شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
السوريون في النمسا... طعم آخر للخوف بعد صعود اليمين

السوريون في النمسا... طعم آخر للخوف بعد صعود اليمين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

العالم العربي وأوروبا

الاثنين 7 أبريل 202509:32 ص

في 23 شباط/ فبراير 2025، شاركتُ في مظاهرة صغيرة في فيينا، مع مجموعة من اللاجئين واللاجئات السوريين/ ات، للتنديد بحادثة "فيلاخ"، وتصاعد موجة العنصرية التي تبعتها. كنا نحمل الشموع ونسير ببطء في محاولة للتعبير عن احتجاجنا السلمي. فجأةً، اقتربت منّا امرأة، وقالت بصوت قاسٍ: "دينكم هو الذي يطعن ويقطع الرؤوس، عودوا إلى بلادكم".

كانت تسير بجانبنا دون رادع، تحاول استفزازنا، بينما كانت الشرطة تراقبها وتبعدها عن المكان. شعرنا جميعاً بالصدمة والذهول، فلم نكن نتوقع سماع مثل هذه الكلمات هنا. كانت تلك اللحظات أشبه بكابوس يعيد نفسه، في وقت ازدادت فيه الحوادث العنصرية ضدنا. ووسط ذلك كله، كنت أرى حولي وجوهاً ناضلت للبقاء في وطن لا يبدو أنه يرحّب بنا.

شرارة العنصرية

مساء 16 شباط/ فبراير 2025، شهدت مدينة "فيلاخ" النمساوية حادثةً مروعةً، حيث صرخ شاب سوري قائلاً: "الله أكبر"، ثم هاجم عدداً من الأشخاص بسكين، ما أسفر عن مقتل شاب نمساوي يبلغ من العمر 14 عاماً، وإصابة خمسة آخرين، بينهم أربعة نمساويين، بالإضافة إلى مواطن عراقي وآخر لم تُعرف جنسيته بعد.

كان علاء الدين الحلبي، وهو سائق توصيل سوري، شاهداً على الحادث، فسارع إلى التدخل وصدم الجاني بسيارته في محاولة لإنقاذ الضحايا. وبرغم ذلك، ركّزت وسائل الإعلام، وفق ما نشرته صحيفتا Der Standard وDie Presse النمساويتان، على "الإرهاب" الذي نفّذه متطرف سوري، بينما لم يُسلَّط الضوء على السوري الآخر الذي أنقذ أرواح الأبرياء، في تكرار للانحياز الإعلامي في تصوير الآخر ضمن قوالب نمطية محددة.

أثارت الحادثة قلق الجالية السورية في النمسا، إذ تم ربط هذا العمل الإرهابي بالسوريين عموماً، بدلاً من اعتباره فعلاً فردياً. وبرغم ذلك، يرى محمد سعيد، وهو مهندس ديكور سوري مقيم في فيينا منذ عامين، أن هذا الخطاب الشعبوي مؤقت وسيتلاشى مع الوقت، لكنه يؤكد أنّ مواجهة هذه الظاهرة مسؤولية مشتركة: "للأسف، بعد حادثة فيلاخ، أصبحت العنصرية أكثر وضوحاً من قبل. ومع ذلك، لا ألوم بالكامل من يعاملوننا بعنصرية، بل ألوم الإعلام الذي يعزز خطاب الكراهية ضد اللاجئين، وألوم بدرجة أكبر الشخص الذي ارتكب الهجوم الإرهابي على الأبرياء، وكذلك من يدعمون هذا التصرف. لكن في الوقت نفسه، يجب ألا يتم التعميم علينا جميعاً".

بينما ركزت وسائل الإعلام النمساوية على التطرف الذي مارسه سوري واحد، غابت عن المشهد قصة السوري الآخر، الذي بادر إلى إنقاذ الأرواح وسط الفوضى

يتحدث محمد، أيضاً، عن تجربته الشخصية مع العنصرية، والتي انعكست على فرصه في سوق العمل. فبرغم إتقانه اللغة الألمانية وحصوله على شهادة جامعية من سوريا، إلا أنّ محاولاته المتكررة للحصول على وظيفة باءت بالفشل. يعتقد أنّ الفرص المتاحة للسوريين تقتصر غالباً على الوظائف التي لا يقبل بها المواطنون النمساويون، وهو ما يتماشى مع القانون النمساوي الذي يمنح الأولوية في التوظيف، للمواطنين النمساويين أو الحاصلين على الجنسية الأوروبية.

