج، لتعيش حالة من النشوة الغامرة والسعادة المزيفة، قبل أن تسأل بعد انتهاء الحلقة: ألا يوجد ساسوكي أو غراندايزر، يأتي في اللحظة الأخيرة لينقذنا من هول ما وصلنا إليه من قرف وشروخ نفسية واجتماعية في هذه الحرب، ويضع حداً لهذه المهزلة؟

تنامت حالة انتظار البطل المنقذ فينا بتأثير تلك البرامج، ولاحقاً بتأثير رموز التحرر والنضال السياسي في العالم، وهي الفكرة التي صارت سخيفة اليوم. ولّى زمن الأبطال، وبات الموت والغدر البطل الوحيد في بلدي.

اشتركنا بما يسمى "الأمبير"، فتوفرت الكهرباء لمدة عشر ساعات تقريباً، وعاد الأولاد لمشاهدة برامج الأطفال الحديثة على قنوات "مخصصة" لهم تبث أربع وعشرين ساعة، وكنت أشاهد معهم بعض البرامج بحسب وقت فراغي.

تعددت المشاهد وتنوعت، منها الإيجابي ومنها السلبي، لكن لفت نظري برنامجان هما: "غامبول" و"كلارنس"، وقد يكونان الأكثر شهرة ومشاهدة اليوم. لم أرَ في الحقيقة سوى تشويه وتسخيف للقيم الأخلاقية التي تربّينا عليها، من خلال مشاهد التخريب في المنزل والمدرسة والتعامل السيء مع الوالدين وأساتذة المدرسة والكثير من الحركات المبهمة والسخيفة التي بدأ أطفالي يقلدونها ويتماشون معها، وبعض البرامج التي تبرر العنف وتسوق له بطريقة تبدو "ممنهجة". هنا أدركت خطورة الموقف واضطررت إلى حذف إحدى القنوات التي تعرض هكذا برامج.

في المقابل، كان ثمة برامج لطيفة قد تكون مصدراً لبعض الخبرات التي يمكن أن يكتسبها الطفل، وعوناً له في فهم ما يجري حوله في ثورة الاتصالات هذه، والتي يمكن اعتبارها من أهم مصادر توجيه الطفل، سلباً أو إيجاباً، وربما كانت برامج الأطفال أخطرها، في ظل انشغال الوالدين الطويل عن أبنائهم لتأمين سبل العيش التي باتت صعبة اليوم.

لا يمكن التغاضي عن كون التلفزيون والإنترنت زادا قطر دائرة معارف الطفل، ووسّعا خبرته وخصوصاً برامج الأطفال، لما لها من دور كبير في تشكيل الوجدان العقلي له ولتأثيرها السلبي أو الإيجابي في تكوين شخصيته وتطويرها وتحديد سلوكه. أضف تأثيرها على نموه الإدراكي وتركيبته النفسية، وتكوين رؤيته الخاصة تجاه ما يجري حوله من أحداث، وقولبتها ضمن مفهومه الخاص الذي اكتسبه، بدرجة كبيرة، من وسائل التواصل، بتعدد مشاربها. وبمعنى أدق وعلى نحو ما، راقِب ما يشاهده طفلك أو يتابعه على التلفزيون والإنترنت، لفهم سيكولوجيّته.

لا يمكن التغاضي عن كون التلفزيون والإنترنت زادا قطر دائرة معارف الطفل، ووسّعا خبرته وخصوصاً برامج الأطفال، لما لها من دور كبير في تشكيل الوجدان العقلي له ولتأثيرها السلبي أو الإيجابي في تكوين شخصيته وتطويرها وتحديد سلوكه

لكن سخونة الأحداث في سوريا والقصص التي رافقتها والمنقولة شفهياً، والتي يسمعها الطفل أو يشاهدها مباشرة، جعلها منافساً لا يستهان به، بل وطغت على سلوكه وبنيته النفسية، خصوصاً في الأماكن الساخنة التي يعيش فيها الأطفال بعيداً عن وسائل التواصل؛ حيث يعيشون الحرب كما هي ومن دون ماكياج، بقذارتها وتداعياتها التي أنتجت جيلاً بدأت تتضح ملامحه، بعد الهدوء الحذر الذي نعيشه اليوم. جيلٌ منهار، وزاد الحال صعوبة انسداد الأفق في بلد ينهار اقتصادياً، ويعيش أبناءه على الفُتات وينتظرون أي فرصة يمكن أن ترميهم خارج هذه البلاد، إلى الفردوس الذي يقبع خارج الحدود.

لقد كان لبرامج الأطفال القديمة دور كبير في بناء شخصيتنا وسلوكها، بالتشارك مع طبيعة المجتمع في تلك الفترة، وهذا، ربما، جعلنا عاطفيين وانفعاليين أكثر من اللازم. تفاعلنا مع الأحداث بألم أكثر من غيرنا، وصدمتنا كانت أكبر لأننا اعتدنا المثالية في تفسيرنا لما يدور حولنا.

كان وقع الفاجعة علينا مضاعفاً. ما أصعب أن تنقلب الموازين والأفكار في لحظة واحدة، وما أصعب تقبّلها، وما أصعب الترقّب وانتظار شمسٍ تُشرق أو بُرعم يُزهرُ في هذا اليباب الذي يُحاصر بلادي.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image