شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
الناسخ والمنسوخ في القرآن... حكمة خفية أم سياق تاريخي للمقدّس؟

الناسخ والمنسوخ في القرآن... حكمة خفية أم سياق تاريخي للمقدّس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الثلاثاء 14 مايو 202403:51 م

النسخ في اللغة هو إزالة الشيء وإحلال شيءٍ آخر محله. يقول الجوهري في كتاب "الصحاح": "نسخت الشمس الظل وانتسخته: أزالته. ونسخت الريح آثار الدار"، وربما تنتمي الكلمة إلى عائلة جذر لغوي تتضمن الفسخ والمسخ والرسخ، وحديثاً تم توليد معنىً جديدٍ للنسخ هو إنشاء صورة طبق الأصل عن الوثائق أو غيرها. أما المعنى القرآني، فهو الإلغاء والإبطال، وفي علوم الفقه؛ النسخ هو إلغاء حُكْم ثابت بالنص السابق ليحل محله حكم مختلف بنص لاحق، ويرى أغلب الفقهاء أن النسخ يقع في القرآن وفي السنّة، كما بين الشرائع.

تتوفر الكثير من المرويات من مرحلة الوحي عن حصول عملية النسخ، ومنها ما ورد في "صحيح مسلم" عن عدد من الصحابة اجتمعوا وسألوا النبي عن آية لم يقدروا عليها، فسكت النبي ثم أجاب: "نُسخت البارحة". ومنها ما ذكره ابن الجوزي في "نواسخ القرآن" عن علي بن أبي طالب، أنه "مرّ بقاضٍ فقال: أتعرف الناسخ والمنسوخ؟ قال لا. قال: هلكت وأهلكت"، في إشارة إلى تغيّر الأحكام والتشريعات التي على القاضي معرفتها وإلا ظلم.

ونسخ الشرائع أثار جدلاً مبكراً بين اليهود والمسلمين -في ما يتعلق بالسبت مثلاً- وقد احتج اليهود أيضاً بأنه ثبت بالتواتر عن النبي موسى أن لا تغيير لشريعته. ومن الحوادث المبكرة التي جرى فيها نسخ الآيات قصة الغرانيق، إذ يروي الطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، أن النبي استشعر الوحشة حين كان بنو قومه يعرضون عنه، فتمنى قائلاً: "ليته لا ينزل عليّ شيئاً ينفرهم مني"، وأنه قرأ سورة النجم في المسجد الحرام أمام سادة قريش، ومعه بعض أتباعه يُصَلُّون معه، ولما وصل إلى الآيات "أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأخرى"، استمر في القراءة "تلكَ الغرانيقُ العُلا، وإنّ شفاعتهنّ لتُرتَجى"، مما أحدث صدى طيباً بين القريشيين الحاضرين الذين سجدوا مع المسلمين بسبب ما سمعوا من ذكر آلهتهم. لكن الوحي سرعان ما تدخل ونسخ الآيتين "تلكَ الغرانيقُ العُلا، وإنّ شفاعتهنّ لتُرتَجى"، بـ"أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى"، ثم شارحاً الموقف في سورة الحج (52): "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أمُنِيَّتِهِ فيَنْسَخُ اللهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آيَاتِهِ".

نسخ الشرائع أثار جدلاً مبكراً بين اليهود والمسلمين -في ما يتعلق بالسبت مثلاً- وقد احتج اليهود أيضاً بأنه ثبت بالتواتر عن النبي موسى أن لا تغيير لشريعته. ومن الحوادث المبكرة التي جرى فيها نسخ الآيات قصة الغرانيق، إذ يروي الطبري في "تاريخ الرسل والملوك"، أن النبي استشعر الوحشة حين كان بنو قومه يعرضون عنه، فتمنى قائلاً: "ليته لا ينزل عليّ شيئاً ينفرهم مني"

الأدلة الأخرى من آيات القرآن عديدة أيضاً، أبرزها الآية 106 من سورة البقرة "ما ننسخ من آية أو نُنسِها نأتِ بخير منها أو مثلِها ألم تعلمْ أنّ اللهَ على كل شيءٍ قدير"، والآية 101 من سورة النحل "وإذا بدلنا آيةً مكان آيةٍ والله أعلم بما ينزّل قالوا إنما أنت مفترٍ بل أكثرهم لا يعلمون"، والآية 39 من سورة الرعد "يمحو الله ما يشاء ويثبت ما يشاء وعنده أم الكتاب".

