ما الذي يجري في الساحل السوري اليوم؟ سؤال ينقسم حوله السوريون بشكل جذري، انقساماً غير عابر ولا مفاجئ. الواقع المعيش في سوريا منذ عقود، يؤشر على أنّ المجتمع لم يكن لا قبل الثورة، ولا في أيامها الأولى وما تلاها، بعيداً عن شعور فئات بغلبة فئات أخرى عليها، مع ما يعنيه ذلك من بروز إحساس بالغبن، تصاعد شيئاً فشيئاً، واتّسع معه الشرخ الطائفي أكثر من أيّ أمر آخر.
فالثورة التي انطلقت وحملت شعار "واحد واحد واحد، الشعب السوري واحد"، لم تستطع أن تنفي ولا أن تُلغي واقع أنّ الغلبة لن تستجلب سوى محاولات لكسرها، انتقاماً لسنوات البؤس السابقة التي عاشتها "الطائفة المغبونة".
لعلّ كثيرين لم يقصدوا من خلال ممارسة الرقابة المسبقة على من يتحدث عن السلطة الجديدة، أن يكونوا قمعيين.
الواقع الجديد الذي فرض نفسه في 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أي بعد سقوط نظام بشار الأسد، فتح الباب أمام كثير من التساؤلات التي قيل لمن يطرحها آنذاك، إنه يستعجل الحكم، وعليه أن ينتظر ويرى، قبل أن يُصدر "أحكامه المسبقة". وعليه، كان جوٌ يمنع التفكير بما هو آت أو توقع المستقبل، سائداً، تأسيساً على تاريخ السلطة الجديدة وممارساتها في سنوات الحرب الممتدة، وفي مناطق مختلفة ومتنوعة من "القطر السوري".
لعلّ كثيرين لم يقصدوا من خلال ممارسة الرقابة المسبقة على من يتحدث عن السلطة الجديدة، أن يكونوا قمعيين. كثرٌ منهم اعتقدوا وما زالوا يعتقدون، أو اعتقدوا وغيّروا رأيهم، أنّ التغيير الذي طرأ على المجموعات التي أسقطت النظام، وعلى قائدها، تُبشّر بالخير، خاصةً حين رأوا أنّ التعامل الذي ساد بعد سقوط النظام وفلوله، تعامل غريب على هذه المجموعات، وأنّ مغريات السلطة غيّرت من تفكير غالبيتهم بحقّ أبناء الطائفة التي كانت غالبةً، وتحديداً أبناء الطائفة التي كانت لها الغلبة.
في المرحلة التي سبقت الأحداث الأخيرة وتلت سقوط النظام، لم تقُم السلطة الجديدة بأيّ مجهود جدّي لضمان انتقال سلس، نحو مرحلة جديدة تعكس شعارات "سوريا لكل أبنائها". شغلت هذه السلطة نفسها بالتفكير في كيفية تثبيت حكم رأس الهرم
مؤشرات واقع اليوم لم تبدأ مع كمين "فلول النظام" الذي هو استمرار وإمعان بالتمسّك وهو ما عليه اعتاد عليه النظام السابق وأزلامه. السلطة الجديدة في دمشق، ومنذ أيامها الأولى، تعاملت بشيء من الإنكار مع واقع أنها مسؤولة عن السوريين، كل السوريين. في خطابها الظاهر، كان هناك الكثير من الحديث عن وحدة سوريا، وسوريا التي لأبنائها كلهم. في الممارسة، لم يكن شيء من هذا الكلام، من تشكيل الحكومة إلى المؤتمر الوطني إلى بعض التشكيلات التي عمدت من خلالها إلى تكريس غلبة جديدة. فما جرى يؤسس في أحسن الأحوال لنزعة انتقامية من شرائح كثيرة خسرت سطوتها حين تركها الأسد تواجه مصيرها منفردةً، بعد أن كرّس، غصباً عن أبنائها، أو عن غالبيتهم، فكرة أنها مسؤولة بشكل جماعي عمّا حصل لسوريين آخرين خلال السنوات الماضية.
في المرحلة التي سبقت الأحداث الأخيرة وتلت سقوط النظام، لم تقُم السلطة الجديدة بأيّ مجهود جدّي لضمان انتقال سلس، نحو مرحلة جديدة تعكس شعارات "سوريا لكل أبنائها". شغلت هذه السلطة نفسها بالتفكير في كيفية تثبيت حكم رأس الهرم، معتقدةً أنّ الإشارات السياسية لدول إقليمية وخارجية كانت منغمسةً في الواقع السوري، تكفي لضمان هدوء المرحلة، وأنّ العدالة بإمكانها أن تتأخر لسنوات، هذا إذا كانت هناك نية لتحقيق العدالة وجبر الضرر. وتُركت لفلول النظام مساحة ليُعيدوا تشكيل أنفسهم مع السلطة الجديدة التي راحت تهادنهم، وتُرسل إليهم إشارات متعددةً بأنّ مصالحهم مضمونة ولو بأشكال مختلفة.
