بُعيد تصاعد القتال في نهاية أيلول/ سبتمبر 2024، بين حزب الله وإسرائيل، مع شنّ الأخيرة ضربات جويةً عنيفةً أدت إلى تهجير قسري للمدنيين في المناطق التي يسيطر عليها حزب الله، كضاحية بيروت الجنوبية وقرى البقاع والجنوب، ظهرت سردية قديمة جديدة حول مشروع مُحضَّر لتهجير شيعة لبنان، وإعادتهم إلى العراق وإيران حيث "موطنهم الأصلي".
في السياق نفسه، تضاربت الأرقام حول أعداد الشيعة اللبنانيين الذين نزحوا خلال الحرب الأخيرة إلى العراق، عن طريق سوريا، حيث كشفت الدولية للمعلومات، أنّ أعداد النازحين الشيعة إلى العراق، بلغت نحو 13 ألف نازح يتواجدون في مدن كربلاء والنجف والبصرة.
فهل بالفعل موطن الشيعة الأصلي هو العراق أو إيران، أو أنهم طائفة مؤسسة ومكوّن أساسي في لبنان منذ نشأته؟ هذا السؤال لا يمكن الإجابة عنه إلا بالعودة إلى تاريخ نشأة هذه الطائفة، التي تدور حولها ثلاث سرديّات.
ثلاث سرديّات حول نشأة الشيعة في لبنان
الأولى، وهي رواية شعبية، تقول إنّ الشيعة ظهروا في العهد الأموي في جنوب لبنان، منذ أن نفى معاوية بن أبي سفيان، عندما كان والياً على الشام في خلافة عثمان بن عفان، أبا ذر الغفاري، "أحد صحابة النبي المتشيّعين للإمام علي بن أبي طالب"، إلى جنوب لبنان، فتنقّل بين ميس الجبل والصرفند، كما يورد باحثون مثل محمد علي مكي، في كتابه "لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني".
برغم تضارب الروايات الثلاث حول أصل شيعة لبنان، وبالعودة إلى المصادر الشيعية، فإنّ "العصر الذهبي للتشيّع في لبنان جاء بعد القرن العاشر الميلادي الذي شهد قيامَ دويلات شيعية متفرقة، منها دولة الحمدانيين في الموصل وحلب، والبويهيين في فارس والعراق، ثم الفاطميين في شمال إفريقيا والشّام"
أما الرواية الثانية، فيعتمد فيها المؤرّخ الشيخ جعفر المهاجر، على إشارة للمؤرّخ اليعقوبي، بأنَّه نزل في أطراف بعلبك "قومٌ من اليمن"، ليخلص إلى أنّهم من "هَمَدان الشيعية"، أوّل مَن حمل التشيّع إلى لبنان، والتي انتقلت من اليمن إلى الكوفة وبعدها إلى حمص فالبقاع اللبناني، وتحديداً بعلبك حيث يوجَد باب همدان.
وتقول الرواية الثالثة، نقلاً عن الباحث محمد حمادة، إنّ التشيّع يعود إلى الأصل الفارسي الذي حملته عائلات المهاجرين معها، والتي درج عليها عدد من المستشرقين. يكتب حمادة: "كما نُلاحظ وجود متحدرين من أصول فارسيّة وطَّنَهم معاوية وسلالته على طول الساحل اللبناني من طرابلس إلى صور، كما في بعلبك. وفي هذه المناطقِ عَيْنِها سوف تلاقي لاحقاً كلَّ المنشقّين عن الإسلام"، بحسب ما ورد في كتاب "تاريخ شيعة لبنان من النشأة حتى عام 1959"، الصادر عن أمم للتوثيق والأبحاث.
العصر الذهبي للتشيّع في لبنان
وبرغم تضارب الروايات الثلاث السابقة، وبالعودة إلى المصادر الشيعية، فإنّ "العصر الذهبي للتشيّع في لبنان جاء بعد القرن العاشر الميلادي الذي شهد قيامَ دويلات شيعية متفرقة، منها دولة الحمدانيين في الموصل وحلب، والبويهيين في فارس والعراق، ثم الفاطميين في شمال إفريقيا والشّام"، بحسب ما ورد في الكتاب سابق الذكر.