وقد حفل التراث الإسلامي بكثير من المؤلفات في هذا الباب، وممن اجتهد وكتب؛ محمد بن مسلم الزهري (ت124هـ)، وأبو داود السجستاني (ت275)، وأحمد بن محمد النحاس (ت338)، وابن أصبع القرطبي (ت340)، وأبو بكر الحازمي (ت584)، فضلاً عن الطبري والسيوطي وابن الجوزي. والمواضيع التي يطالها النسخ هي أحكام بصيغة الأمر والنهي، أو التحبيذ والتجنيب وغيرها، أما الأخبار وقصص الأنبياء والتوجيهات المتعلقة بالأخلاق والعقيدة فهي ثابتة لا تتبدل طبعاً.

والمؤمنون بالنسخ أكدوا جوازه عقلاً، لأن الأحكام مرتبطة بمصالح العباد التي يمكن أن تتغير مع الزمن، وتتردد في كتب الفقه والشروحات مقولة "حيثما أسفرت المصلحة فثم شرع الله ودينه"، كما ذكر ابن حزم الأندلسي في كتابه "الناسخ والمنسوخ": "إن الحق يعود باطلاً والأمر يعود نهياً وإن الطاعة تعود معصيةً". أما الأشاعرة، فاكتفوا بتبرير النسخ بربطه بإرادة الله لأنه "فعّال لما يريد". ويرى الدكتور نصر حامد أبو زيد، في كتابه "مفهوم النص دراسة في علوم القرآن"، أن "تحديد الناسخ من المنسوخ في آيات القرآن يعتمد أساساً على معرفةٍ تاريخية دقيقة بأسباب النزول، وبترتيب نزول الآيات".

بين الحكم والتلاوة

إذا تجاوزنا نسخ الشريعة لأخرى، فللنسخ في القرآن ثلاثة أنواع؛ أولها ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته، وقد أثار هذا النوع الكثير من الجدل حوله، وندر أن وقع الاتفاق على مواضعه، ومثال هذا النوع عدّة المتوفى زوجها التي نصت الآية 240 من سورة البقرة على جعلها سنةً كاملةً، ثم نُسخت بالآية 234 من السورة نفسها لتصبح أربعة أشهر وعشرة أيام، والآية 12 من سورة المجادلة المسماة آية النجوى، التي تطالب الصحابة بتقديم صدقة حين يقصدون الرسول للسؤال والاستشارة، وجرى نسخها بالآية 13 من السورة نفسها فألغي حكمها وبقي نصها. النوع الثاني هو ما نسخ حكمه وتلاوته معاً، إذ ورد في صحيح مسلم عن التحريم بالرضاعة عن عائشة، أنها قالت: "نزل في القرآن عشر رضعات معلومات، ثم نزل أيضاً خمس معلومات"، فهنا الحكم نُسِخَ ولا وجود له في المصاحف، فنُسخت تلاوته، وسورة الأحزاب أكثر الأمثلة وضوحاً على هذا النوع الذي تضمن سحب آيات من التداول وإلغاء أية أحكام نصت عليها، فقد ذكر السيوطي في كتابه "الإتقان في علوم القرآن"، أن عائشة قالت: "كانت سورة الأحزاب تُقرأ في زمن النبي حتى مائتي آية، فلما كتب عثمان المصاحف لم نقدر منها إلا على ما هو الآن". وربط بعض الباحثين هذا الحذف بالمراجعة السنوية للقرآن التي كان يجريها جبريل مع محمد، كما ورد في الروايات.

