قبل رحيل أمي بأيام، تذكرت صورةً لها، فبحثت عنها في ألبوم صور العائلة. كانت الصورة التي التقتطها من أجل البطاقة الانتخابية، البطاقة التي رحلت أمّي دون أن تستخدمها. صورة بالأبيض والأسود، كحيلة العين فيها، ويظهر شعرها الأسود في مقدمة رأسها تحت حجابها الكردي التقليدي. كانت لا تزال شابةً، هذه الصورة التي أحبّها لأمّي.

آخر مرة تكلمت فيها معها، كانت يوم سقوط النظام في سوريا. كانت تضحك وتبكي في آنٍ واحد: "الله يرحمو أبوكي... ما شاف هاليوم". أعرف تماماً ما تعنيه هذه المشاعر لها، هي التي أمضت، كما الكثير من النساء السوريات، عمراً من الخوف على زوجها من خطر المخابرات والاعتقال، وعمراً من الشقاء والتعتير بعد أن فُصل والدي من وظيفته الحكومية: "يلّا ارجعي ما ضلّ شي بالبلد تخافوا منّو".
بعد يومين من هذه المكالمة، التقيت بأمّي. كانت طريحة الفراش في المشفى، في غيبوبة تامة، وبلا غطاء رأسها. كان شعرها قصيراً وأبيض. لم أرَه هكذا من قبل. كانت تشبهني. لوهلة أحسست أنها صورتي على الفراش.
آخر مرة تكلمت فيها معها، كانت يوم سقوط النظام في سوريا. كانت تضحك وتبكي في آنٍ واحد: "الله يرحمو أبوكي... ما شاف هاليوم". أعرف تماماً ما تعنيه هذه المشاعر لها، هي التي أمضت، كما الكثير من النساء السوريات، عمراً من الخوف على زوجها من خطر المخابرات والاعتقال
حينها بدأت بالبحث عن صور أخرى لأمّي، صور لم تكن أمّي تشبهني فيها. لم أرغب يوماً في أن أشبهها. لطالما أحببت بساطة أمّي، ومرونتها في الحياة. في زمن لم تتملك فيه النساء فرص التمكين وبناء القدرات، تحولت أمّي في الرابعة من عمرها، إلى أمّ لثلاثة أخوة بعد أن فقدت والدتها، ليصبحن لاحقاً أربعة عشر بعد أن توقفت زوجة أبيها "خالتها"، عن الإنجاب. تزوجت والدي الأرمل، وببساطتها تعاملت مع كل أزماته العائلية. أحببت أمي في صورها هذه، ولكني خشيت من صورتها الأخيرة.
سابقاً، كانت لأمي ضفيرتان جميلتان، حرصت على صبغهما بالحنّاء وتشذيبهما. كانت بعد كل حمام تجلس على باب المطبخ من ناحية البلكونة، تمشّط شعرها لتملأ المنزل برائحة الحنّاء، وبعد التمشيط تفرق شعرها من المنتصف، لتعقد على كل جنب ضفيرةً سوداء قرمزيةً، تتعمد أحياناً إظهارهما من أسفل ملفحها، لتتباهى بطولهما وبريق لونهما.
كانت لأمّي رائحة المطبخ، رائحة الكبّة الكردية "kutilk". كانت طباخةً ماهرةً للأكلات الشعبية التي لا تجيدها "نسوان هاي الأيام"، حسب قولها.
لم تحنّي أمي شعرها منذ رحيل أبي، كعادة النساء الحزينات في بلادي، وفقدت ضفيرتيها في رحلة علاجها مع السرطان. عاد إليها المرض في العام الذي تلا رحيل والدي، بعد أن كان قد اختفى تماماً من جسدها في فترة مرض والدي. ربما استجاب الله لدعاء أبي. كان يقول لها دوماً: "إن شاء الله يكون يومي قبل يومك، وإذا مرضت ما حدا غيرك يداويني". عاد السرطان إلى أمّي بعد رحيل أبي. قال الأطباء إنّ المرض عاد بسبب حزن شديد.
كانت لأمّي رائحة المطبخ، رائحة الكبّة الكردية "kutilk". كانت طباخةً ماهرةً للأكلات الشعبية التي لا تجيدها "نسوان هاي الأيام"، حسب قولها. اعتمدت عليها في الطبخ، ونسيت أني سأفتقد طبخها يوماً. في الغربة، كنت كلما اشتهيت "طبخ أمي" أتصل بها وأسألها عن الطريقة، ولكن كعادة الطهاة المهرة لا تجيد أمي تلقين أو تعليم وصفاتها. مرات عديدة استخدمت مقاديرها من التوابل، واتبعت خطواتها، ولكن لم أحظَ بنكهة أمي. كنت أتصل بها خائبةً بعد كل محاولة، فتقول لي: "يلا بس تجي بطبخلك ياها".