ووفقاً للكتاب عينه، فقد "انتشر التّشيّع وقتها بشكل كبير، حيث ساهم قيامُ هذه الدويلاتِ الشّيعيّة، على اختلاف مشاربها، في انتشار التشيّع في المنطقة، ومنها لبنان، وآخرها الدولة الفاطمية، حيث ظهرت للشيعة تجمعات كبيرة في مدينتَي طرابلس وصور ومحيطهما مع استقلالية في الحكم خلال فتراتٍ زمنيَّةٍ، دون إغفال وجودهم في أماكن أخرى، ومنها البقاع وبعلبك وجزين وجبل لبنان وغيرها، ولكن بعدد أقلّ ودور أضعف".
"وتزامناً مع الحملات الصليبية على مدن الساحل، مثل صور وصيدا وجزين وطرابلس، وسقوط هذه المدنِ وإقامة الدويلاتِ الصّليبية فيها حتى وصول المماليك إلى الحكم، توجه النشاط الشيعي صوبَ الداخلِ 'جبل لبنان'، معمّراً إياه سكانياً وثقافياً واقتصادياً وعمرانياً، وبدرجة أقل من صور وصيدا ومحيطهما، وباتجاه جبل عامل نسبةً إلى قبيلة عاملة اليمنية التي سكنت المنطقة قادمةً من اليمن". والمرجح أن يكون قد نزح إلى هذا الجبل أيضاً شيعة فلسطين والأردن في ذاك الوقت، فـ"أهل طبرية ونصف نابلس، وقدس، وأكثر عمّان، كانوا شيعةً"، وقتها، بحسب المرجع السابق.
بين ولاية الأمة على نفسها وولاية الفقيه... الشهيدان الأول والثاني
ظهرت لدى الشيعة فرق وأحزاب مع نشأة هذه الدويلات، بينها الإسماعيلية، والزيدية، والاثنا عشرية، والأخيرة هي الأكثر انتشاراً، وينقسم أتباعها في عصرنا الحالي إلى قسمين؛ الأول يعتمد فقط على المرجع الديني في الأمور العامة، وولاية الأمة على نفسها، أما الثاني فيؤمن بولاية المرجع المطلقة على كل شيء في غالبية التوجهات الدينية السياسية، أي الولاء "للزعيم الديني" الذي يتجسد في ولي الفقيه، وحكم إسلامي يمتد خارج حدود الدولة.
وينعكس هذا الأمر انقساماً بين الشيعة في أيامنا هذه، بين المرجعية الدينية في النجف في العراق، من ناحية الأمور العامة، والمتمثلة في السيد علي السيستاني، والذين يعتمدون مرجعية ولاية الفقيه في قم في إيران، والمتمثلة في السيد علي الخامنئي حالياً، والتي كانت سابقاً ممثلةً في الخميني. هذا الانقسام بائن اليوم في الواقع الشيعي اللبناني، من خلال حزب الله الذي تأسس عام 1985، بعد ظهور الثورة الإسلامية في إيران على يد الخميني، واعتمد نظرية ولاية الفقيه المطلقة. وترجع هذه النظرية بالأساس إلى فكر محمد بن مكّي، الملقّب بالشهيد الأوّل (1333-1384)، الذي برز في جزين جنوبي لبنان في عهد المماليك، كقائد ديني شيعي لإعادة إحياء الجماعة وتوحيدها بعد أنْ شعر بأنَّها قد ضاعت ضمن زحمة التيارات السياسية المناوئة لهم. فجزين وجبل عامل كانتا تجمّعين شيعيَّين سُكانيَّين كبيرين وقتها.