ويرى الباحث هادي العلوي، في كتابه من "قاموس التراث"، أن "الحذف ربما كان يتم أحياناً لاعتبارات بلاغية، فبعض النصوص أدنى بلاغياً من القرآن مثل آية 'لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالثاً'، فمضمونها ليس مما ينسخ". وقد رفض بعض الفقهاء نسخ التلاوة بإطلاق محتجين بأن القرآن تم نقله للمسلمين بتمامه وكماله دونما زيادة أو نقصان.

المؤمنون بالنسخ أكدوا جوازه عقلاً، لأن الأحكام مرتبطة بمصالح العباد التي يمكن أن تتغير مع الزمن، وتتردد في كتب الفقه والشروحات مقولة "حيثما أسفرت المصلحة فثم شرع الله ودينه"، كما ذكر ابن حزم الأندلسي في كتابه "الناسخ والمنسوخ": "إن الحق يعود باطلاً والأمر يعود نهياً وإن الطاعة تعود معصيةً"

والنوع الثالث؛ ما بقي حكمه ونُسخت تلاوته، أي أن تنص آية على حكم يجري العمل به ثم تُرفع من التلاوة ويبقى الحكم، وآية الرجم أبرز الأمثلة عليه، إذ روى ابن الجوزي في كتابه "نواسخ القرآن" قوله: "قال عمر بن الخطاب: بعث الله محمداً (صلعم) بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان في ما أنزل عليه آية الرجم، فقرأناها ووعيناها وعقلناها، ورجم رسول الله (صلعم) ورجمنا بعده، وهذه هي آية الرجم كما ذكرها عمر ابن الخطاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً... وأكد عمر كلامه قائلاً: ولولا أن يقول قائل زاد عمر في كتاب الله لكتبتها بيدي".

وقد ذكر السيوطي في كتابه "الإتقان"، تبريره لرفع آية الرجم: "إن سبب التخفيف على الأمة بعدم اشتهار تلاوتها وكتابتها في المصحف -وإن كان حكمها باقياً- لأنه أثقل الأحكام وأشدها، وأغلظ الحدود"، علماً أن هذا المنطق يفرض تساؤلاً مشروعاً حول أولوية رفع الحكم الثقيل طالما رُفعت تلاوته لشّدته.

سجالات وخلافات عالقة

إجماع الفقهاء وعلماء الإسلام منعقد فقط على وقوع النسخ، لكن مواضعه وتفاصيله وشروطه وتحديد ناسخه من منسوخه عليها خلاف كبير، فمنهم من يقرّ بالنسخ فقط بين الشرائع، أي أن الدين الجديد ينسخ شرائع الدين الأقدم، ومن أنصار هذا الرأي الفقيه والمفسر أبو مسلم الأصفهاني (ت322هـ) الذي اعتبر أن النسخ يُدخل النقص والباطل إلى القرآن، وهذا محال كما تنص الآية 32 من سورة فُصِلت "لا يأتيهِ الباطلُ منْ بينِ يديهِ ولا منْ خلفه"، ووافقه الرأي قلة من معاصريه الأقل شهرةً، وحديثاً انتصر لهذا الرأي الإمام محمد عبده والشيخ الأزهري علي جمعة والشيخ محمد الغزالي والباحث السوري محمد شحرور، أما الأكثرية فتقرّ بالنسخ ضمن الشريعة الواحدة، وهؤلاء فئتان؛ الأولى تقول إن القرآن ينسخ القرآن والسنّة تنسخ السنّة، والثانية تقول إن نسْخ القرآن بالسنّة يجوز، أي أنه يمكن لتوجيه نبوي ثابت بالحديث أن يلغي حكماً قرآنياً، ومن هؤلاء أصحاب المذاهب مالك وأبو حنيفة وأحمد، وحجتهم في ذلك أنَّ السنّة أيضاً من الوحي كما يقرر القرآن في الآيتين 2 و3 من سورة النجم: "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى".