لم تجمعني بأمي تلك العلاقة العاطفية التي تجمع الفتيات عادةً بأمهاتهنّ، فلا عناق كما يجب، ولا غنج ولا دلال. كانت نموذجاً للمثل القائل: "فاقد الشيء لا يعطيه". لم تلقَ أمي من الحنان الكثير في بيئتها القروية التي تربّت فيها، حيث العمل الشاقّ في ظلّ غياب شبه تام لحقوق النساء، تلك الحقوق التي تعرفت عليها وأحبّتها لدي، وشجعتني على المضي قدماً في كل مرة شاركتها فيها ضعفي. كنت أقضي الساعات وأنا أحدّثها عن عملي، عن ورشات تمكين النساء وحقوقهنّ. كنت مدركةً أنها لا تفهم الكثير من الذي أحدّثها عنه، ولكنها لقنتني درساً عظيماً في العمل المدني: "التغيير يبدأ من دوائرنا الضيقة". لم تكن في البداية مقتنعةً بما أقوم به، ولكن لاحقاً توقفت عن نخر رأسي بسيرة الزواج وضرورته في كل مرة سمعت فيها عن زواج إحدى فتيات العائلة.
لم تُجِد أمي من اللغات سوى لغتها الأمّ "الكردية"، ومفردات بسيطة من اللهجة الشاوية. مفردات لم تكن كافيةً لبناء عملية تواصل حقيقية مع محيطها العربي والأشوري في حيّنا في مدينة الحسكة، ولكنها وبشكل عجيب كانت تمضي الساعات مع جارتنا العربية، تشاركها متاعب هذه الحياة. تحدّثها أمّي بالكردية فتردّ عليها جارتنا "ترفة"، بلهجتها الشاوية، في صورة من أبهى صور السلم الأهلي التي نبحث عنها في سوريا اليوم.
لم تُجِد أمي من اللغات سوى لغتها الأمّ "الكردية"، ومفردات بسيطة من اللهجة الشاوية. مفردات لم تكن كافيةً لبناء عملية تواصل حقيقية مع محيطها العربي والأشوري في حيّنا في مدينة الحسكة، ولكنها وبشكل عجيب كانت تمضي الساعات مع جارتنا العربية، تشاركها متاعب هذه الحياة
كانت أمي الأمّية عظيمةً في الصياغة، تعرف كيف تنمّق أخطائي بالمبررات، وهي تخبر أبي بها. تجيد مدحي والافتخار بي أمام أفراد العائلة، وكأنها تقول لهم: "هاي تربايتي". تشمّ أعناق أصدقائي وصديقاتي في زياراتهم/ نّ لها في غيابي، وتقول: "إنتو من ريحة الغالية".
كانت صديقةً خفيفة الظلّ، وكان يجمعنا الكثير من المزاح والمصارحات التي كانت تزعجها أحياناً، معتقدةً أنها تتجاوز حدود الحرية التي منحتني إياها، وتعجبها مرات أخرى، فتعلو ضحكتها الرنانة. كانت مشهورةً بضحكتها "dev li ken bu"، وتعني بالكردية ذات الثغر الضاحك.
هل سمعتم ضحكة أمّي يوماً؟!
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Sohila Amr -
منذ يومينتعود من جديد شعلة ثورة في نفوس، وكأنها لعنة كلما كذبنا وقلنا انها صدفة او خدعة اصبنا بها ولكن لقد...
Yusuf Ali -
منذ 3 أياملن أعلق على كل كلامكِ والكثير من المغالطات التي وردت، وسأكتفي بالتعليق على خاتمتكِ فقط:
قلتِ:...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامThis media body is clearly within the circles of the Makhzen. Otherwise, it would not have been...
Samah Al Jundi-Pfaff -
منذ 3 أيامفي اللاذقية قصص مثيرة للدهشة وللمزيد من البحث. اللاذقية مدينة القصص عير المكتشفة. شكرا
Karen Borji -
منذ 4 أيامعين الأصالة شمس الحدود كتبي واحزاني دفعتني إلى الحدود سكر وملح من انا غياب شروق عنبرة كتاب...
Cat Angel -
منذ 5 أيامفعلا المقال شد انتباهي لقراءته بالكامل، الأسلوب الساخر ذكرني بالعملاقين أحمد رجب ومحمد عفيفي....