شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
حين يصبح

حين يصبح "موطئ القبر" حلماً... مسلمو مدريد بلا مدافن!

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

العالم العربي وأوروبا

الأربعاء 19 مارس 202510:52 ص
أصوات مهاجرة.

عندما نقرر مغادرة أوطاننا بحثاً عن حياة جديدة، نحلم بمكان يوفر لنا الأمان والاحترام، ويمنحنا الفرص التي لم نحصل عليها، ومستقبلاً أكثر إشراقاً، أو حتى مجرد النجاة من حرب أو استبداد أو بيئة لا تتّسع لأحلامنا. لكن وسط هذا كله، نادراً ما يخطر ببالنا سؤال قد يبدو بسيطاً لكنه عميق الأثر: هل سيكون لنا "موطئ قبر" في هذا الوطن الجديد؟

هذه ليست مجرد مخاوف نظرية، بل واقع يعيشه المسلمون في مدريد، حيث يواجهون أزمةً حادةً تتعلق بغياب أماكن مخصصة لدفن موتاهم وفقاً لتعاليم الشريعة الإسلامية. ففي العاصمة الإسبانية، لا يستطيع المسلم الحصول على قبر خاص به، برغم أنّ عدد أفراد الجالية المسلمة في إسبانيا يُقدَّر بنحو 2.5 ملايين شخص، من بينهم نحو 300 ألف يقيمون في مدريد ومحيطها.

هجرة بعد الموت 

محمد منصور، فقد والده قبل سنتين، وكان من بين آخر من دُفنوا في مقبرة غرينيون، وهي المقبرة الإسلامية الوحيدة في مدريد، وقد أغلقت أبوابها أمام الموتى الجدد قبل عامين، بسبب امتلائها.

لم يكن دفن والد محمد، أمراً سهلاً، فقد اضطرت عائلته إلى وضعه في قبر مع أقارب آخرين له، في حلٍّ اضطراري فرضه غياب البدائل. لم يرغب محمد، في التعليق كثيراً على الأمر، لكنه قال: "من المؤلم جدّاً أنّ والدي، الذي عاش في مدريد لأكثر من 30 عاماً، لم يجد فيها قبراً له".

حتى شباط/ فبراير 2023، كانت مقبرة غرينيون هي الوحيدة المخصصة للمسلمين في مدريد. هذه المقبرة، التي أنشئت في عهد الديكتاتور فرانكو، لدفن الجنود المسلمين الذين قاتلوا في صفوفه قبل أكثر من خمسة عقود، أصبحت ممتلئةً بالكامل، ما أجبر المسلمين على البحث عن حلول بديلة، مثل نقل الجثامين إلى مناطق أخرى، أو حتى إلى خارج البلاد، وهو ما يشكّل تحديات لوجستيةً وماليةً كبيرةً بالنسبة لهم.

ولمعرفة المزيد عن هذه القضية، تحاورنا في رصيف22، مع الدكتورة ميسون دواس، العضو السابق في مجلس بلدية مدريد والمتحدثة الرسمية باسم مبادرة "من أجل دفن كريم"، وهي من الأصوات البارزة التي تدافع عن حق المسلمين في الحصول على مدافن تتماشى مع الشريعة الإسلامية في مدريد.

مع امتلاء مقبرة غرينيون، الوحيدة للمسلمين في مدريد، ظهرت تحديات لنقل الجثامين إلى مناطق أخرى أو خارج البلاد

عند سؤالها عن سبب عدم وفاء مدريد بالتزاماتها تجاه سكانها المسلمين، أجابت: "لم تقم مدريد بواجبها تجاه قضية دفن المسلمين، وهي قضية قديمة تمتد لأكثر من أربعين عاماً، حيث تم إهمالها بسبب غياب الوسائل اللازمة، ولعدم وجود ضغط شعبي كافٍ يدفع السلطات للتحرك. ومع ذلك، لا يزال الأمل قائماً في إيجاد حلّ، برغم أنّ الإجراءات الإدارية تتطلب وقتاً طويلاً. لكننا نسعى إلى حلّ مستدام يضمن حق جميع المسلمين المقيمين في مدريد، وكذلك في المدن المجاورة داخل الإقليم".

وأضافت: "لذلك، من المهم تسليط الضوء على هذه المعاناة المتكررة لإيجاد حلّ عاجل. مطلبنا الأساسي واضح: لا يجوز حرمان أي شخص من حقه في دفن كريم، وهو حقّ يكفله الدستور الإسباني والعديد من القوانين اللاحقة التي تؤكد على حقوق جميع الأفراد في إسبانيا، بغض النظر عن معتقداتهم الدينية أو انتماءاتهم السياسية. هذا الحق، الذي يجب أن تضمنه البلديات والمؤسسات القريبة من المواطن، لا يزال معطّلاً بالنسبة إلى المسلمين. لذلك، نطالب بتفعيل القوانين القائمة وعدم التمييز في تطبيقها، فعند وفاة أحد أفراد الجالية، سواء كان من المهاجرين أو المواطنين الإسبان المسلمين، يجد أهله أنفسهم في مواجهة معضلة إنسانية وإدارية قاسية، ويتكرر الأمر مع كل فقد جديد".

