فتحت "فتنة الساحل"، باب الأسئلة الذي تمنّى كثيرون ألا يُفتح، حول مصير الأقليات في سوريا في ظلّ حكم النظام الجديد. وبرغم وضوح جزء من الرؤية عن ضبابية المشهد التي سادت منذ أيام نتيجة تضارب الأخبار، وتأكّد ضلوع جهات مسلحة علوية أو من "الفرقة الرابعة" في إشعال فتيل الأحداث، إلا أنّ كثيرين من أبناء الطائفة المدنيين راحوا ضحايا لذلك العنف، دون أن يشاركوا في رفع السلاح في السابق أو اليوم، أو حتى يؤيدوه، بما في ذلك بعض المعارضين لنظام الأسد وعائلاتهم، كالكاتبة هنادي زحلوط، المعروفة بمواقفها المعارضة للنظام السابق، والتي تمت تصفية إخوانها الثلاثة المدنيين في الأحداث الأخيرة.
الأحداث أزهقت أرواح أكثر من 1،000 سوري، بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان. وعلى الرغم من أنّ وزارة الدفاع أعلنت أنها سيطرت على الانفلات وأنهت عملياتها، وأنها في صدد تمشيط المنطقة وملاحقة "فلول النظام" الذين اختبؤوا في الجبال، لكن لا يبدو أنّ أحداً في الساحل يشعر بأنّ الخوف انتهى بانتهاء العمليات الأمنية المكثفة، فيوم 10 آذار/ مارس وحده، شهد نزوح 1،476 عائلةً علويةً إلى القرى العلوية في لبنان، بالإضافة إلى استمرار نداءات الاستغاثة من بعض القرى العلوية بعد إعلان انتهاء العمليات، ولعلّ ما يلخّص الرعب، هو ما قاله أحدهم على مواقع التواصل: "إذا حمل علوي السلاح، هدر دمنا جميعاً".
بدأت التطورات في 6 آذار/ مارس 2025، عندما هاجمت مجموعات مسلحة مواقع عسكريةً ومدنيةً في تلك المناطق. لكن البعض يرى أنّ تزامن التصعيد مع إعلان العميد السابق في الجيش السوري، غياث دلّا، تشكيل "المجلس العسكري لتحرير سوريا"، تسبب في اتخاذ إجراءات قصوى لوضع حدّ للـ"انقلاب" على الدولة كما أسماه البعض.
لم تكد صور الأحداث وفيديوهاتها وتفاصيلها تملأ مواقع التواصل، قبل نشرات الأخبار، حتى لحقتها التحذيرات القديمة شبه الشامتة التي كان يروّج لها النظام السابق بأنه "حامي الأقليات"، على شاكلة: "لقد حذّرناكم". وهذه الأصوات ليست وحدها التي خرجت لتعلن تخوفاتها من أن تكون أسلمة الإدارة السورية الجديدة، ستأتي على حساب الأقليات، وتحديداً الطائفة العلوية التي تنتمي إليها عائلة الأسد.
من جهتها، أنكرت الحكومة التهمة السابقة، وأعلن الشرع تشكيل لجنة للتحقيق بشأنها والوقوف على الانتهاكات ومحاسبة مرتكبيها من جميع الأطراف.
خطابان غير متطابقين، بل متناقضان، خرجا في الأيام السابقة. الأول من جهة الحكومة السورية الجديدة ومن يؤيدونها، ومفاده أنّ ما حدث قمعٌ لمحاولة انفلات أمني ممن وُصفوا بـ"فلول النظام"، وأنّ الكثير من الانتهاكات بحق العلويين تمت من قبل جماعات مسلحة غير منضوية تحت لواء الحكومة. والخطاب الثاني من قبل سكان الساحل أنفسهم، من العلويين وغيرهم، ممن شاركوا صوراً وأخباراً لنعوات لا يبدو أنّ أصحابها من حملة السلاح، بالإضافة إلى فيديوهات لعناصر الأمن، وُصفت بأنها انتقامية وطائفية.