اللحظة الفارقة

أتذكر جيداً تفاصيل ذلك الأحد، الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 2024، عند الساعة التاسعة صباحاً. تزامنت فرحة السوريين بسقوط نظام الأسد، مع صعود اليمين المتطرف في النمسا، عقب فوزه في الانتخابات.

مثّل سقوط الأسد، فرصةً للحكومة النمساوية الجديدة لفرض سياساتها اليمينية، حيث أعلنت وزارة الداخلية (BMI)، عن قرارات عدة، من بينها: تجميد جميع طلبات اللجوء للسوريين حتى إشعار آخر، وتعليق لمّ شمل الأسر للّاجئين السوريين، وبدء إجراءات سحب اللجوء من 2،400 سوري. كما أطلقت الحكومة برنامجاً للترحيل أو العودة الطوعية.

إيمان، لاجئة سورية تقيم في مدينة "لينز" في النمسا العليا، ومعتقلة سابقة في سجون نظام الأسد، تكتفي بذكر اسمها الأوّل، وتقول: "أمضيت سنةً ونصف في هذه البلاد، ولم يصدر بعد أي قرار بشأن لجوئي. وعندما حصلت أخيراً على موعد للمقابلة، على أمل أن أحصل على إقامة وأبدأ بالاندماج في المجتمع، تحررت سوريا، وجُمّدت جميع طلبات لجوئنا... وجُمّدت حياتنا معها".

مع بداية عام 2025، سجّلت النمسا انخفاضاً ملحوظاً في عدد طلبات اللجوء، مقارنةً بالفترة نفسها من العام السابق، حيث تراجعت بنسبة 58%. وبرغم تقديم الحكومة النمساوية مكافأةً ماليةً وتذكرة طيران للذهاب بلا عودة لكل سوري يرغب في العودة الطوعية، إلا أنّ هذه المبادرة لم تلقَ استجابةً إلا من 88 شخصاً فقط، من بين نحو 100،000 سوري لجأوا إلى النمسا.

سقوط الأسد منح الحكومة النمساوية فرصة لفرض سياساتها اليمينية، عبر تجميد اللجوء وتعليق لمّ الشمل وبدء ترحيل السوريين.

عند سؤال إيمان عن سبب رفضها العودة إلى سوريا، تجيب: "خرجتُ من سوريا فور نجاتي من معتقلات الأسد، بحالة نفسية لا أتمناها حتى لعدوّي. عشتُ فترةً في تركيا، لكن وحدتي والعنصرية هناك زادتا من معاناتي، فقررتُ قطع طريق الموت للوصول إلى النمسا. كيف لي أن أعود بعد هذا كله؟ بلدي لا يزال غير مستقرّ، ولا أحد لي هناك. إخوتي هنا، هم عائلتي الوحيدة... لا زوج لي ولا أسرة سواهم".

من اليمين إلى اليسار

برغم تشكيل حكومة ائتلافية في النمسا تضمّ مختلف التوجهات السياسية، بما في ذلك اليمين واليسار والليبراليين، إلا أنّ فشل المفاوضات بين حزب الشعب المحافظ (ÖVP)، وحزب الحرية اليميني المتطرف (FPÖ)، أدى إلى قرارات مشددة بحق اللاجئين، كان الحزب المتطرف قد دعا إليها سابقاً. ووفقاً لوسائل إعلام نمساوية، فإنّ الحكومة الجديدة تعتزم تشديد قوانين اللجوء بحجة الحد من تأثير حزب الحرية المتطرف.

من بين هذه القرارات الجائرة بحق اللاجئين، جاء قرار تجميد لمّ الشمل، الذي لم ينعكس على أوضاع اللاجئين السوريين في النمسا فحسب، بل أثّر أيضاً في نفسيتهم وزاد من انتشار الخطاب العنصري في وسائل الإعلام الشعبوية. 