وبحسب الكتاب، "فالشهيد الأوّل طرح في رسالته الفقهية المسماة بـ'اللمعة الدمشقية'، والتي ألّفها بناءً على طلب السلطان علي بن المؤيد، ملك خراسان وما والاها في إيران، لاعتمادها دستوراً هناك، فكرة نيابة الفقيه عن الإمام الغائب، حيث ذكر فيها ولأول مرة عبارة 'نائب الإمام'، ولعله أوّل فقيه من فقهاء الإمامية يصرّح بولاية الفقيه"، بحسب ما جاء في كتاب "المرجعية الدينية العليا عند الشيعة الإمامية"، للدكتور جودت القزويني.
بينما يعارض قسم آخر من الشيعة مبدأ ولاية الفقيه، وأبرز جذور هذه المعارضة ماثلة في فكر ورسالة زين الدين بن علي الجُبَعي العاملي، الملقّب بالشهيد الثاني (1505-1559)، الذي ينادي بولاية الأمة على نفسها، وتعاون الشيعة مع سلطتهم، والانتماء إلى بلادهم في سبيل تحقيق مصلحتهم، وهذا ما كان في عهد الشيخ محمد مهدي شمس الدين، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السابق في لبنان.
عاش الشيعة في لبنان تغيرات عديدة في العهد العثماني بين واقع التهميش دينياً وحقوقياً، ومحاولة التمثيل الديني والسياسي بالشهيدين الأول والثاني، لكن حظوا بحقوق تعليمية واسعة، حيث تحوّل واقع التعليم عندهم من الحوزات إلى التعليم الإجباري
"هذا الخلاف الفقهي لدى الشيعة، تزامن مع بدء التعليم بصبغة دينية، فقد كانت لهم مدارس فقهيّة أو حَوْزات وكتاتيب تهدف إلى إعدادِ رجال دين. وحازَتِ الحَوْزة المكانة المتقدمة في المجتمع الشيعي، وفقاً لما ورد في كتاب "شيعة لبنان والتعليم في نشأة نظام تربوي رديف ومآلاته"، إذ ابتدأت الحوزات العلمية في لبنان بتدريس مواد التعليم كافة باللغة العربية، وذلك مع انطلاق حَوْزة جزين (1359م)، وتُعدُّ الأولى زمنياً في البلاد، وغيرها من الحوزات، وكان السيد محسن الأمين (1865-1952)، قد عرض في كتابه "أعيان الشيعة"، ما يزيد على خمسين تخصُّصاً علمياً لهؤلاء الأعيان عموماً، مثل العلوم الدينية، الأدبية، العقليّة والتربوية، إلى علوم التاريخ، الشعر، الأدب، الجغرافيا وغير ذلك، إلى أن شهدت انحساراً بعد وفاة أحمد باشا الجزار (1804م)".
واقع شيعة جبل لبنان أيام المتصرفية والقائمقاميتين
أدى مقتل الشهيدين الأول والثاني، برغم اختلاف رسائلهما الفقهية والسياسية، إلى تحوّل في حياة الشيعة، إذ تبدلت الزعامات الإقطاعية مع بزوغ عصر السلطنة العثمانيّة في جبل عامل، حيث اختفى ذكرُ آلِ بشارة، وساد آل علي الصغير عوضاً عنهم، وكان مركزهم تبنين، وحَكم آل مُنكر إقليمَي الشومر والتفاح، بينما ساد آل صعب الذين ينتسبون إلى الأيوبيين الكُرد، بلاد الشقيف، وصولاً إلى بدء تمثيل الشيعة في القائمقاميتين ونظام المتصرفية في جبل لبنان.
وكما يورد الكتاب أعلاه، كان المعنيون والشهابيون يطمعون دوماً في التزام جبل عامل من الولاة. وفي القرن السابع عشر، كان الجبل يخضع لنفوذ الأمير فخر الدين المعني الثاني، الذي أصبح ملتزماً لـ"سنجق صفد"، ويشار إليه أيضاً باسم الجليل العثماني الأول، وكان السنجق تقسيماً إدارياً تابعاً لإيالة دمشق (ولاية صيدا العثمانية)، خلال القرن السادس عشر وأوائل القرن السابع عشر، وأصبح لاحقاً جزءاً من إيالة صيدا.