فوق ذلك كله، لم يُحسب أي حساب لما يُمكن أن يجري في هذه الفترة. أمراء الحرب الذين خسروا مواقعهم، لن يعودوا إلى بيوتهم، لينتظروا أن يأتي الوقت الذي سيُحاسَبون فيه على أفعالهم بحقّ السوريين. وفي الوقت نفسه، من أمسك بالسلطة وقع في فخّ التعامي. ولعلّ هذا الأمر مُرتبط بشكل جذري بطبيعة هذه السلطة الآتية من مجموعات غالبيتها طائفية وبعضها أساساً غير سوري، اعتادت القتال تحت مسميات مختلفة، وتنظر إلى الطوائف الأخرى بشكل لا ينسجم أبداً مع شعار "سوريا لكل أبنائها". ظهر هذا جلياً في الخطاب الطائفي الذي رافق ويرافق القتال والقتل العمد، في مدن وبلدات الساحل السوري، الذي ينتمي غالبية سكّانه إلى الطائفية العلوية.
تأجّل النقاش حول السلطة الجديدة، أو مُنع، بطريقة أو بأخرى، واليوم يُفتح الباب على نقاش فوق حمام من الدمّ. ولكنه في أحسن الأحوال ليس نقاشاً. فهناك فئات كثيرة تتعرض للظلم والقتل لانتمائها إلى الطائفة المهزومة فحسب. وحتى لو كانت هذه الفئات معارضةً للنظام السابق، وهو ما حصل فعلياً. وهناك فئات أخرى تقول بحرمة الدمّ السوري، وتحديداً الأبرياء منهم، وتستنكر عمليات الانتقام الجماعي التي تحصل.
ما يحصل في الساحل السوري ليس مجرّد ردّ على كمين لفلول النظام. ما يحصل فعل انتقام وتصفية على أساس طائفي، يجعل مسار العدالة أبعد ما يكون عن السلطة الجديدة، ويفتح الباب أمام فوضى تشارك فيها أطراف ودول كثيرة
كما هناك، من بين فئات أخرى مختلفة عن كُل ما سبق، من تحوّلوا ليصيروا يد السلطة الجديدة وجمهورها الذي يطالبها بأن تضرب بيد من حديد ونار، و"تقتل من قتلها" سابقاً، حتى لو سقط في الطريق ضحايا كُثر لا ذنب لهم في كل ما حصل ويحصل.
المشهد الفاصل بين 8 كانون الأول/ ديسمبر الماضي، والخميس المنصرم، رسم حدود المسؤولية لكلّ طرف -وأول الأطراف هذه السلطة الجديدة- في ما وصلت إليه "سوريا الجديدة"، التي لا تملك الحد الأدنى من القدرة على تحقيق العدالة الانتقالية، لا معنوياً ولا مادياً. ويقع الجزء الأكبر من المسؤولية عليها، لأنها "السلطة الشرعية"، التي قالت إنها "لكلّ السوريين"، وهو ما لم يتحقق، ولا يبدو أنه سيتحقق في المديين القريب والمتوسط، لأنّها تمارس أو تسمح بممارسة الغلبة لطائفة كانت مغبونةً، وصارت اليوم في موقع المنتقِم لا الناظم لمستقبل أقلّ حقداً وبؤساً مما كان عليه الواقع أيام حكم "البعث".
ما يحصل في الساحل السوري ليس مجرّد ردّ على كمين لفلول النظام. ما يحصل فعل انتقام وتصفية على أساس طائفي، يجعل مسار العدالة أبعد ما يكون عن السلطة الجديدة، ويفتح الباب أمام فوضى تشارك فيها أطراف ودول كثيرة، ولن يكون للسوريين دور فيها ولا في تقرير مصيرهم، الذي على ما يبدو سيبقى معلّقاً حتى إشعار آخر، أو حتى التوصّل إلى اتفاق "من فوق"، مرةً جديدةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sohila Amr -
منذ يومينتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ 3 أياملن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...
Samah Al Jundi-Pfaff -
منذ 3 أيامفي اللاذقية قصص مثيرة للدهشة وللمزيد من البحث. اللاذقية مدينة القصص عير المكتشفة. شكرا
Karen Borji -
منذ 4 أيامعين الأصالة شمس الحدود كتبي واحزاني دفعتني إلى الحدود سكر وملح من انا غياب شروق عنبرة كتاب...
Cat Angel -
منذ 5 أيامفعلا المقال شد انتباهي لقراءته بالكامل، الأسلوب الساخر ذكرني بالعملاقين أحمد رجب ومحمد عفيفي....