أما عدد الآيات المنسوخة فبقيت موضع خلاف كبير حيث تراوح العدد بين ستٍ وستين عند عبد القاهر البغدادي، ومائتين وأربع عشرة عند ابن حزم، وذلك تبعاً للقواعد المتبعة وزاوية النظر إلى كلٍ منها، فضلاً عن الخلافات المرتبطة بالمصالح المتعارضة للفئات الاجتماعية المختلفة كآية تحريم الكنز التي نُسخت بآية الزكاة عند بعض الصحابة، وبقي حكمها ثابتاً عند بعضهم الآخر.

بعض الرافضين للنسخ يفسر كلمة الآية في النص القرآني على أنها المعجزة، وتالياً لا تبديل ولا إلغاء للأحكام والتشريعات بل الإتيان بمعجزة وحجةٍ إضافيتين، ولحل التباين الظاهري بين آيتين يتم اللجوء إلى التأويل والتدبّر الذي يجب أن يفضي إمّا إلى التخصيص، أي أن آية ذات حكم عام وأخرى مخصصة لحالة محددة، أو إلى اعتبار آية مطلقة والثانية مقيّدة بشروط، أو أن واحدةً تفصّل الثانية، أو تكملها، أو تهدف إلى التدرج في فرض التحريمات، برغم أن التأويل هنا قد ينطوي على تفسيرات تعسفية وليّ عنق النص لاستنطاقه. وبعضهم يفسر كلمة ننسخ في سورة البقرة على أنها تثبيت وليست إبطالاً أو إلغاءً، لكنهم لا يقولون كيف يتسق هذا المعنى مع الآية 52 من سورة الحج التي تقول: "فينسخ الله ما يلقي الشيطان"، إذ من غير الوارد أن الله يثبت ما يلقيه الشيطان.

منظومة مغلقة أم متغيرة؟

نسخ الشرائع لبعضها يعني أن كلاً من الأديان السماوية الثلاثة قد توافق مع الشروط التاريخية التي نشأت خلالها، لكن النسخ ضمن القرآن يطرح على الفكر الإسلامي مجموعةً من الأسئلة المشروعة لعل أولها موجّه صوب من يعتقد بأزلية اللوح المكتوب، فإن كان ثابتاً ثباتَ الخالق؛ فكيف تتبدل بعض آياته في حقبة قصيرة هي حياة محمد خلال تلقّي الوحي؟

ألا يُعدّ تغير الأحكام هذا نمطاً من سجال الأرض والسماء؟ أليست استجابة المقدس السماوي للتغيرات الأرضية دليلاً لا لبس فيه على تاريخية النص القرآني وعلى تفاعلٍ إيجابي مع تغير مصالح البشر باختلاف الظروف والأزمنة؟ وعلى تشابك الوحي السماوي مع المشكلات الأرضية وإجابته عن أسئلة بشرية متجددة؟ وهل التغيرات التي طرأت خلال اثنين وعشرين عاماً -هي عمر البعثة النبوية- تستحق تغير الأحكام الإلهية ولا تستحقها التغيرات الحاصلة طوال بضعة عشر قرناً تالية؟

وإذا أخذنا بالحسبان ما أوضحه السيوطي شعراً في كتاب "قلائد الفوائد"، حول تكرر النسخ لأربعة موضوعات أكثر من مرة، وهي قِبلة الصلاة وزواج المتعة وشرب الخمر والوضوء بما مسّته النار، أي أن الأحكام المتعلقة بهذه الموضوعات تعرّضت للتغيير والتعديل وإعادة التوجيه مرات عدة، تصبح الأسئلة المطروحة على المقدّس وأحكامه القطعية النهائية مشروعة أكثر، خاصةً مع وجود تجارب لمبدأ تعطيل الأحكام بتغير الظروف من دون نسخ الحكم بتوجيه إلهي أو نبوي واضح، بل فقط لعلّة تغيّر المصالح والظروف كما فعل أبو بكر في خلافته عندما أوقف حصة المؤلفة قلوبهم من الصدقات، علماً أن الآية 60 من سورة التوبة تنص عليها دون حدود زمنية، وكما فعل الخليفة عمر في تعطيله حدّ السرقة عام المجاعة الذي سمّي عام الرمادة.

