اعتقد قدماء النوبيين أن كائنات شريرة وغامضة تسكن نهر النيل، تخرج من الماء هائمة في القرى، ومنها: الشرير المائي أو المتوكية أو أسيى دجر، وكذلك الفاديكات أو أمن دجر، وهي تعني الشرير أو الكئيب أو صاحب العينين المشقوقتين رأسياً، يتخيلونه وهو ينتظر النساء أثناء ملء أوعيتهن بالماء، وينزع عنهن حليهن الذهبية، ويمزق شباك الصيادين والسفن والمراكب، ويتسلق النخل، ويأكل البلح عند الفجر، ويهدد من يقترب بالموت.
ومن أشهر الأساطير النوبية "فاطنة السمحة والغول" التي تدور حول مخلوق خرافي يأتي من "ناوا" النوبية إلى بقية بلاد النوبة في موسم فيضان النيل حين ترتفع درجة الحرارة إلى ما يقارب الخمسين درجة، ولا يأكل إلا عظام الآدميين ويتربص لاصطياد الأولاد الذين ينزلون إلى النيل في وقت القيلولة، ولا يأكلهم إلا بعد مغيب الشمس. كما يحضر الغول أو الجني الشرير "إير - كابي" بقوة في الأساطير النوبية، التي تشير إلى قدرة الغول على التهام البشر.
وهناك أيضاً أسطورة "كلايا شلشل" الجنية، التي كانت تحضر أفراح النوبيين، وسُميت شلشل بسبب الصوت الذي تصدره أساورها الذهبية حين تشارك في الرقص والتصفيق بالأعراس، لكن طيبتها تحولت إلى غضب بسبب فضول الناس فأصبحت تثير رعبهم.
أساطير الأعراس
يعتقد أهل النوبة إلى اليوم أن هناك أرقاماً بعينها مثل: 40، 7، 3 تُمثّل تعويذة سحرية، ويستبشر النوبيون بشهور وأيام، ويتطيرون من أخرى وفقاً لاعتقاداتهم، فمثلاً: المرأة النوبية عندما تلد تكنس بيتها بعد أربعين يوماً من الولادة، وتلقي بما كنسته في نهر النيل، وتستحم ثم ترش ماء استحمامها على الطريق كي يمر عليه الناس ظناً منها أنها بتلك الطريقة سوف تحمل مرة أخرى، أما الأرملة فتذهب لزيارة قبر زوجها لأربعين يوماً حاملة الماء والطعام لروحه.
خوف النوبيين من الأرواح الشريرة يتجلى في زي المرأة النوبية، الذي ينسدل لمستوى الأرض، وكأن المرأة تكنسها بثوبها، بسبب ممارسات مرتبطة بالسحر والوقاية من مفعول العين
كما ترتبط الأعراس وحفلات الزفاف النوبية بسحر الأرقام، فجرت العادة أن تستمر الأفراح والغناء والرقص سبعة أيام، والعريس قبل دخوله غرفة الزوجية يشرب ثلاث رشفات من اللبن الرائب ثم يطرق بابها بسيفه ثلاث طرقات، ويجب أن يستحم بمياه النيل سبعة أيام منذ “الصباحية”، وإذا أرادت الزوجة الأولى إزعاج ضرتها والاستئثار بالزوج تجلب ثلاث تمرات ليقرأ عليها الساحر تعزيمه معينة ثم تقدمها للزوج ليأكلها .
العلاقة بالحيوانات
تلعب الموروثات القديمة دوراً كبيراً في علاقة النوبيين بالحيوانات والطيور، فنجدهم يخافون من العقرب ومع ذلك يرسمونه على جدران بيوتهم، وينقشونه على الحلي، فقد كان رأسه رمزاً لبعض آلهة النوبة في العصور القديمة، أما الديك فيعتبرونه رمزاً للسيطرة على القوى الغيبية، ويربونه في البيت لطرد الشيطان.
وكان قدماء النوبيين يكتحلون بدم الديك، واستخدموا عظامه لعلاج الحمى، وروث الديك للتخلص من السموم، أما الحمام فيحسنون معاملته ظناً منهم أنه ربما يتلبس روح أحد الأقارب.
مخلوق خرافي يأتي من "ناوا" النوبية في موسم فيضان النيل حين ترتفع درجة الحرارة إلى ما يقارب الخمسين درجة، ولا يأكل إلا عظام الآدميين، ويتربص لاصطياد الأولاد الذين ينزلون إلى النيل في وقت القيلولة... عالم كامل من الأساطير، تضرب بقوة في عادات النوبيين وأزيائهم ومعمارهم
يعتقد النوبيين كذلك أن التوائم يتحولون إلى قطط في الليل، يتجولون ثم يعودون في الصباح الباكر إلى منازلهم في صورة أطفال، وأن التوائم ينامون مدة طويلة ويجب ألا يتم إيقاظهم، لأن أرواحهم لا تزال خارج الأبدان في رحلة بعيدة، ويحذرون من ضرب القطط في الليل، ومن حرمان التوأم من السمك المحمر أو اللحم، لذا تحرص المرأة النوبية عادة عند طبخها لحماً أو سمكاً أن تعطي منها للقطط لاعتقادها أنها أرواح التوأم.
يسود في النوبة اعتقاد بأن الموت يهدد التوأم دائماً، وأنهم نصف روح، ويخافون على مصير التوأم الذكر أكثر من الأنثى، لاعتقادهم أنه مهدد دائماً بالموت.