وبالفعل عاش الشيعة في لبنان تغيرات عديدة في العهد العثماني بين واقع التهميش دينياً وحقوقياً، ومحاولة التمثيل الديني والسياسي بالشهيدين الأول والثاني، لكن حظوا بحقوق تعليمية واسعة، حيث تحوّل واقع التعليم عندهم من الحوزات إلى التعليم الإجباري، وذلك مع إنشاء المدارس الملكيَّة لإعدادِ جهاز بَشَرِيّ مُدَرَّب يكون أداةً للإصلاح الإداري عام 1838، ثم في عام 1845، مع إصدار "خط همايون يشمل إصلاح التعليم في جميع مراحله وجعل التعليم إجبارياً في المدارس الأوّليَّة ومجانياً لمدة أربع سنوات، دون تفرقة بين الذكور والإناث وتمييز بين المسلمين وغيرهم، تلاه عام 1869، صدور نظام المعارف العمومية العثماني"، حسب الكتاب سابق الذكر.
كما شهد جبل عامل انتشاراً واسعاً للإرساليات التبشيرية والمدارس الإسلامية، التي أتَتْ بوسائل تعليمية حديثة ومتطوّرة ومختلفة عما هو سائد في مدارس جبل عامل. وأُقيمت في مناطق الشيعة أيضاً مدارس أهلية حملت أسماء السلاطين العثمانيين.
وجدَ كثيرون من الشيعة المعترضين على لبنان، أنَّ من مصلحتهم أنْ يُصبحوا أقليَّةً كبيرةً فيه بدلاً من أن يكونوا أقليَّةً صغيرةً في سوريا.
إلى ذلك، شهد مطلع القرن العشرين، مرحلةً جديدةً لدى الشيعة بعدما كانت العصبية القبلية هي السائدة، بتشكل الجمعيات الثقافية والمنتديات الأدبية في بيروت، فتأثرت بها منطقة بعلبك، وبعد عام 1908، انخرط البعض من مثقفي البقاع في عدد من الجمعيات ذات الفكر الاستقلالي عن الدولة العثمانية، فبادر محمد رستم حيدر، إلى تأسيس جمعية سرّية سُمِّيت "العربية الفتاة"، وكانت تهدف إلى المطالبة بالإصلاحاتِ ونيل الحقوق، وقد شارك صالح حيدر في جمعيات "سورية الفتاة" و"الإصلاح والترقي" و"اللامركزية"، وكان من أصحاب فكرة مساندة العرب للأتراك في الحرب العالمية الأولى شرط منح سوريا الاستقلال.
سياسياً، شهدت الطائفة الشيعة تحوّلاً في واقع جبل لبنان خلال مرحلتي القائمقاميتين والمتصرفية، بعد عزل الأمير بشير الشهابي الثالث، الذي كان حاكم إمارة جبل لبنان بتعيين من السلطات العثمانية في 2 كانون الثاني/ يناير 1842. ولإيقاف الفتنة، استدعى السرّ عسكر العثماني مصطفى نوري، أعيان المسيحيين والدروز عارضاً عليهم والياً من قبل الدولة، فرَضِيَ الدروز مدعومين من إنكلترا، بينما رفض المسيحيون الأمر لشعورهم بفقدان هذا الامتياز الخاص بهم، قبل أن يوافقوا لاحقاً بإيحاء من فرنسا والنمسا. وأما الشيعة الممثلون بآل حمادة، فقد رضوا بوالٍ تركي يحكمهم نتيجة الظروف القاسية التي مرّوا بها أواخر الحكم الشهابي، والتي أدّت إلى انتزاع الكثير من النفوذ الإقطاعي منهم، بالإضافة إلى تناقص أعدادهم بشكل كبير.
كان نصيب الشيعة في نظام القائمقاميتين مستشاراً واحداً من أصل 12 مستشاراً، دون أن يكون لهم قاضٍ رسمي لعدم اعتراف العثمانيين بأنظمةٍ شرعيَّةٍ خاصة بهم.
