أحاول جاهدةً أن أبكي، لكن الدموع لا تنزل. ألجأ إلى الكتابة عن فقداني المكان المتكرر، علّني أجد فيها وسيلةً لتفريغ المشاعر العالقة في داخلي.
خلال الحرب الأخيرة على لبنان، ومع توسّع العدوان الإسرائيلي، فقدت منزلي في الضاحية الجنوبية لبيروت. حينها، شعرت بضرورة مُلحّة للبحث عن منزل جديد لعائلتي، فانطلقت في رحلة بحث مضنية في المناطق المحيطة بالعاصمة، آملةً ألا أبتعد كثيراً عن المدينة التي تحتضن عملي، أنشطتي، ولقاءاتي مع الأصدقاء. وجدتُ نفسي عالقةً في متاهة البحث عن سكن في واحدة من أصعب المراحل التي مرّ بها لبنان، حيث أصبح الطلب على المنازل مرتفعاً إلى حدٍّ جعل الحصول على مسكن، رفاهيةً مهما كانت مواصفاته. بعد شهر من البحث، وجدتُ لعائلتي منزلاً جديداً، يحمل الرقم التاسع في سلسلة منازلنا في بيروت. فمنذ أن انتقلنا إليها قبل ستة وعشرين عاماً، لم نعرف طعم الاستقرار. نتنقّل من بيت إلى آخر، كأننا نحاول تثبيت جذورنا في أرض لا تكفّ عن الاهتزاز. أمّا أنا، فبرغم كلّ هذا الانتقال المستمرّ، أعيش في مخيّلتي، بين الوعي والأحلام، داخل جدران بيوت عشت فيها، ولهوت بين أركانها، قبل أن تدمّرها إسرائيل أو تقتلعني منها.
"في مخيّلتي الطفولية، كنت أتصوّر أنه في حال قُصف المنزل، سينهار الطابق الأخير بسلاسة ليستقرّ على الأرض، ما يتيح لي الدخول عبر الشرفة لأستعيد أغراضي. لكنّ الواقع كان أكثر قسوةً"
اختفى بيتي تحت الركام
سقط صاروخ على المبنى الذي كنت أسكنه في المريجة، في الضاحية الجنوبية لبيروت. انهارت شقّتنا في الطابق السادس والأخير، واختفت تحت الركام. في مخيّلتي الطفولية، كنت أتصوّر أنه في حال قُصف المنزل، سينهار الطابق الأخير بسلاسة ليستقرّ على الأرض، ما يتيح لي الدخول عبر الشرفة لأستعيد أغراضي. لكنّ الواقع كان أكثر قسوةً. تكدّس الإسمنت فوق بعضه، وتحوّلت الطوابق كلها إلى ركام، فيما تبعثرت مقتنيات الجيران في الخارج. هنا، طنجرة مرمية جانباً، ملابس أطفال متناثرة، وهناك بقايا كنبة، وفردة "سكربينة" برتقالية وحيدة.
للوصول إلى بيتي وسط الركام، كان عليّ التدقيق بعناية، والبحث المضني، وتسلّق الأنقاض بحثاً عن زاوية تمكّنني من رؤية المنزل. بعد محاولات متكررة، وجدتُ طريقاً عبر غرفة في الطابق الأرضي للمبنى المجاور. فذلك المبنى، برغم أنّه لم ينهَر، تضرّر بشدّة، وتسبّب تدمير بنايتنا في إحداث فجوة في جداره. عبر تلك الفجوة، وقفتُ أمام بقايا صالون بيتنا.

رأيت أطراف المكتبة المصنوعة من القصب، وجزءاً من الكتب التي كانت تحتضنها. وعلى بعد خطوات، لمحتُ "كومود" والدي، حيث كان يضع أغراضه بجانب التخت. تمكّنت من إخراج بعض المقتنيات المحفوظة في داخله، مثل ماكينة الضغط، دفتر القيادة، بعض الأوراق، وكاسيت يحتوي على رسالة شفوية من عمّي الراحل عدنان، كان قد أرسلها لوالدي حين كان في ألمانيا. كان هذا الكاسيت هو الوحيد الذي أنقذته من بين عشرات الكاسيتات التي وثّقت رسائل والدي الشفوية لعائلته، خلال سنوات غربته قبل العام 1990.
عند مدخل المبنى المدمّر، كانت قطط الحيّ لا تزال تتجوّل بين الأنقاض، وكأنّها وجدت في الخراب مأوى جديداً لها. وسط هذا الدمار، لمحتُ "عفوفة"، قطّتي المفضّلة. كما لو أنّ شيئاً لم يتغيّر. كانت تقف هناك، تنتظرني كما اعتادت، تقترب بخطوات واثقة، مطالبةً بحصّتها المعتادة من التربيت، وكان تدليلها جزءاً ثابتاً من روتيني اليومي.