مخاوف الأقليات
خلال الحرب الأهلية السورية، اعتاد أبناء الأقليات على هوامش من الحكم الذاتي، أو لجان الحماية المحلية. لذا يبدو أنّ مخاوف هؤلاء السوريين من التهميش -الأسوأ من العنف الديني- قد تزايدت بعد المؤتمر الوطني، وثبوت أنّ الحكم في يد الأغلبية السنيّة. ويخشى أبناء هذه الطوائف اليوم، من أن يتحولوا إلى أقليات مهمشة أو مستهدفة تحت سلطة مركزية سنّية، خاصةً أنّ الطابع العام عن الإدارة الحاكمة اليوم، لا يزال مرتبطاً بالصورة التي علقت في الأذهان عنها كفصائل إسلامية مسلحة، من أفرادها وصولاً إلى رئيسها، فلم تغب بعد ذاكرة "الأعمال الإرهابية" التي ارتُكبت بحق الأقليات الدينية خلال فترة الحرب الأهلية، كالأيزيديين والعلويين والإسماعيليين.
لم تأتِ أحداث "فتنة الساحل" التي طال عنفها المدنيين وبالأخص، الأطفال والنساء، لصالح صورة الحكومة الحالية في العالم، لا سيما وأنها تطالب برفع العقوبات بما فيها التصنيفات الإرهابية.
لذا فتوجّس العلويين أكثر من غيرهم من أن يصبحوا "رعايا" لا مواطنين، في دولة قد لا تراعي خصوصياتهم في أحسن الأحوال، أو عرضةً لهجمات وإجراءات انتقامية في أسوأ الأحوال، منطقيّ إلى حد بعيد. وليسوا وحدهم من يرى ذلك، فهناك دول غربية ترفع شعار حماية الأقليات، مثل الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت أول من طالب بتحقيق شفاف لمحاسبة المنتهكين، وأعلنت عن عدم ارتياحها وقلقها من هذا التوجه لدى الإدارة السورية الجديدة. كذلك وصفت كل من بريطانيا وفرنسا، المواجهات الدامية في الساحل بين القوات الأمنية وعدد من المسلحين الموالين للرئيس السابق بشار الأسد، بأنها "مروعة" و"غير مقبولة"، مطالبتين الإدارة الحالية بـ"ضمان حماية جميع السوريين، والإسراع في البدء بإجراءات العدالة الانتقالية".
في لقاء معه، رأى الباحث في معهد الشرق الأوسط في واشنطن، أنّ "هذه الأحداث تعكس مشكلةً أعمق تتعلق بعلاقة الإدارة السورية بأجهزتها الأمنية والعسكرية، مشيراً إلى أنّ استمرار الحلول الأمنية من دون إصلاح حقيقي قد يؤدي إلى مزيد من الأزمات".
وأضاف في إشارة إلى ذهنية متوارثة: "لطالما عُدّت الأجهزة الأمنية السورية بمثابة سلطة فوق الدولة، حيث تمنح حرية التصرف دون محاسبة. إذا لم تتم إعادة هيكلة هذه المؤسسات وضبط سلوكها، فسيظلّ العنف يتكرر بأشكال مختلفة، وسيصبح أي حديث عن المصالحة مجرد شعارات بلا أثر فعلي".
الرعب الطائفي يحدق بالعلويين
يشكّل العلويون نحو 10% من سكان سوريا، ويتمركزون في محافظتَي اللاذقية وطرطوس الساحليتين، وبعد سقوط الأسد، باتت هذه الطائفة تترقب بخوف، سلوك الحكام الجدد كمقياس لما ينتظرهم: هل سيكون هناك انتقام وفوضى أو عدالة وانتقال منظّم؟
في البداية، قدّمت الإدارة السورية الجديدة، تطمينات بأنّ أحداً لن يُستهدف دون محاكمة عادلة وأدلّة إدانة، وأصدر الشرع أوامر صريحةً لمقاتليه، عند دخول مناطق العلويين كجبال اللاذقية، بمنع أي اعتداءات انتقامية، أو نهب للممتلكات، وقد أسفرت هذه السياسة المعتدلة -في البداية على الأقل- عن تجنّب أعمال عنف واسعة في الساحل.