وكان للشيعة ممثلون أعضاء في نظام مجالس المتصرفية الطائفية، في فترة داود باشا الأولى (1861-1864)، وهم عادةً من كسروان وجبيل، فمجلس الإدارة الكبير المؤلف من اثني عشر عضواً منتخباً تمثّل الشيعة فيه بدايةً بعضوين مثل باقي الطوائف الخمس، هما عبد الله برّو ومحمد يونس الحسيني الذي استقال عام 1863، وحلّ محله عباس ملحم حمادة. ومع التعديل على نظام المتصرفية عام 1864، تَمَّ تقليص ممثلي الشّيعة إلى واحد، وكان هذا التعديل قد أُقرّ بسبب مطالبة الموارنة بامتيازات أكثر، في حين كان للشيعة مديرون محليون رسميّون في الأقضية.
وفي أحد جداول عدد المأمورين في أقضية جبل لبنان من كل طائفة إبان المتصرفية، يظهر أنه كان للشيعة سبعة مأمورين من أصل 146 مأموراً، كما يتبين من إحدى لوائح المأمورين في مركز المتصرفية أنّه كان للشيعة أربعة من مئة ومأمورَين.
وفي مجلس المحاكمة الكبير في مركز إدارة الحكومة، وهو مجلس قضائي مهمته التعامل مع الدعاوى الحقوقية والجنايات، تمثّل الشيعة بقاضٍ (حاكم)، ووكيل دعاوى من أصل ستة قضاة وعددٍ مماثل من الوكلاء، ثمَّ ألحقت به لاحقاً مجالس أخرى، وكذلك كان لهم حضور بين مشايخ وقضاة (حكام) الصلح الذين يمثلون الطوائف أيضاً في النواحي وينتخبون أعضاء مجلس إدارة المتصرفية بلا تدخّل عثماني.
في حين كان واقع جبل عامل السياسي والإداري خلافاً لمتصرفية جبل لبنان، يخضعُ لما تخضع له باقي مناطق السلطنة بشكل عام، أي أنها تتبع لمركز الولاية، أما واقع بعلبك فكان بعد زوال إمارة الحرافشة الشيعية، حيث قُسِّمَ البقاع إلى أقضية يرأس كلا منها قائمقام يُعاونه مجلس إدارةٍ ومحكمة بدائية، كما تأسست المجالس البلدية في الأقضية، وذهبت الحصّة الشيعية في تلك المجالس إلى عائلتَي مرتضى وحيدر، فكان توفيق حيدر، أوّل قائمقام غير تركي يتبوّأ المنصب، بحسب كتاب "تاريخ شيعة لبنان من النشأة حتى عام 1959".
الشيعة بين المشروع العربي ولبنان الكبير
عموماً، يمكننا القول إنه بعد زوال الاحتلال العثماني سيق شيعة لبنان أهل جبل عامل، سوقاً إلى لبنان الكبير، إذ كانوا يتبعون لفلسطين، بعدما كانوا متمسكين بالوحدة والعروبة مع اندلاع الثورة العربية الكبرى 1916، مع ما جلبه هذا الأمر عليهم من خسائر على الصعيد الاقتصادي، الأمر الذي دفعهم إلى الانضمام إلى لبنان الكبير الذي رسمه الفرنسيون، بعد تخلّيهم عن الوحدة السورية مقابل الاعتراف بهم.
ونرى ذلك، في صراع الشيعة وتخبّطهم بين الانتماء إلى المشروع العربي بقيادة الملك فيصل بن الحسين، عندما دخل عام 1918 دمشق، لينهي السيطرة العثمانية على البلاد التي استمرت 400 عام، ورفض الكيان اللبناني في عهد الانتداب الفرنسي والانتماء إليه، إذ لم يقبل الشيعة بدايةً الانتماء إلى لبنان الكبير برعاية فرنسية، ليس بسبب الاضطهاد أو الضغط العسكري الفرنسي، بل لتقاطع مصالح الزعامات بين المشروعين، وهو تقاطع نتجت عنه عصابات إقطاعية كادت أن تخسر وجودها اقتصادياً وسياسياً في الكيان العربي والوحدة السورية.