"وسط هذا الدمار، لمحتُ "عفوفة"، قطّتي المفضّلة. كما لو أنّ شيئاً لم يتغيّر. كانت تقف هناك، تنتظرني كما اعتادت، تقترب بخطوات واثقة، مطالبةً بحصّتها المعتادة من التربيت، وكان تدليلها جزءاً ثابتاً من روتيني اليومي"
حين أحاول قياس حزني على فقدان المنزل، لا أجد نفسي أرثي الجدران أو السقف، بل أحزن على تفاصيل صغيرة كانت تمنح المكان روحه؛ قطعة نحاس اشتريتها من سوق الأحد، سجادة صغيرة حمراء كانت تضفي دفئاً على زاوية الصالون حيث صففتُ كتباً لم أقرأها، فازات صغيرة، وقطع كروشيه جمعتها من بالات متفرقة في الجنوب، وطرابلس، وحيّ السلم، والشياح.
كانت هذه الأشياء الهامشية تصنع عالمي، وحين فقدتها، شيء منّي تلاشى معها.

من غرفة إلى أخرى
أغمض عينيّ وأدخل المنزل من بابه الرئيسي. أجول بين الغرف كما لو أنّ كلّ شيء لا يزال في مكانه. في مخيّلتي، يبدو المنزل مرتباً، وغرفتي موضبةً بعناية، والمرآة التي علّقتها على الحائط لا تزال تنتظر أن أُزيل اللون البنّي عنها وأطليها بالأبيض. الصالون نظيف ومرتّب، والمكتبة المصنوعة من القصب تضفي لمسة جمال على المكان، وهي إحدى زوايا المنزل التي أفخر بها، كونها تمثّل أحد إنجازاتي في تحسين ديكور المنزل.
لطالما حلمتُ بأن يكون منزلنا مُشرقاً، بعيداً عن الأثاث الداكن الذي كان يثقِل قلبي. كنت أراقب محاولات والدي المستمرّة لتحسين المكان. كان كلّما سمحت له الظروف، يشتري قطع أثاث متفرقة لا تشبه بعضها. لكن حين جاء دوري لاتخاذ القرار، اخترت الألوان الفاتحة، كنبات زرقاء، ستائر بيضاء، وإكسسوارات بالأحمر والأخضر، مع فازات "أنتيك" ملوّنة. كانت اختياراتي تمرّداً صريحاً على اللون البنّي القاتم الذي طغى على أثاث منزلنا، ذلك اللون الذي لم أستطع احتماله يوماً.

ما زلتُ أتجوّل في أرجاء منزلي، في مخيلتي؛ أخرج إلى شرفة الصالون الواسعة حيث كانت نباتات والدتي: الريحان، الألوفيرا، ونبتة السجادة الصغيرة. بجانبها، أوانٍ تحوي تراباً جافاً، بقايا مشروع زراعي فاشل للمردكوش والزهور والنباتات العصارية. في هذه اللحظة، يعود إلى ذهني مشهد والدتي في آخر زيارة لنا قبل أن يُقصف المنزل، وهي تسرع لريّ النباتات قبل مغادرتنا. لم نمكث حينها أكثر من عشر دقائق، جئنا لجمع بعض الحاجيات، ولم نكن نعلم أنها ستكون النظرة الأخيرة على المكان.
حينها، أحضرت أُمّي ما تيسّر من المونة التي حضّرتها بيديها، مثل الزعتر والكشك، بينما دخلت أنا إلى غرفتي وبدأت آخذ ما وقعت عليه يدي من الملابس في لحظات كانت فيها يدي تقرر ما تأخذ دون أن أعي ما أترك. فتحت خزانتي، أحضرت شرشفاً كبيراً، ومددته على الأرض، وضعت عليه الملابس، ثم صرّرته وهرعنا نزولاً على الدرج من الطابق السادس.
"في ذلك اليوم، اضطرت أمي إلى ترك كيس الزعتر البلدي اليابس وكيس السمّاق في المنزل، لأنها أدركت أنه لن يكون هناك مكان مناسب لدقّهما وتجفيفهما كما اعتادت في بيتنا"
في ذلك اليوم، اضطرت أمي إلى ترك كيس الزعتر البلدي اليابس وكيس السمّاق في المنزل، لأنها أدركت أنه لن يكون هناك مكان مناسب لدقّهما وتجفيفهما كما اعتادت في بيتنا. كان الصالون في منزلنا يتحول إلى مساحة لتجفيف المونة، على جري عادة أمّهاتنا. كانت أمّي تمدّ الشراشف على الأرض، وتضع عليها الملوخية اليابسة، والزعتر، وأكواز السمّاق.
لا يظهر هذا المنزل في مناماتي، وكأنّ عقلي الباطن قد ابتكر آليات متطورةً للتكيّف مع هذه الخسارة.