حينها، تفاجأ الجميع بدخول قوات الإدارة الذاتية إلى مدينة اللاذقية، دون مواجهات كبيرة، كما قام وفد من قادة الفصائل بزيارة بلدة القرداحة، والتقى وجهاءها، الذين وقّعوا بياناً مشتركاً للإعلان عن "دعمهم للمسار الجديد ولسوريا حرّة وطنية"، ولإشهار تعاونهم الكامل مع "السلطات الجديدة". وتضمّن البيان تأكيداً على وحدة الأراضي السورية وتنوعها الديني والثقافي، وطالب بالإسراع في إعادة الخدمات الحكومية وحصر السلاح بيد الدولة.
هذه التحركات العلوية، لم تشفع لأبناء الطائفة من التهم الجاهزة التي توجه إليهم، نظراً إلى أنّ عائلة الأسد تنتمي إليها، مثل: "الفلول" و"التشبيح"، ولا شفع لهم وجود أسماء علوية معروفة ضمن الصفّ الأول لمعارضة النظام السابق منذ 2011، وعلى رأسهم أعضاء رابطة المعارضين العلويين "غد سوريا"، التي تأسست في العام 2015.
فما هو المطلوب اليوم من أبناء هذه الطائفة وبناتها للتطهّر من الأسدية التي اصطبغوا بها؟
المدنيون يُؤخذون بجريرة السلاح
بعض التقارير أفادت ببروز حركات تمرد علويّة معارضة للحكم الجديد في ريف اللاذقية، ما أدى إلى أعنف مواجهة أمنية منذ سقوط النظام في آذار/ مارس 2025. وصف المرصد السوري الأمر، بأنه "تمرّد ناشئ" لعناصر من الطائفة العلوية يشكّل أكبر تحدٍّ للسلطة الإسلامية الجديدة، وهو ما عدّه البعض انحيازاً لصالح الإدارة الجديدة، وتعتيماً على جزء من الرواية.
خلال الحرب الأهلية السورية، اعتاد أبناء الأقليات على هوامش من الحكم الذاتي، أو لجان الحماية المحلية. لذا يبدو أنّ توجسات هؤلاء السوريين من التهميش أو العنف الديني قد تزايدت بعد المؤتمر الوطني، وثبوت أنّ الحكم في يد الأغلبية السنيّة. لكن مخاوف العلويين تتعدّى هذه المخاوف إلى الرعب من أن يصبحوا عرضة للانتقام كطائفة لا كأشخاص، نظراً لانتماء عائلة الأسد إلى هذه الطائفة
أما رامي مخلوف، رجل الأعمال السوري، وابن خال الرئيس السابق بشار الأسد، فقد اتّهم "الفرقة الرابعة" بالتمرّد، وخاطب مخلوف، بشار الأسد، مُتسائلاً: "ألم تكتفِ أيها الرئيس الهارب بما فعلته سابقاً من تدمير البلاد، وتقسيمها، وتدمير جيشها واقتصادها، وتجويع شعبها، وفوق كل ذلك هربت بأموال لو وُزِّعت على الشعب لما كان هناك جائع ولا فقير. وأتت اليوم حاشيتك بهذه الحركة الغبية ليقضوا على ما تبقّى من الطائفة التي ضحّت بأغلى ما عندها من شباب لكيلا تسقط الدولة".
وأضاف في حديثه عن قوات الأمن الحكومية، أنّ هناك "مشاهد مرعبةً ومجازر مروعةً وذلّاً ممنهجاً، ومقاطع مصورةً يفتخرون فيها بكيف يعذبون، وكيف يذبحون، وكيف يطلقون النار من الأقدام إلى الرأس، ثم فجأةً يوقفون القتال لأداء صلاة المغرب والإفطار كونهم صائمين، ثم يستأنفون"، و"عوائل بأكملها أُبيدت مع نسائها وأطفالها، حتى وصل العدد إلى ما يقارب 6،000 شهيد وأكثر من 13،000 جريح، وبعد كل هذا التعذيب والقتل، تُترك الجثث في الشوارع ويُمنع دفنها! (أليس إكرام الميت دفنه؟)".
وأيًاً كانت الرواية، يشعر كثير من العلويين بالقلق من تحولهم إلى ضحايا تصفيات أو إجراءات إقصائية، ومن أن يتعرضوا لـ"انتقام بالنيابة" عن عائلة الأسد، ومن والاها من أبناء الطائفة، حتى مع إعلان الشرع تشكيل لجنة تحقيق في الانتهاكات.