ووفقاً لما ورد في كتاب "الأمة القلقة… العامليون والعصبية العاملية على عتبة الدولة اللبنانية"، للكاتب والباحث اللبناني وضاح شرارة: "غداة دخول فيصل دمشق، مثلت الحكومات التي انتخبت في جبل عامل، على تباين المنازع الأهلية والسياسية واختلافها، فاختارت مدينتا الساحل صيدا وصور، اثنين من الوجهاء بينهما وبين زعيـم عاملة السياسي، وهو خلاف انتهى في آخر أدواره إلى العداوة المعلنة. أما النبطية وتبنين، المديريتان اللتان استقر عليهما التنظيم الإداري العثماني، فلم ينتخب أعيانهما ووجهاؤهما أحداً لأن آل الفضل الصعبيين، وكامل بك الأسعد، يحلان منهما محلّ الرئاسة الطبيعية. فكامل بك الأسعد، يتربع على سدّة حكومة تبنين، ويقوم مقام حاكم المقاطعة العاملية كلّها والمندوب لإدارة شؤونها بأمر الملك فيصل".
ومع وصول الضابط الفرنسي فيجل، كان أول إجراء أنفذه الحاكم الجديد "منع الاجتماع العام والمظاهرات السياسية"، أما الإجراء الثاني، فكان إقالة حاكم صيدا المنتخب، ولم يلبث أن تبعه تولية حاكم فرنسي على النبطية، وثالث على صور ولم يُقِل رؤساء العشائر، طبعاً، وفي مقدمهم الأسعد، ولم يعزل رجال الدين من العلماء من نفوذهم. بل على النقيض من الإقالة والعزل حضر نيجر وشربنتييه ودلبستر، ضباط الإدارة الفرنسية العسكرية، إلى صور وفاوضوا عبد الحسين شرف الدين، على أن تكون له "الإدارة المطلقة في التعيينات وفي إرساء أسس الحكم المحلي"، بحسب عبارة شرف الدين نفسه، المحمول على تمجيد نفسه والتفاخم من غير تواضع، فوقع العزل على من يمتّ إلى الجماعة الأهلية بأصرة التمثيل والانتخاب، مثل رياض الصلح و(ربما) عبد الله يحيى الخليل، وشكري باشا الأيوبي (رئيس حكومة بيروت الفيصلية). فأذن ذلك، مرةً جديدة، بتفاوت مواقع النخب السياسية من الجماعات الأهلية، وبضعف جناحها المحدث".
"وحين أحبط الاحتلال رجاء المستقبل العربي المستقل، والحكومة العربية المستقلة، وأماني الأمة من الوحدة السورية المستقلة بحكومتها الدستورية اللامركزية، وأناط الاجتماع والمداولة في صيرورة البلاد وحل قضيّتها بالحلفاء دون غيرهم، زال فيصل عن موقع القاسم المشترك بين الأجنحة والجماعات العاملية وغير العاملية طبعاً، وأزيح عنه، وخُلّي بين الجماعات وبين ضروب جديدة من النزاعات الأهلية والسياسية"، حسب شرارة في كتابه سابق الذكر.
"وبرغم فصل لبنان عن سوريا في أيلول/ سبتمبر 1920، وانخراط العديد من النُّخب الشيعية في الكيان اللبناني، فإنَّ غيرهم استمروا في مشاركتهم الوحدويين اللبنانيين والسوريين في مطالبهم وتأييدهم الشهير الذي سعى لوحدة البلاد السوريّة، فقدّم وُجهاء المسلمين من أبناء الساحل من طرابلس وبيروت وصيدا وصور عام 1923، إلى المفوض السامي العسكري ماكسيم ويغان مذكرة في هذا الخصوص"، يضيف شرارة.
