"نجحت ثورتنا... نجحت ثورتنا"!
بهذه العبارة صدح صوت امرأة سورية بسيطة ظهرت في لقطة سريعة عبر إحدى الفضائيات، لتعبّر عن فرحها برحيل نظام استمرّ 54 عاماً. إذاً، "إنها سوريا بلا بشار الأسد"، والتاريخ هو الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024.
جملة انتظرها مئات الآلاف من السوريين، ومثلهم حول العالم ممن عرفوا وسمعوا وتفاعلوا مع سوريا وقصصها وآلامها لسنوات طويلة؛ آلاف الشهداء والمعتقلين والمغيبين قسراً، بجانب من غرقوا في البحر وتعرّضوا لمئات المواقف الصعبة في بلاد اللجوء.
هل نجحت ثورتنا حقاً؟ سؤال يُطرَح في ظلّ ظروف صعبة للغاية تعيشها سوريا، اقتصادياً وسياسياً، وسط تهديدات إسرائيلية رافقتها تحركات فعلية على الأرض، وحديث متزايد عن التقسيم، ثم تُوّجت بالمعارك الأخيرة في الساحل السوري، التي قُتل فيها مدنيون وُزّعت اتهامات قتلهم على فصائل عسكرية وفلول النظام السوري، ضمن ما قيل إنه مخطط انقلابي بدعم إيراني ومن "حزب الله"، بالإضافة إلى من سقط من قوات الأمن العام، بما في ذلك الإعلان عن مقبرة جماعية ضمت رفاتهم في مدينة القرداحة، في قرى الساحل، وفق الوكالة السورية الرسمية للأنباء "سانا".
يبدو الحديث عن الأمل بعد الأحداث الأخيرة، ضرباً من الخيال. المصاب كبير للغاية وتداعياته خطيرة جداً ليس على سوريا فحسب، بل ربما على المنطقة برمّتها، التي تعيش بدورها تهديدات تطال الفلسطينيين على أرضهم، والأردن ومصر كذلك.
"يبدو الحديث عن الأمل بعد الأحداث الأخيرة، ضرباً من الخيال. المصاب كبير للغاية وتداعياته خطيرة جداً ليس على سوريا فحسب، بل ربما على المنطقة برمّتها، التي تعيش بدورها تهديدات تطال الفلسطينيين على أرضهم، والأردن ومصر كذلك"
سأعود إلى السؤال: "هل نجحت ثورتنا"؟
من المبكر جداً الحديث عن نجاحها من عدمه. من البديهي أنّ الأمر لا يرتبط فقط برحيل الأسد عن كرسي الحكم، ولا تفكيك نظامه فقط. يمكن اعتبار ما حصل خطوةً أولى نحو التغيير بعد أن انتظر السوريون 54 عاماً لإتمامها، منها 14 عاماً من الجحيم، ليصلوا إلى مرحلة يملكون فيها أوكسجين الإنسان الثاني، الأمل، لبناء دولة قوية وجميلة لكل أبنائها، وتجاوز مطبات الفساد والمحسوبية والرشوة والطائفية والإمعان في القهر والذلّ.
سقوط الأسد أخيراً، بعد 14 عاماً من حرب ضروس شنّها النظام السابق ضد السوريين، وتحوّل البلاد إلى ساحة صراع إقليمية ودولية، يعني الخطوة الأهم في اتجاه تحتاجه سوريا اليوم أكثر من أي وقت مضى، وفتح باب للأمل لأن تكون سوريا مختلفةً وأكثر تنميةً وحريةً وقوةً مما كانت عليه لعقود.
لا يمكن الحصول على الأمل من خلال الخطابات الرنانة، ولا الاحتفالات أو الشعارات أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي. هذا ليس كافياً، لا أقلّل منه ولا من تأثيره، لكنه ليس كافياً.