من يحمي العلويين اليوم؟
بالنسبة إلى الداعمين الخارجيين للعلويين، فقد خسروا حليفهم الرئيس بسقوط الأسد، لكن لم يُتركوا تماماً لمصيرهم. فبحسب تقارير، القوى التي ساندت النظام سابقاً (روسيا وإيران)، لا تزال تحتفظ بأوراق نفوذ في الساحل. روسيا على وجه الخصوص لها وجود عسكري مباشر عبر قاعدة حميميم الجوية في اللاذقية، ومرفأ طرطوس البحري. وبعد تبدّل المشهد في دمشق، فتحت موسكو قنوات تواصل مع قادة هيئة تحرير الشام، لضمان استمرار وصولها إلى تلك القواعد الحيوية، وذكرت تقارير أنّ الروس توصلوا إلى تفاهم مبدئي مع السلطات الجديدة يقضي باستمرار عمل قاعدة حميميم وميناء طرطوس، مقابل تعهّد روسيا بلجم أي تحركات انفصالية علوية، ودفع العلويين نحو الاندماج.
عقب "فتنة الساحل"، دعت الخارجية الروسية، علانيةً، القيادات السورية كافة إلى وقف إراقة الدم في الساحل، وتالياً يمكن القول إنّ روسيا لا تزال تلعب دور "حامي" العلويين من خلال منع التصعيد ضدهم، والسعي إلى إدماجهم سلمياً، لأنها تعدّ استقرار الساحل ضرورياً لحماية مصالحها العسكرية هناك.
أما إيران، فدعمها للعلويين أكثر تعقيداً. فبينما تربط العلويين بإيران رابطة عقائدية ضعيفة (العلويون فرقة مميزة عن الشيعة الاثني عشرية)، جمعتهم بها مصلحة سياسية خلال حكم الأسد. وبعد سقوطه، أعلنت طهران معارضتها لأي عنف يستهدف "السوريين الأبرياء من كل المجموعات"، دون تخصيص، ما قد يُفهم على أنه حذر في تبنّي موقف صارخ، لئلا تعرقل تقاربها الجاري مع تركيا وقطر مثلاً.
غير أنّ تقارير استخباريةً غربيةً، حذّرت من مساعي إيران لإبقاء شبكات نفوذ سرّية في أوساط العلويين، عبر عناصر من حزب الله وفيلق القدس، ربما تعمل على تنظيم خلايا مسلحة مما تبقّى من الشبيحة والقوات الموالية للأسد. هذه الخلايا قد تُستخدم كورقة ضغط إذا همّشت الحكومة الجديدة العلويين تماماً.
كذلك تشير معلومات إلى وجود بعض أقارب الأسد وكبار الضباط السابقين في إيران أو لبنان، حيث قد يشكّلون نواة معارضة من الخارج بتمويل ودعم إيرانيين إذا ساءت أوضاع الساحل أكثر. بيد أنّ الدول الغربية والإقليمية تراقب ذلك عن كثب، وقد حذرت واشنطن وتل أبيب من أنه لن يُسمح لإيران بتحويل الساحل إلى بؤرة توتر جديدة.
من جهة أخرى، إسرائيل وإن كانت عدوّاً للنظام السابق، إلا أنها تفضل اليوم بقاء العلويين ضمن دولة سورية مستقرّة، على أن يتحولوا إلى ميليشيا طائفية مدعومة إيرانياً على غرار حزب الله. لذا لا تمانع تل أبيب استمرار النفوذ الروسي في الساحل لأنه يكبح إيران، حيث ساءت علاقة الحليفتين بشكل علني في السنوات الأخيرة من حكم الأسد.
أشارت الأحداث بوضوح إلى أن سيناريو التقسيم الذي نسمع عنه كثيراً مؤخراً، لن يكون بهذه السهولة، وأن تعامل الحكومة الحالية معه سيكون بمنتهى الحزم والقسوة.