وبالعودة إلى كتاب كتاب "شيعة لبنان والتعليم في نشأة نظام تربوي رديف ومآلاته"، "فقد دعا المفوض الفرنسي الجديد هنري دو جوفنيل، اللبنانيين في 21 تموز/ يوليو 1925، إلى وضع دستورٍ ومَنحهم حق اختيار حاكمهم، وشكّل لجنةً لإعداد القانون الأساسي للبلاد من المجلس التمثيلي. وقد رفض أعيان المسلمين السُّنة بعد اجتماعهم في بيروت المشاركة في سنّ هذا الدستور مؤكدين مطالبهم المستمرة بالالتحاق بالاتحاد السوري على قاعدة اللامركزية".
كل تلك الاعتراضات لم تمنع إصدار الدستور بتاريخ 23 أيار/ مايو 1926، بحضور دو جوفنيل، وفيه أنَّ لبنان دولة مستقلة، وأهله متساوون أمام القانون في المسؤولية والحقوق وحرياتهم ومعتقداتهم وإقامة شعائرهم الدينية مصونة.
حمل عام 1926، تحوّلاً نوعياً في تاريخ الشيعة السياسي في البلاد. فقد أنشئت للمرة الأولى المحاكم الجعفرية الشيعية، بعدما أصدر المفوض السامي دو جوفنيل، في 17 كانون الثاني/ يناير من العام نفسه، قراراً يعترف فيه بالشيعة كطائفة دينيَّة مستقلة يحكمون في مواد الأحوال الشخصية بموجب المذهب الجعفري ويتقاضون فيه أمام قاضٍ شيعي.
هذا الاعتراف دفع زعامات شيعية عدة، بعد ترددها في تأسيس الكيان، إلى الانخراط في مؤسسات لبنان الكبير كيوسف الزين ونجيب عسيران وصبحي حيدر وصبري حمادة وسعيد حيدر وأحمد الحسيني، كذلك حسين الدرويش ومحمد التامر وآخرين، وصولاً إلى إعلان الجمهورية ودستور 1936 ويُعدّ وضع الدستور بدايةً لعهد الجمهورية في ظل الانتداب.
وبهذا وجدَ كثيرون من الشيعة المعترضين على لبنان، أنَّ من مصلحتهم أنْ يُصبحوا أقليَّةً كبيرةً فيه بدلاً من أن يكونوا أقليَّةً صغيرةً في سوريا، وهم الذين لم يشعروا لقرون سابقة بأي انتماء أو مواطنيَّة للدولة العثمانية السنّية.
"بعد هذا الاعتراف، ساهم الانتداب الفرنسي أيضاً في انتشار التعليم عند الشيعة، وفي مرسوم صادر عام 1930، يَظْهَر أنَّ السلطات الفرنسية أعادت افتتاح مدارس في مختلف المناطق اللبنانية، ومنها مناطق الشيعة، كمثال على ذلك مدارس جباع، والغازية، والنبطيَّة للبنات، وعدلون، وحومين التحتا، وحومين الفوقا، والبابلية، والمروانية، وجرجوع، والصرفند، وكفرملكي، وجبشيت، وحاروف، والزرارية، وكفرصير، والدوير، وکفرتبنیت، وکفرحتی، وأنصار"، حسب كتاب أمم.
"ويُلاحظ أنَّ منطقتَي الجنوب والبقاع حَظِيتا بالحصة الأكبر من المدارس الرسمية، ذلك أنَّه في عام 1938 بلغ مجموعها في الجنوب 47 للذكور وثماني مدارس للإناث، وفي البقاع 31 للذكور وأربـع مدارس للإناث، بنسبة بلغت 63.41 في المئة من إجمالي المـدارس عنـد الذكور، و 48 في المئة عند الإناث"، بحسب كتاب "شيعة لبنان والتعليم في نشأة نظام تربوي رديف ومآلاته".
ويورد الكتاب أيضاً: "كما استمرت في العهد الاستقلالي وما بعـده عملية إنشاء المدارس الرسمية في المناطق التي يتواجد فيها الشيعة، وفي نهاية الخمسينيات كذلك بدأ افتتاح مدارس ثانوية في مراكز الأقضية أو تحويل المتوسطات إلى ثانويات".
