بينما كنت أعد مقالاً عن الرهن العقاري، دقّت الساعة البيولوجية في جسم ابنتي معلنةً وقت النوم. لا يزال لدي الكثير لأدوّنه على صفحة الوورد المفتوحة منذ الصباح، لذا فإن أولى محاولات إخماد نوبات "الزن والنق"، كانت عبر "تصبيرة" بجواز استخدام هاتفي الذكي.
دقائق معدودة فصلتنا عن نوبة بكاء غريبة الأسباب، بدوافع حقيقية عصيّة عن الذكر، أطبقتُ على إثرها شاشة حاسبي المحمول، وجذبت الطفلة ذات الأعوام الخمسة إلى حجري المتربع على سجادة صوفية، والمتقوّس جراء ساعات عمل لا ضوابط لها إلا القلق وتحفيزاً من قبيل "ثمة زيادة على أجور المقال... عليّ أن أنجز".
أمسّد وجهها بأصابع اعتادت النقر، وأنواع الرهن العقاري لا تزال تتناطح في رأسي، فتنطق شفتاها بما يتناطح في رأسها، عن صورة الله الذي يأكل "عيون الأطفال المقلية"، إذا ما أمعنوا النظر في لعبة "الطميمة".
كثيراً ما تساءلت عن سبب استعداد الأطفال لتقبل الأفكار والصور المشوهة عن الله –على الرغم من كل ما نحاول أن نقول في حقّه من المديح- وكأنهم يبحثون عن كائن شرير وقوي ينسبون إليه خوفهم، ولعل ارتياحهم إلى عدم قدرتهم على رؤيته يعبس في وجوههم، جعل منه شمّاعة "حفر وتنزيل" على قياس مخاوفهم البريئة. وعلى الرغم من المحاولات الحثيثة التي نقوم بها لرسم صورة "صحيحة" عن الذات الإلهية، إلا أن أطفالنا يكذبوننا، فكيف يمكن لهذا الله أن يكون لطيفاً في عيونهم، وهو الذي يحمل دائماً "ولّاعةً" في يده، يحرق بها من يلطخ ثيابه بالوحل في أثناء اللعب، ومن يتلكّأ عن كتابة واجباته المدرسية، ومن لا يطيع كلام والديه قبل أن ينهيا طلباتهما؟!
كثيراً ما تساءلت عن سبب استعداد الأطفال لتقبل الأفكار والصور المشوهة عن الله –على الرغم من كل ما نحاول أن نقول في حقّه من المديح- وكأنهم يبحثون عن كائن شرير وقوي ينسبون إليه خوفهم، ولعل ارتياحهم إلى عدم قدرتهم على رؤيته يعبس في وجوههم، جعل منه شمّاعة "حفر وتنزيل" على قياس مخاوفهم البريئة
إن الحقيقة التي نختبئ منها خلف أصابعنا، هي أننا -نحن المربين- مسؤولون بشكل كامل عن هذا الخوف الذي لا يجرؤ حامله المسكين على التحرر منه خوفاً من حرق إضافي. يقول الأخصائيون التربويون إن الأطفال لا يأخذون بالنصائح التي نتلوها عليهم بشكل فج. إنهم يتعلمون من المواقف الحياتية، ويبنون معتقداتهم الخاصة عبر ما يسمعونه يومياً، فالطفل الذي يهدده ذووه بعقاب الله وعذابه على كل عصيان، لن يشكّل صورةً عن الله أبعد من كونه يمتلك "فرناً" يُسمى الجحيم يلقي به الأطفال الكسالى والكاذبين والمتسخين.
ويميل الأطفال على نحو غريب إلى تبنّي معتقدات أقرانهم حول صورة الذات الإلهية. الأمر أشبه بحلقة من الصغار يحاولون تركيب "بازل" تعريفي لله، يأتي كل منهم بقطعة منه جاء بها من تصوراته التي تكونت بالطريقة المغلوطة آنفة الذكر، ولنا حرية التصور كيف سيكون شكل صورة كبيرة مكونة من مجموعة لا نهائية من الصور المصغرة المخيفة.
