مع كل محطة سياسية مفصلية يأمل فيها اللبنانيون لملمة وإعادة تركيب نتف دولتهم المتشظية، تخرج إلى التداول مقولة "عودة الشيعة إلى الدولة"، وفي نسخة أخرى "عبور الشيعة إلى الدولة". حدث ذلك في العام 2005 الذي شهد انتفاضةً شعبيةً طوائفيةً نجحت في إخراج الجيش السوري من لبنان، ويحدث الآن، على إيقاع تضعضع بنية حزب الله العسكرية بسبب الحرب الأخيرة.
في الشكل، يمكن اعتبار أنّ هذه المقولة تدعو إلى خلق تعاون وتضامن عابر للطوائف يؤسس لمسار تخفيف الانقسامات المذهبية الحادة ووقف تحلل الدولة تمهيداً لإعادة بنائها، ولكن في المضمون تقوم على سوء فهم حاد لوضع الشيعة ولطبيعة النظام السياسي اللبناني.
ربما يجوز الحديث عن عودة الدولة إلى الشيعة أكثر من الحديث عن عودة الشيعة إلى الدولة
الدولة... والخروج عليها
في الفقه القانوني، للدولة ثلاثة أركان: أرض وشعب وسلطة سياسية. ولكن في استخداماتنا لمصطلح الدولة في الأحاديث اليومية وفي التحليلات السياسية نختزلها في ركن واحد هو السلطة السياسية، ربما على أساس أن الأرض والشعب هما معطيان شبه ثابتين في تاريخ منطقتنا المعاصر. ومَن يوسّع قصده من استخدام مصطلح الدولة يقصد كل ما له علاقة بتنظيم حياة شعب محدد على أرض معيّنة، وهذا الاستخدام أقلّ اختزالية من سابقه المماهي بين الدولة والسلطة السياسية حصراً، كما في تعبير "سوريا الأسد" الذي كان شائعاً.
إذاً، الدولة في استخداماتنا الموسّعة للمصطلح هي المؤسسات، بدءاً من المؤسسات السياسية، وصولاً إلى الأجهزة العسكرية والأمنية والإدارات الرسمية والقضاء والمدارس الرسمية وكل ما يشغّله موظفون رسميون أو شبه رسميين.
فهل الشيعة كطائفة خارج هذه المؤسسات؟ الجواب ببساطة لا. عدا عن أن نحو ربع الوظائف الرسمية يشغلها شيعة، بموجب نظام المحاصصة اللبناني، يستوجب الخروج من الدولة أو عليها الانفصال بجزء من الأرض وبناء مؤسسات خاصة تسيّر أمور مَن يعيشون على هذا الجزء في كل مناحي حياتهم. أما في أي حالة أخرى، مهما كان فيها من ترهل، فإن المواطن ليس مخيراً في مسألة وقوع أثر قرارات السلطات السياسية عليه ولا في الاحتكام إلى باقي مؤسسات الدولة لتسيير أموره اليومية. ولذلك في مصطلح "العودة إلى الدولة" نوعٌ من التضليل.
مقولة "عودة الشيعة إلى الدولة" تدعو في الشكل إلى خلق تعاون وتضامن عابر للطوائف يؤسس لمسار تخفيف الانقسامات المذهبية الحادة ووقف تحلل الدولة اللبنانية تمهيداً لإعادة بنائها، ولكن في المضمون تقوم على سوء فهم حاد لطبيعة النظام السياسي اللبناني
قد يرى البعض في تفشي الفساد، بما فيه من نهب للمال العام، وفي الخروج عن القوانين والتلاعب بها، خروجاً على الدولة، وبلا ريب في هذه الممارسات خروج عن العقد الاجتماعي الذي تستند إليه السلطة السياسية نظرياً لتسيير شؤون حياة الناس. وهذا النوع من الخروج على الدولة موجود في لبنان، ويشكّل واحداً من أبرز مشاكله، لكن تتشارك فئات متنفّذة من كل الطوائف، بالتكافل والتضامن، فيه، حتى ولو كانت أشكاله الظاهرة تختلف قليلاً بالكم أو بالكيف بين منطقة وأخرى.
جانبٌ وحيد يختلف فيه الشيعة في علاقتهم بالدولة عن باقي الطوائف، هو ذاك الناتج عن حالة حزب الله كتنظيم سياسي-عسكري، مع ما يقتضيه ذلك من ضعف لنشاط الأجهزة الأمنية في المناطق الشيعية مقارنةً بباقي المناطق. وهذا الوضع الشاذ نشأ ونما بتواطؤ بين حزب الله وباقي القوى الطائفية في البلد، وفي واحد من جوانبه كان نتيجة لنوع من توافق على رمي عبء الصراع مع إسرائيل على الطائفة الشيعية وحدها. وأضرّ ما نتج عن هذا التواطؤ بالسواد الأعظم من الشيعة لأن عمل العصابات ونشاط "زعران الأحياء" يزدهر حيث يضعف حضور الأجهزة الأمنية، وبالتالي يزيد منسوب الخروج عن القوانين في الفضاء العام/ العلني. وعليه، ربما يجوز الحديث عن عودة الدولة إلى الشيعة أكثر من الحديث عن "عودة الشيعة إلى الدولة".