يأتي الأمل من خلال خطوات جدّية في طريق صعب وطويل، لتحويل سوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وهذا الأمر لن يأتي بالتفرد في القرار والعمل وفق شعارات من قبيل "من يحرّر يقرّر"، بل من خلال مشاركة جميع السوريين في بناء سوريا وضمان العدالة الانتقالية وحوار وطني حقيقي بين الجميع، ودستور يكفل حرّية سوريا نفسها ومواطنيها والاعتراف بتنوعهم وضمان حقوقهم السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ومنع قيام أي نظام ديكتاتوري جديد. وقد يؤدي عدم السير في هذا الطريق، إلى حوادث ربما أكثر قسوةً وعنفاً مما شهدناه مؤخراً، ما يُدخل البلاد في دوامة عنف لا يُعرف متى تنتهي.
يحتاج الوصول إلى هذا المكان إلى خطوات عملية على الأرض، تبدأ من نية خالصة لدى كل الفاعلين السوريين، على رأسهم السلطة الحالية، ومن يؤمن بها ومن يعارضها، ومن هو على الحياد، بأنّ هذه خطوة في طريق طويل وصعب لبناء سوريا.
"يأتي الأمل من خلال خطوات جدّية في طريق صعب وطويل، لتحويل سوريا من الديكتاتورية إلى الديمقراطية، وهذا الأمر لن يأتي بالتفرد في القرار والعمل وفق شعارات من قبيل "من يحرّر يقرّر"، بل من خلال مشاركة جميع السوريين في بناء سوريا وضمان العدالة الانتقالية وحوار وطني حقيقي بين الجميع"
في كتابه "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية... إطار تصوّري للتحرر" (صدر في عام 1993)، يقول أستاذ العلوم السياسية والمتخصص في الكفاح السلمي، جين شارب (1918-2018)، إنّ إسقاط الأنظمة الديكتاتورية بفاعلية يحتاج إلى أربع مهام، هي تعزيز الشعوب المضطهدة في تصميمها وعزيمتها وثقتها بنفسها ومهارات المقاومة، وتعزيز جماعات ومؤسسات الشعوب المضطهدة الاجتماعية المستقلة، وخلق قوة مقاومة داخلية قوية، ووضع خطة تحرر إستراتيجية حكيمة وكبيرة وتنفيذها بمهارة.
ويضيف شارب: "تتمثل إحدى خصائص المجتمع الديمقراطي في وجود عدة مجموعات ومؤسسات حكومية مستقلة عن الدولة تشمل العائلات والمنظمات الدينية والمؤسسات الثقافية والأندية الرياضية والمؤسسات الاقتصادية والنقابات واتحادات الطلبة والأحزاب السياسية ومؤسسات حقوق الإنسان"، وهذه المؤسسات تُعدّ أجساماً توفر الأسس الجماعية والمؤسساتية، يمكن للناس من خلالها التأثير على توجه المجتمع ومقاومة الجماعات الأخرى أو الحكومة عندما تتعدى على مصالحها".
في فصل آخر، يقول شارب، إنّ نمو هذه المؤسسات يزيد في فضاء الديمقراطية، ويتقلص في ظلّ سيطرة الأنظمة الديكتاتورية، كما أنّ على مخططي الإستراتيجية الرئيسية الإعداد مقدماً لطرائق اختتام النضال الناجح لضمان إنشاء تدريجي لنظام ديمقراطي قوي.
إلى هذا الكتاب، هناك عشرات الدراسات والأبحاث والأمثلة التاريخية من بلاد عانت من الديكتاتورية ودخلت في دوامات عنف وخرجت إلى النور في النهاية، لكن الوصول لم يكن سهلاً، واتخذت بالفعل خطوات جديةً لتعزيز السلم الأهلي والالتفات إلى التنمية وبناء البلاد بدلاً من إنتاج مشكلات جديدة. وكانت ظروف هذه الدول مشابهةً بدرجة كبيرة لسوريا، من ناحية الأزمات الاقتصادية وحكم الرجل الواحد الذي أدى بدوره إلى ديكتاتورية مجتمعية لا تقلّ قسوةً عن السياسية.