إن الحقيقة التي نختبئ منها خلف أصابعنا، هي أننا -نحن المربين- مسؤولون بشكل كامل عن هذا الخوف الذي لا يجرؤ حامله المسكين على التحرر منه خوفاً من حرق إضافي.
تبكي الطفلة الخائفة الصغيرة بحرقة قائلةً: "أنا ما بدي الله ياخدك وتروحي عالسما وتتركينا، إذا رحتي رح أبكي عليكي قد السما".
-"مين قال بدي روح، أصلاً الأم وين ما راحت بتاخد ولادها!". هل من زر في الإعدادات يوقف هذا الدمع وهذا الحوار الذي باغتني كطعنة من صديق؟
أضع "حكم الإسلام في الرهن العقاري" جانباً، ونبدأ بتعداد الأماكن التي ذهبنا إليها معاً، فيتوقف الفيضان منصتاً، ثم نُجمع على أننا ننفصل عند ذهابنا إلى العمل أو الروضة فحسب، فتُمسح الدموع بالكم، وتروقها فكرة خياطة ملابسنا مع بعض البعض، والالتصاق في كل مكان، وتضحكها إلى حد انقطاع النفس فكرة إغلاق الأنف في الحمام، بينما يقضي الآخر حاجته كتبعية للالتصاق، وأخيراً تعود الحكمة لتبسط نفوذها على عقلها الصغير فتقول: "الأحسن كل واحد يضل لحالو".
استغرق الأمر سبعاً وثلاثين دقيقةً، لتتحول الطفلة من حالة نشيج إلى إغماضة عن ابتسامة رضا، وقبلات على جبيني وأنفي وشعري، وذراع مغلولة حول عنقي توحي بقيد لن ينكسر فأشده طوعاً، وأفكّر:
"يا الله، ما كل هذا 'الـبقشيش' الذي تعطيه للنساء مع الأمومة؟ لماذا فوق كل هدية أمومة تحصل المرأة على باقة من الميزات: صبر، وقدرة على المحاورة، وبداهة في اختلاق القصص، ومهارة الاستيقاظ الاطمئناني في الليل؟ لماذا كل هذه التسهيلات؟".
ويستحضر ذهني قولاً سمعته مرةً ورفضته، لكنه بقي عالقاً في رأسي قيد التحقق، وهو "أن المرأة لا تشعر بالأمومة إلا بعد أن تنجب"، فيكون الدفاع التقليدي "أن الأمومة فطرة وغريزة"، ولعلّ الرأيين صحيحان، فإذا ما أردنا توضيح الأمر أكثر، نشبّه العلاقة بين الاستعداد للأمومة والشعور بالأمومة، بالعلاقة بين الثدي والحليب؛ فالثدي منذ البلوغ يصبح جاهزاً ليعد الحليب للرضيع الذي يخرج من الرحم، لكنه لا يبدأ بإعداده فعلياً إلا بعد الولادة، وكذلك الأمومة فهي تبقى مجرّد استعداد ورغبة ولا تتحول إلى شعور حقيقي إلا بعد الولادة؛ لذا فأنا أجزم بأنني لو سئلت في عزوبتي: "هل أنت مستعدة لمقاطعة سلسلة أفكارك بعد ساعتين من العمل في وظيفتك الثانية من أجل قضاء سبع وثلاثين دقيقةً في ابتكار حلول لطفل يغالب النعاس في البحث عن أي سبب ليبكي، وفوق ذلك يقتلع كل ما تزرعينه في رأسه ويرميه في القمامة، ويأخذ من القمامة ذاتها شتولاً يتبناها؟".
"يا الله، ما كل هذا 'الـبقشيش' الذي تعطيه للنساء مع الأمومة؟ لماذا فوق كل هدية أمومة تحصل المرأة على باقة من الميزات: صبر، وقدرة على المحاورة، وبداهة في اختلاق القصص، ومهارة الاستيقاظ الاطمئناني في الليل؟ لماذا كل هذه التسهيلات؟"
أجزم لو أنني سئلت هذا السؤال لصفعت السائل. لذا فإنني موقنة بأن الله يحب الأمهات، فهو يعطينا من المزايا ما لا يمنحه لغيرنا، لأن الله وحده يعلم ما الملقيّ على أكتافنا نحن الأمهات... إننا نربّي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.