خاض الشيعة تجربة الانخراط الحزبي في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين في لبنان، بظهور الأحزاب السياسية العلمانية والطائفية من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه أنطون سعادة عام 1933، وكذلك نشوء حزب الكتائب اللبنانية ذي الوجه المسيحي عام 1936، والنجادة السنّي العروبي عام 1933
ويُمكنُ القول إنَّ انتفاضة التبغ عام 1936، في الجنوب اللبناني، طرحت إمكانيَّةَ توصيلِ مصالح مشتركة بين الشيعة الجنوبيين ولاعبين آخرين على المسرح الوطني اللبناني، وهم لم يكونوا قد أدركوا حتى ذلك التاريخ إمكانية القيام بعمل وطني مشترك، حيث كان هذا العمل أحد أبرز الأسباب التي دفعت الشيعة للانضمام إلى لبنان الكبير لكسب تلك المصالح الاقتصادية.
الأحزاب السياسية ودور الشيعة في الثلاثينيات والأربعينيات
خاض الشيعة تجربة الانخراط الحزبي في فترة الثلاثينيات من القرن العشرين في لبنان، بظهور الأحزاب السياسية العلمانية والطائفية من الحزب السوري القومي الاجتماعي، الذي أسسه أنطون سعادة عام 1933، وكذلك نشوء حزب الكتائب اللبنانية ذي الوجه المسيحي عام 1936، والنجادة السنّي العروبي عام 1933. وتزامناً مع ذلك، قام حزبا الكتلة الوطنية برئاسة إميل إده والكتلة الدستورية بزعامة بشارة الخوري، وقبل ذلك تأسس في بيروت الحزب الشيوعي عام 1924. ولم تتأسس أحزاب شيعية لأنّ الحالة الجماهيرية عندهم كانت مرتبطةً بالزعيم أكثر من ارتباطها بالأحزاب، ولكن هذه الفترة كانت حجر الأساس لتأسيس أحزاب شيعية في ما بعد.
وبحسب كتاب تاريخ الشيعة، "من بين تلك الأحزاب ظهرت منظمتا 'الطلائع' و'النهضة'، كمحاولة لاحتواء الشيعة الذين كانوا متفرّقين بين الأحزاب الطائفية والعلمانية، حيث وُلدت منظمة الطلائع في 1944، من رحم الجمعية الخيرية العاملية التي تأسست عام 1923، بغية رفع الحرمان عن الشيعة النازحين إلى بيروت وتأمين الخدمات الاجتماعية والصحية والتعليمية والثقافية لهم.
وأما منظمة "النهضة"، فقد أسسها أحمد الأسعد عام 1946، في برج البراجنة في الضاحية الجنوبية لبيروت، وبدأت تتوسع في الجنوب وانتُخب الأسعد رئيساً لها كردة فعل على "الطلائع التي انتشرت مراكزها في مختلف مناطق الجنوب بدعم من الزعامات السياسية المنافسة له، كآل الزين وعسيران والخليل، وقد التقت مصالح الأسعد في مواجهة بيضون مع البورجوازية السُّنيَّة-المارونية في بيروت التي كانت تنظرُ بقلق إلى تنامي قدرات الطلائع الشيعية في المدينة"، حسب كتاب أمم سابق الذكر نفسه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Yusuf Ali -
منذ 12 ساعةلن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ 21 ساعةThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...
Samah Al Jundi-Pfaff -
منذ يومفي اللاذقية قصص مثيرة للدهشة وللمزيد من البحث. اللاذقية مدينة القصص عير المكتشفة. شكرا
Karen Borji -
منذ يومعين الأصالة شمس الحدود كتبي واحزاني دفعتني إلى الحدود سكر وملح من انا غياب شروق عنبرة كتاب...
Cat Angel -
منذ يومينفعلا المقال شد انتباهي لقراءته بالكامل، الأسلوب الساخر ذكرني بالعملاقين أحمد رجب ومحمد عفيفي....
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامغباء وجهل لا يوجد بشى اسمه طيخ فلسطيني .. غباء وجهل العروبة الذين بخترعون هذا الغباء قال بطيخ...