هذه الخطوات تحتاج كذلك إلى الاعتراف بالأخطاء والمجازر التي حصلت، وتقديم مرتكبيها إلى القضاء، ضمن مسار واضح وشفاف للعدالة الانتقالية، وأن يكون خيار السلطة الحالية قبل الناس، بناء سوريا فعلاً لا أن يكون الخطاب مجرّد تكرار لكلام اعتاد السوريون سماعه طوال 54 عاماً، وأن يترافق مع خطوات جدية على الأرض في هذا الاتجاه، وضمان حصر السلاح بيد الدولة لا بيد فصيل معيّن، وغيرها من التفاصيل الأخرى، وكذلك تنفيذ الوعود التي أطلقها الرئيس المؤقت، أحمد الشرع، بمحاسبة المتورطين في سفك الدم السوري.
جاءت أحداث العنف الأخيرة كرسالة واضحة بأننا على مفترق طرق، وخيارنا سيحدد مستقبلنا لعشرات السنين؛ فإما السير في طريق بناء الدولة وإما خسارة سوريا وربما إلى الأبد. ويقدّم لنا التاريخ أمثلةً واضحةً لكلا الطريقين، سواء رواندا أو لبنان والعراق، وربما خياراً ثالثاً لا يقلّ ألماً عن الأول، بتكرار نموذج إيران والانتقال من حكم ديكتاتوري إلى آخر لا يقلّ عنه توحشاً.
الظروف في سوريا اليوم، أكبر من أي سلطة مهما بلغت قوتها وإمكانياتها. البلاد مدمّرة ومتعبة وحزينة، والاقتصاد منهار والخدمات الأساسية غائبة، والبلاد بحاجة المجتمع الدولي الذي لن يقدّم خدماته مجاناً ولعيون السوريين الذي خذلهم طويلاً، والسلطة المؤقتة الحالية ستحتاج إلى السوريين كثيراً في هذا المجال.
"جاءت أحداث العنف الأخيرة كرسالة واضحة بأننا على مفترق طرق، وخيارنا سيحدد مستقبلنا لعشرات السنين؛ فإما السير في طريق بناء الدولة وإما خسارة سوريا وربما إلى الأبد"
بالعودة ثانيةً إلى السؤال الذي بدأت به المقال، حول نجاح الثورة، فالإجابة هي لا، ثورتنا لم تنجح بعد، وأعرف أنّ مئات السوريين على الأرض وفي المهجر، يؤمنون مثلي بأنّ البناء والأمل يمشيان بجانب بعضهما، خطوةً بخطوة، وأنّ الطريق طويل ويجب أن يكون صبرنا أطول منه.
والأمل لن يأتي من الشعارات، بل من العمل على الأرض، ومن الجميع ولأجل الجميع، لأجل من قُتل وشُرّد وعُذّب وهاجر وخاض البحار ليصل إلى برّ الأمان، عبر مسار واضح للعدالة الانتقالية والتشاركية وتعزيز السلم الأهلي وحوار وطني حقيقي يؤسس لعقد اجتماعي جديد بين السوريين على أساس المواطنة والمساواة والحقوق والواجبات، لا على أساس الإثنيات والطوائف، وإلا فإنّ ما شهدناه في مدن الساحل سيتكرر في كل مكان في سوريا وربما بأسرع مما هو متوقع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Zee Hilal -
منذ 18 ساعةAlso you have ZERO presence on social media or any search I have done. Are you real? Who is the...
Zee Hilal -
منذ 20 ساعةI was dating a gf who was Irish for 8 years and she was an alcoholic. Seriously why are you...
Zee Hilal -
منذ 20 ساعةLOVE is the reason we incarnate. Don't blame me because some low income people who are stuck are...
Zee Hilal -
منذ 20 ساعةYour druze! You should be ashamed of yourself! Oh. Your going to hear about this when we are...
Zee Hilal -
منذ 20 ساعةDon't blame the druze faith when people don't know what it is. If you want to marry someone like...
Zee Hilal -
منذ 20 ساعةI'm american druze and it seems like your a full of bullshit, but I empathize with your concerns....