إذاً، لماذا يستسهل المؤمنون والفقهاء الركون إلى المسلمات الإسلامية الموروثة حول صلاحية التشريعات لكل زمانٍ ومكان، خاصةً إذا أخذنا بالاعتبار ما شهده الدين الإسلامي بفعل الفتوحات من توسع كبير ليشمل شعوباً غير عربية لها خصوصيتها الثقافية وإرثها الاجتماعي والقِيَمي المختلف؟ أليس تغيّر الظروف والشروط والأقوام وتباين وعيها وثقافتها يقتضي منطقياً وبالضرورة تغيّر الأحكام لما فيه مصلحة البشر في مكان وزمان محددين؟

وهل كان اجتهاد الفقهاء في تحديد الناسخ وما تم نسخه مستقلاً عن صراع الفئات الاجتماعية ومصالحها؟ آية تحريم الكنز مثلاً التي نُسِخت بآية الزكاة؛ يرى هادي العلوي في "قاموس التراث" أن النسخ هنا جاء انتصاراً لأثرياء الصحابة وتحرراً من قيد شرعي يمنعهم من إنماء ثرواتهم والتمتع بها.

نسخ الشرائع لبعضها يعني أن كلاً من الأديان السماوية الثلاثة قد توافق مع الشروط التاريخية التي نشأت خلالها، لكن النسخ ضمن القرآن يطرح على الفكر الإسلامي مجموعةً من الأسئلة المشروعة لعل أولها موجّه صوب من يعتقد بأزلية اللوح المكتوب، فإن كان ثابتاً ثباتَ الخالق؛ فكيف تتبدل بعض آياته في حقبة قصيرة هي حياة محمد خلال تلقّي الوحي؟

راهناً، ليست مشكلة الناسخ والمنسوخ قضيةً عقائديةً تعبديةً بحتة كما قد يتراءى لنا، لأن بعض الأحكام والأوامر والتكاليف تتصل مباشرةً بصراع الحركات الجهادية مع مجتمعاتها وحكوماتها وخصومها من كل الجهات، إذ لا يخفى على أحد استنادها إلى مسوغاتٍ شرعية من النص القرآني تأمرهم بقتال "المشركين والمرتدين"، فالآية 5 من سورة التوبة "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيم"، التي تدعى آية السيف تنسخ وفق المنظومة العقائدية للجهاديين عشراتٍ من آيات الهداية والموعظة والصفح والتسامح والقول الحسن والإعراض وحرية الإيمان أو عدمه، ويعددها ابن حزم في كتاب "الناسخ والمنسوخ" لتصل إلى 114 آيةً.

ومنهج التكفير الذي تستند إليه الحركات الجهادية يجري التنظير له وإكسابه الشرعية طبقاً لآيات قرآنية تقرر أن المسلمين هم شعب الله المختار وليس اليهود، فالآية 62 من سورة البقرة "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون"، جرى نسخها وإبطال أي حكم أو توجيه مترتب عليها بالآية 18 من سورة آل عمران "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ"، وبالآية 58 من السورة نفسها "وَمن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"، طبقاً لمنطق الناسخ والمنسوخ.

السجال حول آيات القرآن وناسخه ومنسوخه ما زال مستمراً بين الفئات الإسلامية المختلفة، وبينهم وبين غيرهم مع ما قد يترتب على الخلاف من تكفير وتحريض، فما أحوج المجتمعات الإسلامية إلى منهجٍ ينسخ كل ما يناقض منظومة حقوق الإنسان ويتصالح مع العصر، كي لا تبقى هذه المجتمعات خارج الفعالية التاريخية!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image