في هذا السياق، يقول عبد الرحمن الغضبان، الإعلامي السوري والمتحدث باسم الصليب الأحمر النمساوي باللغة العربية، لرصيف22: "تضررت العائلات السورية بشكل كبير من قرار تجميد لمّ الشمل، سواء تلك التي كانت في انتظار التأشيرة للسفر وتوقّف سفرها تماماً، أو تلك التي انتظرت سنوات للقاء عائلاتها. هذا القرار لا ينعكس فقط على حالتهم النفسية، بل ينعكس أيضاً على اندماجهم في المجتمع، تعلّمهم اللغة، وفرصهم في سوق العمل. حتى العائلات التي تمكّنت من لمّ شملها سابقاً، تأثرت نفسياً بسبب التصريحات العنصرية، ولا سيّما تلك الصادرة عن اليمين المتطرف، مثل تصريح رئيس الحزب هيربرت كيكل: ‘لن يبقى أحد هنا، سنرحّل الجميع’. الناس بحاجة إلى قرارات واضحة وإنسانية، لا إلى قرارات تعسفية وعنصرية".

توزيع الكراهية

بالإضافة إلى ما سبق، يكشف عبد الكريم الشاطر، نائب رئيس الجالية السورية الحرّة في النمسا، لـرصيف22، عن تصاعد التعليقات العنصرية في مواقع التواصل الاجتماعي، والمدارس، وحتى في سوق العمل عقب حادثة فيلاخ: "برغم أنني أتفهم تصاعد مثل هذا الخطاب بعد حادثة فيلاخ، إلا أنّ حدّة التعليقات كانت جارحةً للغاية. نحن نحاول جاهدين أن نثبت للمجتمع النمساوي والإعلام أننا لسنا كما يصفوننا، سواء بالصور أو بالكلمات، حيث تم تشبيهنا بالفئران والجرابيع، بل وصل الأمر إلى دعوات لطرد جميع السوريين، واتهامنا بأننا مجرمون. التعليقات السلبية كانت بالآلاف".

ويشير الشاطر، إلى أنّ حدّة الخطاب العنصري تختلف بين الولايات النمساوية، حيث يكون أكثر انتشاراً في مناطق مثل النمسا العليا، أو القرى النائية التي لم تشهد انفتاحاً واسعاً على التنوع الثقافي، بينما تكون أقل حدةً في فيينا، التي تضم عدداً كبيراً من اللاجئين السوريين. ويعود ذلك إلى طبيعة المدينة المنفتحة وتنوّع سكانها، ما يجعلها أقل تأثّراً بخطاب الأحزاب الشعبوية.

عبدالكريم الشاطر: هناك من تمادى في تشبيهنا نحن السوريين بالفئران والجرابيع، بل وصل الأمر إلى حدّ الدعوة لطردنا جميعاً، واتهامنا بأننا مجرمون.

من جهة أخرى، تسعى العديد من المنظمات الإنسانية، مثل "الفولكس هيلفا"، "دياكوني"، "كاريتاس"، والصليب الأحمر، إلى تغيير الصورة النمطية السلبية عن السوريين، من خلال تقديم مختلف أشكال الدعم لهم، بما في ذلك الورش التدريبية، والمساندة النفسية، والاستشارات المجانية، بالإضافة إلى المساعدات العينية.

وبرغم الجهود المستمرة التي يبذلها السوريون للاندماج في المجتمع، من خلال تعلّم اللغة والانخراط في سوق العمل، إلا أنهم لا يزالون يواجهون مظاهر العنصرية في تفاصيل حياتهم اليومية. وكما يشير محمد، فإنّ مجرد اختلاف ملامحهم عن الأوروبيين قد يكون كافياً لاستقبالهم بنظرات دونية، بينما تواجه النساء المحجّبات، كما حدث مع إيمان، مواقف أكثر قسوةً ونظرات تحمل في طياتها الكثير من الأحكام المسبقة.

ويبقى السؤال مفتوحاً ومؤرقاً لسوريي المهجر: هل سننجح في الاندماج والتأقلم في بلاد لا ترغب في وجودنا، نحن الذين نُفينا من وطننا، والآن نجد أنفسنا منفيّين مرةً أخرى في الشتات؟ 

وفي ظلّ ما يحدث في سوريا بعد سقوط النظام -من "حالات فردية"، وتصعيدات، ومؤتمرات لا تشمل الجميع، ودساتير مجهولة، ووضع اقتصادي متدهور، وتهميش مستمرّ للنساء- هل هناك مستقبل لنا هناك؟ أو كُتب علينا أن نبقى عالقين بين وطن لا يحتضننا، ومهجر لا يقبلنا؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image