أعجن اللغة يومياً مع خميرة الخيال وفانيليا الحنين، لأنضج نصّاً مزركشاً مبهجاً، مثل فطائر الصّاج التي كانت ترسمها أمّي في الصباحات الهانئة قبل رحيلها، وأخبز الكلمات كما أشتهي كي لا أصاب بوجعٍ في المخيّلة، بل خشية أن تصاب ذاكرتي بنزلة بشاعةٍ قاتلة، أو بنقصٍ حادّ في فيتامينات الجمال وكالسيوم التفاؤل.
كانت أمّي تصنع "أكلة فطاير على الصاج" بمقادير موزونةٍ برهافة شاعرة، ومع الكثير من عجينة الاشتهاء، وخميرة المحبة الصافية، وبهارات الضحك الخرافيّ الذي ينتابنا ونحن نتقافز حولها، مثل عنزاتٍ صغيراتٍ، معتقدين بأننا نساعدها حين نرشّ القليل من الملح على العجين بين يديها، أو حين نسكب من كوز الماء قطراتٍ تجعل أقراص العجين تصبح كأنها طينٌ بين يديّ الخالق.
كانت أمّي (الشيف أم جواد) سليلة جدّاتها السوريات، الإلهة "عشيرا" وابنتيها (عشتار وعناة) تخبز بيديها صباحاتي، وتنقش على روحي حبّات البركة والشّمر واليانسون.
نعم، لقد كانت أمّي (الشيف أم جواد) سليلة جدّاتها السوريات، الإلهة "عشيرا" وابنتيها (عشتار وعناة) تخبز بيديها صباحاتي، وتنقش على روحي حبّات البركة والشّمر واليانسون. هي فعلاً وارثة جينات الأمومة الإلهية، وجينات النساء اللواتي قضين أعمارهنّ، ليس بين شحّار مواقد المطبخ، بل في مختبراتهنّ المطبخية، حيث شكّلن بالتذوّق والتجارب والتكرارات، وحتى بالإخفاقات، أطباق الطعام السحرية التي نسميّها اليوم: تراثاً أو فولكلوراً أو أعاجيب تلك الأزمنة العتيقة!
وحين نقول "عتيقة" يطالعنا في السرديات الآثاريّة السورية كيف كانت نساء "مملكة ماري (1800 قبل الميلاد) يستخدمن قوالب الطين المشوي (الفخار) لصنع الألبان والأجبان وتخمير العجين وصنع الحلويات في مآدب المملكة الكبرى".
لعلها المصادفات القدرية الجميلة إذن، أو ربما هي طباقٌ حياتيٌّ سرّيٌّ بين قوالب المعجنات التي تستخدمها أمّي، وتلك القوالب المكتشفة في "تل حريري ماري القديمة"، لأن رسوماتها ونقوشها الدائرية تتطابق بشكلٍ ساحر، مكوّنةً سبع دوائر، أو رموزاً حيوانية مثل أسماك أو غزلان، أو حتى نقوشاً غامضة تشبه دعسات أرجل الدجاج، أي ما أصبح العالم يعرفها باسم: "الكتابة المسمارية".
وهكذا كانت أمّي تتفنّن بنقوش فطائرها، سواء تلك التي ترقّقها وتزركش حوافها وتحمّصها في قلب الفرن، أو تلك التي تفرشها مثل قماش اللوحة لتضع فوقها الفليفلة الحمراء الحارّة الممزوجة مع البندورة المهروسة وقطع البصل والنعناع المنعش، وتسمّيها: "محمّرات"، أو تضع عليها "الكشك" المنقوع بالماء الساخن والمطبوخ مع البصل والفليفلة الحمراء المطحونة (الكشك هو قطع مكوّرة مصنوعة من البرغل المعجون باللبن المخثر، تترك لتنشف تحت شمس الصيف لتطبخ في الشتاء بالماء المغلي أو مع زيت الزيتون كحشوة للفطائر)، أو حين تفتخر بفطائر السبانخ الذي تزرعه في "حاكورة" البيت وتهندسه وتعشّبه وتورّقه طازجاً إلى قلب الفطيرة الساخنة، وهل يمكن أن أنسى تلك التي كنا نسميها مازحين "صحوناً طائرة"، أي "اللزّاقيات" بلهجة أهلنا في حوران، أو "السيّالات" بلهجة أهل محافظة حماة. تلك الأعاجيب الصغيرة التي تكون بهيئة عجين سائلٍ ثم، وبقدرة اليدين الخلّاقتين، يفرش على كامل مساحة الصاج، ليتحول إلى "سيّالاتٍ" ملدوعةٍ بنار الصاج، ثم تدهن بالسّمن العربي أو الزبدة، وترشّ فوقها وهي ساخنة حبيبات السكر كأنها حبّات لؤلؤ ترصّع ثوب العروس.