وبالطبع، أبدت فرنسا اهتماماً بمتابعة أوضاع العلويين الإنسانية. وظهرت دعوات في الإعلام الفرنسي إلى عدم "ترك العلويين لمصيرٍ قاسٍ"، وضرورة إشراكهم في أي مصالحة وطنية، على غرار ما جرى مع الكاثوليك في العراق، بعد 2003.
سيناريوهات الساحل… أيّها أقرب؟
تتقاطع السيناريوهات مع مصير سوريا عموماً. أحدها سيناريو التقسيم، أي إقامة كيان علوي مستقلّ في الجبال الساحلية. هذا الطرح كان متداولاً على استحياء منذ بدء الثورة، بل إنّ الأسد نفسه، هدد ضمنياً في أوقات ضعفه، بالانسحاب إلى "دولة مفيدة" في الساحل، إذا سقطت دمشق. اليوم، وبعد سقوطه فعلياً، عاد الحديث بقوّة عن إمكانية تمترس القوى العلوية في ملاذ أخير في جبال اللاذقية وطرطوس، خاصةً إن تعمّقت الهوّة مع الحكم الجديد.
مثل هذا الكيان سيضمّ معظم التجمّع السكاني العلوي، وقد يشمل أيضاً مدن الساحل الرئيسة. مقوماته ستكون وجود منفذ بحري (ميناء اللاذقية وطرطوس)، يتيح التواصل مع العالم الخارجي، بالإضافة إلى دعم محتمل من روسيا وإيران الراغبتين في الاحتفاظ بنفوذ عبره.
لكن الأمور ليست بهذه البساطة، فمعوقات هذا السيناريو عديدة، أولها الرفض المحلي من كثير من العلويين أنفسهم لأي مشروع انفصالي قد يجعلهم في عزلة دولية، ويحوّل منطقتهم إلى ساحة حرب مستدامة. كذلك سترفض تركيا قطعاً قيام دولة علوية موالية لإيران على حدودها الجنوبية، وسيعارضها السنّة السوريون باعتبارها اقتطاعاً لأرض وطنهم.
والأهمّ من كل ما سبق، أنّ الاشتباكات الدامية التي عاشها الساحل في الأيام السابقة، تقول بوضوح إنّ خيار الدولة العلوية المنفصلة سيواجَه بحزم عسكري من دمشق الجديدة، وبناءً على ردود الفعل العربية والدولية سيواجَه برفض إقليمي أيضاً.
خيار آخر أقلّ حدّةً هو الكونفدرالية الأمنية، بحيث يبقى الساحل تحت سيطرة دمشق رسمياً لكن عملياً تدار مناطقه العلوية ذات الحساسية، بترتيبات خاصة، مثل أن يكون هناك حكم ذاتي محلي موسّع للاذقية وطرطوس، واتفاق أمني يكفل لروسيا والإيرانيين نوعاً من الإشراف (كضمانة)، مقابل عدم تمرّد العلويين. هذا السيناريو يندرج ضمن نموذج التقسيم الناعم، حيث تتحول سوريا إلى مناطق نفوذ: تركيا ترعى السنّة في إدلب وحلب، وأمريكا ترعى الأكراد شرقاً، وروسيا ترعى العلويين غرباً. وقد وصف "مركز أبحاث إستراتيجيكس"، في دراسة له، هذا الأمر بـ"النموذج الكونفدرالي الأمني" الذي يقسّم البلاد جغرافياً وفق الولاءات.
وبحسب المركز، فإنّ هذا الترتيب إن حصل، فسيكون مرحلياً وغير مستقرّ، لأنه عملياً يعني تجميد الصراع لا حلّه بشكل دائم، وهو في الغالب سيؤسس لمواجهة أطراف خارجية على الأرض السورية.
لذا يبقى أفضل السيناريوهات للعلويين، نجاح الانتقال إلى دولة وطنية ديمقراطية تضمن حقوق الجميع بلا تمييز. في هذه الحالة، سيشارك العلويون كمواطنين في الجيش والبرلمان والحكومة وفق الكفاءة والانتخابات، ويستفيدون من إعادة الإعمار شأنهم شأن باقي السوريين.
التطهّر من "الأسدية"
ارتبط اسم الطائفة العلوية بنظام الأسد على مدى خمسين عاماً، لكن هذا لم يمنع أنهم تعرضوا لكثير مما تعرّض له السوريون، من اضطهاد وقمع وإفقار، لذا كان سقوط النظام حدثاً مفصلياً قلب موازين السلطة في مناطقهم.
مطالب العلويين بعد الأسد، تنطلق أولاً من الهواجس الأمنية والمعيشية. فهم يطالبون بضمانات واضحة بألا يتعرضوا لأي أعمال انتقامية أو تمييز سلبي بسبب ارتباط طائفتهم بالنظام السابق. كما يرغبون في الاحتفاظ بدور ما في مؤسسات الدولة لضمان عدم إقصائهم تماماً من المشهد الجديد.
جانب آخر مهم؛ المطالب الاقتصادية للعلويين. فبرغم الصورة الشائعة عن تمتّع الساحل بامتيازات خلال حكم الأسد، إلا أنّ الكثير من جيوب الفقر تقع هناك، وبحسب تقرير لرويترز، تُعدّ منطقة جبال العلويين من أفقر مناطق سوريا، برغم كونها خزّاناً بشرياً لجيشها، فقد فقدت آلاف الأسر أبناءها في الحرب وتحمّل المجتمع هناك أعباء كبيرةً، حيث لم تخلُ بلدة علوية من جنازات قتلى خلال سنوات القتال.
يتطلع السكان إلى تحسين أوضاعهم المعيشية، كحال بقية السوريين. من ذلك مثلاً إعادة تشغيل مصفاة بانياس، ومصانع الإسمنت والمعامل التي توقفت أو تقلص إنتاجها بسبب الحرب والفساد، ما يمكن أن يوفر فرص عمل لأبناء المنطقة. كذلك يطالب المزارعون بدعم زراعتهم التقليدية، كالحمضيات والزيتون والتبغ، وتوفير أسواق لتصريف منتجاتهم التي كسدت في أثناء الحرب.
اتّهم رامي مخلوف، رجل الأعمال وابن خال بشار الأسد، "الفرقة الرابعة" بالتمرّد، وخاطب بشار الأسد، مُتسائلاً: "ألم تكتفِ أيها الرئيس الهارب بما فعلته سابقاً من تدمير البلاد، وتقسيمها، وتدمير جيشها واقتصادها، وتجويع شعبها، وفوق كل ذلك هربت بأموال لو وُزِّعت على الشعب لما كان هناك جائع ولا فقير. وأتت اليوم حاشيتك بهذه الحركة الغبية ليقضوا على ما تبقّى من الطائفة التي ضحّت بأغلى ما عندها من شباب لكيلا تسقط الدولة".
كما أنّ صيادي الأسماك في مدن الساحل ينتظرون إعادة تأهيل المرافئ الصغيرة وتزويدهم بمعدات حديثة بعد أن تضرر قطاع الصيد، أي أنّ العلويين يريدون نصيبهم من إعادة الإعمار والتنمية، خاصةً أنّ الساحل احتضن أيضاً مئات آلاف النازحين من المحافظات الأخرى، خلال الحرب، ما شكّل ضغطاً إضافياً على موارده المحدودة.
هذا في ما يخص المطالب الاقتصادية، أما على صعيد المخاوف العلوية، فقد سبق ذكر الهاجس الأمني المتعلق بالانتقام، لكنه ليس الوحيد. فهناك تخوّف عميق من فقدان الهوية، كما توجد هواجس دينية وثقافية ضمنية؛ فالعقلية السلفية التي يحملها بعض المنتصرين تثير قلق العلويين على حريتهم في ممارسة شعائرهم العلوية الباطنية التي تكتموا عليها لعقود. فإذا قام حكم إسلامي متشدّد، قد يجد العلويون أنفسهم عرضةً للتكفير أو الاضطهاد الديني.
لذا يطالب العلويون بأن ينصّ الدستور المقبل بوضوح على علمانية الدولة ومنع التمييز الطائفي، لضمان مساواتهم الكاملة في المواطنة. كذلك برز تطلع لدى نخب علوية شابة إلى إعادة الاندماج في الوطن عبر الانخراط في الأحزاب السياسية الجديدة، وعدم البقاء في عزلة طائفتهم. ويسعى هؤلاء للتأكيد على أنهم ليسوا كتلةً متجانسةً تابعةً للنظام السابق، بل لديهم تنوع سياسي وفكري، وهم مستعدون للمشاركة بإخلاص في بناء سوريا الجديدة. وأبرز تخوف علوي، يمكن تلخيصه بعبارة أحد الوجهاء في القرداحة: "نريد ضمان ألا يحمّلنا أحد وزر النظام السابق لأننا أيضاً عانينا وضحّينا".
الموارد الاقتصادية في الساحل السوري
يُعدّ الساحل السوري من المناطق الغنية بالموارد، بالإضافة إلى موقعه الإستراتيجي الذي يجعل منه رئة سوريا على المتوسط، فميناء طرطوس خصوصاً منشأة إستراتيجية تدرّ أرباحاً عبر حركة التجارة وتعاونيات الصيد، وهو مؤجّر جزئياً لروسيا حتى 2060، ما يضمن تدفّق بعض العوائد.
كذلك توجد في بانياس، مصفاة نفط قديمة كانت تكرر غالبية النفط السوري قبل الحرب. حالياً، تعمل المصفاة بطاقة منخفضة بسبب نقص النفط الخام، لكن إذا استقرّ الوضع يمكن أن تعود لدورها خاصةً مع احتمال استيراد النفط عبر البحر.
أيضاً يستفيد الساحل من معامل الأسمدة والإسمنت ومحطات توليد الكهرباء التي تقع فيه، والتي تؤمّن الطاقة لمناطق واسعة. بالإضافة إلى ذلك، يشتهر الساحل بزراعة الحمضيات (البرتقال والليمون)، والتفاح والزيتون والتبغ، إلى جانب الثروة السمكية. هذه القطاعات تؤمّن لقمة العيش لشريحة كبيرة من السكان.
وهناك احتمال وجود ثروات طبيعية غير مستغلّة، حيث أشارت دراسات قبل الحرب، إلى وجود حقول غاز قبالة الساحل السوري في البحر المتوسط (امتداد للحقول المكتشفة في مياه لبنان وقبرص). وبالفعل وقّع النظام السابق عقود تنقيب بحرية مع شركات روسية، لكن تعذّر التنفيذ.
وفي حال استقرار الأوضاع، قد يُستأنف التنقيب البحري ويجد العلويون أنفسهم جالسين على احتياطيات غازية مهمة قد تغير اقتصاد المنطقة. أيضاً السياحة مورد واعد؛ فمدينتان كطرطوس واللاذقية، كانتا مقصداً سياحياً محلياً (شواطئ ومنتجعات)، قبل 2011، وبالقرب منهما تقع مواقع أثرية (كقلعة صلاح الدين وأوغاريت ومصياف)، وإعادة تأهيل البنية التحتية السياحية يمكن أن تنعش الاقتصاد وتوفر وظائف جديدةً.
لكن في المدى القريب، إعادة الإعمار هي الفرصة الأهم: المناطق العلوية شهدت دماراً أقلّ نسبياً من غيرها، ما يؤهلها سريعاً لاستقبال مشاريع إعادة بناء تستفيد من موانئها وموقعها الآمن. ومشاركة أهالي المنطقة في هذه المشاريع، ستدرّ عليهم دخلاً وتنعش أسواقهم. المشكلة تكمن في الفقر المستشري في ريف الجبل، وازدحام الساحل بآلاف العائلات النازحة من إدلب وغيرها، ما يخلق تحدياً تنموياً مركّباً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sohila Amr -
منذ يومينتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ 3 أياملن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...
Samah Al Jundi-Pfaff -
منذ 3 أيامفي اللاذقية قصص مثيرة للدهشة وللمزيد من البحث. اللاذقية مدينة القصص عير المكتشفة. شكرا
Karen Borji -
منذ 4 أيامعين الأصالة شمس الحدود كتبي واحزاني دفعتني إلى الحدود سكر وملح من انا غياب شروق عنبرة كتاب...
Cat Angel -
منذ 5 أيامفعلا المقال شد انتباهي لقراءته بالكامل، الأسلوب الساخر ذكرني بالعملاقين أحمد رجب ومحمد عفيفي....