دفنٌ كريم 

عند سؤالها عن سبب إطلاق مبادرة "من أجل دفن كريم"، أجابتنا ميسون: "أكثر ما يؤلمني هو ذلك السؤال الذي يواجهه المسلمون عندما يتصلون بخدمات الدفن: 'إلى أين تريد نقل الرفاة؟'".

سؤال يحمل في طياته قسوةً مضاعفةً، فهو لا يعني فقط ألم فقدان عزيز، بل يكشف أيضاً عن غياب حقّ أساسي: الحق في الدفن في الأرض التي وُلدوا فيها أو عاشوا فيها معظم حياتهم.

هذه المشكلة ليست مجرد مسألة إدارية، بل تعكس فشل المجتمع في تفعيل الحقوق الأساسية. فالانتماء لا يتحقق بمجرد امتلاك بطاقة هوية، أو العيش كمواطن صالح، بل يجب أن يكون ملموساً من خلال تطبيق القوانين التي تضمن للجميع حقوقهم، بما في ذلك الحق في دفن كريم.

جاءت مبادرة "دفن كريم" لتخفيف وطأة السؤال القاسي: "إلى أين تريد نقل الرفاة؟" الذي يكشف حرمان المسلمين من حقّ الدفن في أرضهم

ما يحدث اليوم هو إجحاف وتمييز واضح، إذ تُفرض القوانين حين يتعلق الأمر بالواجبات، لكنها تُعطَّل أو يتم تجاهلها عندما يتعلق الأمر بالحقوق. هذا الخلل يجب أن يُصحّح، ويجب تحقيق إنصاف حقيقي في التعامل مع هذه القضية.

لا يكمن الحلّ في الوعود المؤجلة، بل في تنظيم جادّ وتفعيل عاجل يضع هذه المسألة على أجندة الأولويات، ويدفع الجميع إلى اتخاذ إجراءات ملموسة لإنهاء هذه المعاناة".

وختمت ميسون حديثها إلينا قائلةً: "في كل مرّة يتصل بي شخص ليقول إنه لم يجد مكاناً يدفن فيه قريبه، أو إنه مضطر إلى نقله بعيداً، أو حتى إعادته إلى موطنه الأصلي، أشعر وكأنني أواجه مأساةً متكررةً، وكأننا عالقون في دورة لا تنتهي من الألم والخذلان. لا يمكن لهذا الواقع أن يستمرّ، وعلى الجميع أن يدرك أنّ الدفن بكرامة ليس امتيازاً، بل حق مشروع تجب استعادته فوراً".


تمييز جنائزي 

قضية الدفن في مدريد تتجاوز البعد الديني، وترتبط بعوامل اجتماعية، تاريخية، قانونية، وسياسية. فعلى الرغم من أنّ القوانين الإسبانية تمنح المسلمين واليهود حق ممارسة طقوسهم الجنائزية، وإنشاء مقابر خاصة أو تخصيص مساحات لهم داخل المقابر البلدية، إلا أنّ الواقع يكشف عن فجوة واضحة بين الحقوق المكتوبة والتطبيق الفعلي، وتمييز واضح بين الطائفتين.

كيف ينتمي الإنسان لوطن لا يجد فيه حتى قبراً؟ فالكرامة حقّ في الحياة والممات

ويعود هذا التفاوت إلى عوامل عدة، منها التاريخ الحديث للجاليتين، ومدى تنظيمهما المؤسسي، وتركيبتهما الديموغرافية، والتصورات الرمزية حول وجودهما في المجال العام. فمنذ قرون، عانى المسلمون واليهود في إسبانيا من الاقتلاع والاضطهاد على حدّ سواء، داخل مجتمع ظلّت هويته الكاثوليكية طاغيةً، قبل أن تبدأ مرحلة جديدة من الاعتراف الرسمي بوجودهم في العصر الحديث.

ومع ذلك، لا تزال بعض الحقوق الأساسية، مثل الحق في دفن كريم، تواجه عقبات في التطبيق، ما يثير تساؤلات حول مدى التزام السلطات بضمان مساواة فعلية بين جميع المواطنين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم الدينية.

كيف يمكن للإنسان أن يشعر بالانتماء إلى وطن لا يجد فيه حتى "موطئ قبر" بعد رحيله؟ فللناس جميعاً الحق في الرحيل بكرامة، وإذا كانت المجتمعات تُقاس بمدى احترامها لحياة أفرادها، فهي أيضاً تُختبر في كيفية وداعهم الأخير.

فهل تصبح مدريد أرضاً تحتضن المسلمين في موتهم كما في حياتهم؟ قد يكون العيش فيها ممكناً، لكن الموت فيها للمسلمين لا يزال مسألةً عالقةً بين القوانين المعطلة والوعود غير المنفذة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image