3 كتب عن الأساطير في قرى النوبة
بجانب تلك المعتقدات فإن الموالد والاحتفالات والنذور وحلقات الذكر، والأولياء أصحاب الكرامات يحظون بمكانة في النوبة منذ عصور إذ تُقام الموالد والاحتفالات إرضاءً للأولياء ويحضر أهالي النوبة من جميع القرى، لزيارتهم والتبرك بهم، وتضم كل القرى النوبية تقريباً أضرحة لأولياء وأصحاب كرامات، ومن أشهر تلك الأضرحة: ضريح الشيخ حسن فجير بقرية قرشة، وضريح الشيخ أبو بكر فى نجع الحرازة، وضريح سيدي منصور وضريح الشيخ شرف بقرية العلاقي.
1 - "بيوت السودان"
في كتاب "بيوت السودان" للمعماري السوداني الدكتور هاشم خليفة، إشارة إلى حضور العالم الغيبي بملائكته وشياطينه بقوة في جوانب وجزئيات عمارة بيوت النوبيين، متسبباً في انعدام أو قلة النوافذ الكبيرة المطلة على الشوارع حيث كانوا يكتفون بفتحات صغيرة في الجزء الأعلى من الغرف، والاقتصار على مدخل واحد لبيوتهم، يطل على النهر لاستدراج ملائكته، وتتوجه استغاثات النساء عند الفزع إلى ملائكة النهر، ويندر وجود أبواب للبيت النوبي في الجانب الخلفي المواجه للصحراء لاعتقادهم أنها موطن الشياطين.
كما يزخرف النوبيون بيوتهم بالآيات القرآنية لزوم التحصين، وبرموز وعناصر لجلب الفأل الحسن ودرء العين الحاسدة كبصمة الكف وحدوة الحصان، وتتوسط مدخل البيت أحياناً جمجمة حيوان له قرون حادة أو أنياب بارزة: تمساح أو غزال.
ووفقاً لخليفة فإن خوف النوبيين من الأرواح الشريرة يتجلى في زي المرأة النوبية، الذي ينسدل لمستوى الأرض، وكأن المرأة تكنسها بثوبها، بسبب ممارسات مرتبطة بالسحر والوقاية من مفعول العين.
2 - "حكايات من النوبة"
لم يقتصر تأثير السحر والأساطير على العمارة، والأزياء، بل امتد على الصعيد الأدبي، إذ ألقت الأسطورة والغرائبيات بظلالها على الأدب النوبي وأكسبته مذاقاً خاصاً، وأشهرها "الخرافة والأسطورة في بلاد النوبة" للكاتب المصري النوبي إبراهيم شعراوي، حفيد الرِّاوية النوبية الشهيرة "زينب كوتود"، التي تنسب إليها الكثير من حكايات الجدات في النوبة، وفيه تحضر الكثيرَ من السِّيَر الشعبيَّة المتداولة في النوبة، مثل السِّيرة الهلاليَّة، والحكايات النوبيَّة، والقصص التُّراثية.
في تلك السير والقصص التراثية نجد حضوراً قوياً للكائنات الخرافية المستلهمة من البيئة النوبية كالتماسيح، إضافة للكائنات ذات البعد الأسطوري، كعشق الإركبي، وهو كائن خرافي معروف في الأساطير النوبية بقوته وبطشه، والفأر بروك الذي ولد لأسرة بشرية، وأسطورة الشاوشاو أو الحجل الذي تزين به المرأة النوبية ساقها.
تحضر كذلك أساطير عدة مثل: "زينب كوتود" و"الإريكبي أو العرقبي"، و"فاطمة السمحة والغول" في كتاب "حكايات من النوبة" للأديب والمؤرخ السوداني صاحب الأصول النوبية، جمال محمد أحمد، ويحتوي هذا الكتاب على حكايات شعبية حية، لا يزال الناس يحفظون بعضها، ويرددونها، وهي حكايات لها دلالاتها الأسطورية والفولكورية، وتصور ما تمتاز به الثقافة النوبية الأصيلة، وما يكتنفها من عجائب تمتد جذورها إلى عصور قديمة.
3 - "الأولياء والكرامات والسحر والخرافة في بلاد النوبة"
تطرق كتاب "الأولياء والكرامات والسحر والخرافة في بلاد النوبة" للأديب النوبي المصري، عبد المجيد حسن، للطقوس السحرية وفانتازيا الخرافة في بلاد النوبة الغارقة، والنوبة الجديدة مستعيناً بما حفظته الذاكرة من روايات الأجداد وحكايات الجدات، وراصداً الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير المنتشرة في بلاد النوبة، بجانب مجموعة من عادات أهل النوبة كالتفاؤل بأرقام 3 و7 وسبعين، والإيمان بوجود الأرواح والعوالم الأخرى الموازية للبشر، والكائنات التي تعيش تحت ماء نهر النيل.
كما يرصد الكتاب أساليب وطقوس النوبيين للاحتفال بموالد الشيوخ في القرى، التي تقام معظمها في شهر شعبان، وتتضمن حلقات للذكر ومدائح نبوية تُتلى حول أضرحة الأولياء.
ولا تزال الأساطير والخرافات المرتبطة بالسحر والجن والعوالم الغيبية حاضرة بقوة في الثقافة النوبية، إذ تمتد جذورها للموروثات القديمة للحضارة النوبية، منذ عصور ما قبل الميلاد حتى وقتٍ قريب، وشكّلت جزءاً كبيراً من التكوين النفسي للنوبيين، وزاد من انتشار تلك المعتقدات وترسيخها وجود قبائل وعائلات نوبية تستمد قوتها من علاقتها بسكان أعماق النهر والعوالم الغيبية، ووجود السحرة الذين يحصلون على القرابين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...