زيارة إلى منازلي المفقودة
في أحلامي، يرسم ذهني صور قريتي حولا، ويستحضر أشجار السرو، ومنزل جدّتي الذي هُدم بعد حرب تموز بسبب تضرره من القصف. فقد استهدفه صاروخ دمّر جزءاً منه، ولكن حينها لم تُوجه مسارات التعويض بترميمه، بل اتُّخذ قرار بهدمه، خاصةً أنّ ترميم منزل قديم بُني بالحجر النافر، وباستخدام الطرائق البدائية، كان يتطلب أموالاً طائلةً، في حين أنّ بناء منزل جديد كانت الخيار الأقلّ كلفةً. بنَت جدّتي منزلاً جديداً، لكنّ الحرب الأخيرة دمّرته أيضاً.
وأذهب في أحلامي إلى بيت طفولتي، ذلك المنزل الذي بناه جدّي لوالدي عام 1942، وشهد واحدةً من أفظع المجازر الإسرائيلية في عام 1948، حين قتلت عصابات الهاغانا عشرات الشبّان داخله، وهدمت منزلين آخرين على رؤوس العشرات من أهالي القرية. عشنا فيه لسنوات، وكلما كبرت، أجدني أكثر تعلقاً به، وكأنّ جزءاً منّي لا يزال عالقاً بين جدرانه. في أحلامي، أعود إليه مراراً، وكأنّني أبحث عن شيء فقدته هناك. أمّا أمّي، فكان شعورها مختلفاً، إذ لم تستطع يوماً أن تتجاوز الوحشة التي تسكنه. سألتها مراراً عن سبب قرارها تركه، وفي إحدى المرّات أجابتني باختصار: "فكرة العيش في منزل شهد مجزرةً لم تفارقني يوماً".
كان ثمن الانسلاخ عن المكان باهظاً على أسرتنا. في أواخر التسعينيات، لم تعد أمي قادرةً على تحمّل الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي، خاصّةً بعد أنّ منع اللحديّون والدي من العودة إلى حولا. فكان الخيار الوحيد أمامنا هو الرحيل. انتقلنا إلى بيروت، إلى منزل متواضع من غرفتين في حيّ السلم، برغم أننا عائلة مكوّنة من تسعة أفراد. ومنذ ذلك الحين، لم نعرف الاستقرار، انتقلنا من منزل إلى آخر، بين أحياء حيّ السلم وتحويطة الغدير والمريجة، وكأننا كنّا نسعى لإعادة بناء وطن صغير في قلب الغربة القسرية. وبرغم مرور أكثر من ستة وعشرين عاماً على انتقالنا إلى بيروت، لا تزال أُمّي تشعر بالغربة، وأنا ما زلت أعيش في القرية في أحلامي، ألهو في دارنا وألاحق الفراشات، وأعبر الحقول للوصول إلى المدرسة، وأتعلّق بفستان والدتي وهي تأخذني معها لشراء دلو الحليب.
"كان ثمن الانسلاخ عن المكان باهظاً على أسرتنا. في أواخر التسعينيات، لم تعد أمي قادرةً على تحمّل الحياة تحت الاحتلال الإسرائيلي، خاصّةً بعد أنّ منع اللحديّون والدي من العودة إلى حولا. فكان الخيار الوحيد أمامنا هو الرحيل"
أخشى أن تلتهم النار ذكرياتي
بعد إعلان وقف إطلاق النار، عجزت عن استيعاب فكرة أنّ هذا المنزل أيضاً قد احترق. وبعد مماطلة طويلة، قررت أخيراً العودة إلى حولا. توجهت إلى منزل الطفولة، وقفت أمامه، نظرت إليه من الخارج، لكنني لم أجرؤ على الدخول. تراجعت قبل أن يُحفر مشهده المحترق في ذاكرتي، فأنا لا أريد سوى أن أحتفظ بصورة المنزل التي أعرفها، دون أن يشوّهها الحريق. لا أريد أن يسلبني الاحتلال مرّةً أخرى ما تبقّى لي من منازل في ذاكرتي، ولا أن تتداخل مشاهد الدمار مع ذلك البيت الذي لا يزال عامراً بالحياة في أحلامي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جعفر أحمد الكردي -
منذ 11 ساعةجهلك سافر يا هذا ، لو سألت أباك الذي تدعي أنه من أهل الدين والتدين لقال لك بأن شيخك المزعوم كان...
مستخدم مجهول -
منذ 14 ساعةعلى رغم الحزن الي كلنا عمنعيشوا و الي انت كتبت عنه هون بس كثير حلو الي حكيته و اي نحن السوريين...
Souma AZZAM -
منذ 3 أيامالدروز ليسوا نموذجًا واحدًا في الاعتقاد والسلوك. اما في مستوى العقيدة، فهم لا يؤمنون بالسحر، وإن...
محمد دراجي -
منذ 5 أيامأخي الفاضل قبل نشر مقالة عليك بالتحقق خاصة في علم الأنساب والعروش والقبائل فتسمية بني هجرس ولدت...
م.هيثم عادل رشدي -
منذ أسبوعمقال رائع وضع النقاط على الحروف فالحقيقة أن النزاعات جعلت أبناء شعوبنا متشردين ولاجئين ومهاجرين...
Sohila Amr -
منذ أسبوعتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...