لا يهمّ في أيّ البيوت تصنع أمي فطائرها، سواء في "حاكورة" بيتها التي رتبتها، أو في بيتي المتواضع جداً الذي يتسع لألف صديق، بعيداً عن كوارث الواقع ومجنزرات الحرب، لأن يدي أمّي ستحوّلان المكان إلى ورشة حبٍّ مصغّرة، إلى وطنٍ صغيرٍ،
وكيف لي أن أنسى "أقراص العيد" المخبوز بنكهة "جوزة الطيب" و"المحلب" و"الشمرة" والسمسم واليانسون و"حبة البركة" السوداء... ذاك المزيج المنقوع بالحليب منذ خيوط الفجر حتى شهقاتنا حين نفيق من نومنا على رائحةٍ طيبةٍ صرنا نسميها: رائحة أمّي!
أتذكر برعشةٍ في مسامي، كيف كنت أشاهد أعجوبة انتفاخ العجين المخمّر كأنه ينبض بتنهداتٍ وأنفاسٍ ناعمةٍ أرّقته طوال فترة التخمير، كأنه جسد أنثويّ يتفتّح في الشهوة ويستسلم لغواية الحب. أتذكر كيف كانت أمّي تلمسه بأصابعها كأنها تترفّق ببطن امرأةٍ حامل، فيما رائحة العجين الحامضة تتسرب إلى روحي وخيالاتي، وصارت تمتزج -لاحقاً وإلى الأبد- بالرائحة المعتّقة بقطفة الحبق الدائمة التي تتركها أمّي بين نهديها، قطفة حبقٍ فوّاحةٍ تضعها في عبّها وهي تغنّي لي ولأختي مع غمزة شقاوة:
"دارنا ع دارهم/والطاقة ع الطاقة
والولد عقلو خفيف/والبنت عشّاقة
يل تحوشون الحبق/ بالله تنطوني باقة
ريحة عطركم دوا/ للعلّة الـ بيّا"
لا يهمّ في أيّ البيوت تصنع أمي فطائرها، سواء في "حاكورة" بيتها التي رتبتها وهندستها بفطرة فلاحة، ووضعت فيها موقد نار أملاً بتحويله إلى "تنّور" سيدفّئ أيامنا القادمة، أو في بيتي المتواضع جداً الذي يتسع لألف صديق، بعيداً عن كوارث الواقع ومجنزرات الحرب، وتشاؤم المتشائمين ولؤم ذوي الطاقة السلبية... لأن يدي أمّي ستحوّلان المكان إلى ورشة حبٍّ مصغّرة، إلى وطنٍ صغيرٍ، وسنتحول أنا وأختي "جنين"، شقيقة الشقاوات والشقاءات، إلى تلك الدمى آكلة البسكويت في برنامج الأطفال "افتح يا سمسم"، آكلين وملتهمين لكلّ "فتفوتة" مقمّرة ومخبوزة على نار صبرنا وتشهّينا.
اليوم، في غياب أمّي، أشعر كأنني مفطوم عن أكل الفطائر، كأن لا عجين في العالم يشبه عجينها، ولا يدين يمكن لهما أن تنفخا في العجين من روحها ليصبح، بقدرة الأنوثة والأمومة معاً، فطائر تتنفّس.
حين زرت بيت أمّي في الضيعة، وجدت أختي قد أوقدت ناراً تحت "الصاج"، وقمطت شعرها بشالٍ من شالات أمي، ورتّبت بنفس الطريقة "لكن" العجين والمدلك والمنقش والمفرش الذي سترتاح عليه قطع الفطائر بعد شويها... سألتها: ماذا تفعلين يا أختي؟
أجابتني من دون أيّ تردد: "أستعيد رائحة الطمأنينة يا جواد".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ 3 أياممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ أسبوعشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ أسبوعاي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً