لم تتوقع الأمريكية "آنا غارفيس" مؤسسة فكرة عيد الأم أن حلمها بتكريم الأمهات في يومهن العالمي سيتحول بعد سنوات لحلم نقيض يتمثل بإلغاء هذا اليوم من ذاكرة العالم. ففي البداية بادرت آنا الابنة بإكمال مسيرة أمّها التي كانت تعمل كناشطة في مجال حماية النساء ودعمهن لتربية أبنائهن، كما ترأست نوادي لتعليم الأمهات أسس صحة الأطفال، وبعد وفاة أمها قررت جمع تواقيع لإقرار يوم الأم يوماً عالمياً تكريماً لوالدتها من جهة ولإكمال مسيرتها في دعم النساء. وقد حققت إنجازها عام 1908، وصار هذا اليوم عطلة رسمية عام 1914 بعد أن أقره الرئيس الأمريكي وودر ويلسون.
استغلال عيد الأم
ففي قضية آنا هناك تحوّل جذري في أصل الفكرة التي كانت نابعة من مشوار كفاح طويل عاشته والدة آنا من أجل واقع أفضل للأمهات. وأكملته آنا حتى الحصول على تكريم لهن، لكن الأسواق في أمريكا حينها استغلت يوم الأم بأكثر الطرق نفعاً، إذ شهدت ارتفاعاً هائلاً في أسعار الورود والحلوى والملابس والأثاث وغيرها، وهنا يمكننا تخيل شكل آنا وهي واقفة في السوق تستشيط غضباً وتود البكاء.
حين نطلق أفكارنا إلى فضاء أوسع من مخيلتنا لا نتخيّل حجم التحريف والتغيير الذي يمكن أن يطال جوهر الفكرة الأساسي. هذا ما حدث مع الأمريكية "آنا غارفيس" مؤسسة فكرة عيد الأم
ما فعلته آنا كان أقوى من البكاء وأكثر جدوى، فقد قضت سنوات طويلة في جمع تواقيع تهدف لإلغاء يوم الأم، لكن انتشار فكرتها المرهفة والإنسانية كان أقوى بكثير، ولم تنجح في محو فكرتها النبيلة من ذاكرة العالم.
حين نطلق أفكارنا إلى فضاء أوسع من مخيلتنا لا نتخيّل حجم التحريف والتغيير الذي يمكن أن يطال جوهر الفكرة الأساسي
أتخيل لو كانت آنا حيّة حتى الآن، فكيف ستكون ردة فعلها على العروض والحسومات على أسعار الغسالات والثلاجات والأثاث، والعروض الأخرى الخاصة بالجمال مثل عروض جلسات الليزر، وعروض حقن البوتوكس والفيلر، وعروض شركات الطيران. ها نحن نعيش النقيض تماماً لما كان يحدث آنذاك، خاصة أن متطلبات الحياة في ذلك الوقت كانت أبسط بكثير مما نعيشه. إلا أنني أجزم أن آنا كانت ستصرخ مجدداً لو رأت ما يحصل اليوم في فترة عيد الأم.
من يسأل الأمهات عن رغباتهن الحقيقية؟
من السذاجة أن نتوقع من الآخر أن يكون نبيلاً في تعامله مع أفكارنا، وأن ندافع عن أصل الفكرة ومسبباتها بعد خروجها من حيّزها الآمن في أدمغتنا، مثلاً يمكننا أن نتخيل مكاناً تجتمع فيه كل نساء العالم ليوم واحد، ويتحدثن عن أمنيات يحلمن بتحقيقها في يوم الأم.كتب الشاعر المصري حسين السيد أغنية "ست الحبايب" حين ذهب لزيارة أمه يوم عيد الأم من دون أن يتذكر المناسبة
إن تخيل الإجابات المتنوعة والصادمة والقاسية من شأنه أن يربك أي شخص، وبالتالي يمكننا أن نفهم كيف تحولت الأمهات بلا وعيهن لمروجات حقيقيات للسلع والخدمات والهدايا التي يحصلن عليها في عيد الأم ما دامت أغلب النساء لم يُسألن عن رغباتهن الصادقة واحتياجاتهن الملحّة، فلمَ لا يستفدن من رغبات الآخرين؟
"ست الحبايب"
هل مر على أحدنا عيد أم لم يسمع فيه أغنية "ست الحبايب" للشاعر المصري حسين السيد؟ وكم مرة مررت بأمك أو خالتك أو عمتك ووجدتهن باكيات من شدة تأثرهن بكلام الأغنية الصادق والمرهف؟
لقد كتب حسين الأغنية بسبب النسيان والكسل. تصوروا أنه ذهب لزيارة أمه ليلة عيد الأم من دون أن يتذكر المناسبة، وبالتالي لم يجلب هدية، لكنه كان شاعراً والكلام لعبته. وكما نعرف جميعنا كأبناء أن الأمهات يفضلن الكلام الطيب واللطيف والمليء بالمحسنات التعبيرية عن الأفعال الحقيقة. لذا استخدام حسين السيد موهبته لكتابة أغنية صارت رمزاً من رموز تذكر الأمهات والاحتفاء بهن والحنين إليهن. وقد انطلقت الأغنية بصوت محمد عبد الوهاب في الإذاعات المصرية بعد كتابتها بـ24 ساعة فقط وحققت انتشاراً عربياً مذهلاً، يا لسخرية الأقدار وغرابتها.
كانت آنا تحاول تقديم تكريم معنوي وعالمي للأمهات، ببساطة وصدق ليس أكثر، وحسين السيد كان يحاول أن ينفذ من زعل أمه جراء نسيانه هديتها، وقد حصدا شهرة عالمية ودخلا التاريخ بنوايا طيبة. لكنني، كأم، أقول اليوم إن كل فكرة هذا اليوم وتجلياتها تتمحور حول الأفعال غير المريحة، أياً كانت سواء مادية أم معنوية أم نفسية.
كانت آنا تحاول تقديم تكريم معنوي وعالمي للأمهات، ببساطة وصدق ليس أكثر، وحسين السيد كان يحاول أن ينفذ من زعل أمه جراء نسيانه هديتها، فدخلا التاريخ بنوايا طيبة
المريب في الأمر أن الأمومة في الممارسة اليومية تقوم على عدة أفكار ومهمات نفسية ومعنوية ومادية غير مريحة، ما هذه السخرية يا رب، كيف يمكننا الخروج من دوّامة كهذه؟
يوم مناسب للاعتذار
أنا أعد نفسي امرأة جريئة، وأقدر بصورة ما على أن أقول الأشياء كما أشعر بها، لكنني في يوم الأم أتعثر في كل جملة أقولها في اتصالي الهاتفي مع أمي، وكأن هناك سجّاناً يقف فوق رأسي للإشراف على كلمات الحب والمديح والثناء لأمي على مشوارها الصعب في تربيتنا.يوم الأم بالنسبة لي يوم سمج، ومناسب للاعتذارات المتتالية. نعتذر عن كوننا أبناء مقصرين، وعن سرقة صحة أمهاتنا، وأحلامهن
لا ضير لو بالغت قليلاً وتحشرج صوتي جراء دمعة ستنزل من عيني من شدة التأثر. لكن الحقيقة أن يوم الأم بالنسبة لي يوم سمج ليس إلا، يوم مناسب للاعتذارات المتتالية. نعتذر عن كوننا أبناء مقصرين، ونعتذر عن سرقة صحة أمهاتنا وأحلامهن الوردية بتقلّد مناصب تمكنهن من تغيير العالم، ونعتذر لليتامى لأننا نحتفل بأمهاتنا، ونعتذر من صاحب العمل لأننا نريد سلفة نقدم فيها هدية الأم، ونعتذر من أنفسنا لأننا كررنا التجربة وصار لدينا أبناء.
أحترم أمومتي وأمومة النساء في كل العالم، لكن أقسم أن كل منا تفكر بينها وبين نفسها مرة أسبوعياً على الأقل بكم الأشياء التافهة والغريبة والحميمية التي دفعناها ثمناً للأمومة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com