توقعات للقادم علينا
يستوجب تطوير حضور مؤسسات الدولة وفاعليتها في كافة المناطق اللبنانية، بما فيها المناطق الشيعية التي تتفرّد بوضع خاص، بكل بساطة، إحداث تغييرات على مستويين، واحد سياسي عام وآخر مرتبط بحياة الناس اليومية.
في ما يخص حياة الناس اليومية، وهذا الجانب الأهم، يستوجب الأمر انتشاراً أوسع للقوى الأمنية في المناطق الشيعية، وإصلاح وتمكين هذه القوى لتصير مؤهلةً للقيام بالدور المنوط بها ولتحتكر "العنف الشرعي"، ولمنع سيطرة أي حزب سياسي ذي نفوذ على عملها في مناطقه، وإصلاح القضاء ليصير القانون حَكَماً لما للمواطن وما عليه بدون أي تدخلات سياسية، بجانب سلّة من الأمور تتضمن أموراً كثيرة منها تطوير عمل الإدارات والدفع باتجاه تنمية متوازنة بين المناطق كي يتقارب ما يتوفر لأهلها من طبابة وتعليم رسمي وبنى تحتية...
تمكين مؤسسات الدولة وتوسيع حضورها يتطلّب خلق علاقة مباشرة بين المواطن، أياً تكن طائفته، وبين "الدولة"، بينما يتأسس النظام الزبائني القائم منذ تأسيس لبنان والذي تستثمر فيه كل القوى الطائفية وتدافع عن استمراره على فَرْض الطائفة كحلقة وسيطة بين المواطن والدولة
فهل هذا ممكن في نظام كالنظام اللبناني؟ لا شيء مستحيلاً ولكن تطبيق هذه الأمور يتطلب توافقاً عابراً للطوائف على تمكين مؤسسات الدولة والحد من تدخّل كل الأحزاب السياسية من مختلف الطوائف في عملها. والوصول إلى ذلك يتطلّب خلق علاقة مباشرة بين المواطن، أياً تكن طائفته، وبين "الدولة"، بينما يتأسس النظام الزبائني القائم منذ تأسيس لبنان، والذي تستثمر فيه كل القوى الطائفية وتدافع عن استمراره، على فَرْض الطائفة كحلقة وسيطة بين المواطن والدولة. وبما أن الطائفة هي كيان نظري فإنّ مَن يقوم بدور الوسيط هو الأحزاب الطائفية المتنفذة على قاعدة: نوفّر للمحازب والموالي وصوله إلى خدمات الدولة التي نسيطر على مؤسساتها، بما يحقّ له أو بما يزيد عن ذلك أيضاً، مقابل ولائه السياسي. فهل من الممكن حدوث توافق عابر للطوائف على هذه الأمور؟ هذا يعني قبول الأحزاب الطائفية بأن تطلق النار على أقدامها.
وفي ما يخص المستوى السياسي العام، أثبتت تجربة السنوات العشرين الأخيرة أنّ في الدستور اللبناني، في نصه أو في تفسيره، ثغرات تسمح في أحيانٍ كثيرة لبعض الأحزاب الطائفية بأن تعطّل عمل مؤسسات الدولة السياسية عبر منع تشكيل الحكومة أو عرقلة انتخاب رئيس الجمهورية... وبأن تعطّل إدارات الدولة عبر منع بعض التعيينات... وعليه، يحتاج دستورنا إلى تطوير عبر إجراء مجموعة من التعديلات، أو عبر إعادة تفسير للمواد التي يُتذرّع بها للعرقلة، ويمكن أن يقوم بهذه المَهمة المجلس الدستوري بعد منحه صلاحية تفسير الدستور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينالحبة الحمراء أيديولوجية يقتنع بها بعض من النساء والرجال على حد السواء، وبرافو على هذا الشرح الجميل
Hani El-Moustafa -
منذ 3 أياممقال أكثر من رائع واحصائيات وتحليلات شديدة الأهمية والذكاء. من أجمل وأهم ما قرأت.
حوّا -
منذ أسبوعشي يشيب الراس وين وصل بينا الحال حسبي الله ونعم الوكيل
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل هذه العنجهية فقط لأن هنالك ٦٠ مليون إنسان يطالب بحقه الطبيعي أن يكون سيدا على أرضه كما باقي...
Ahmed Mohammed -
منذ أسبوعاي هبد من نسوية مافيش منطق رغم انه يبان تحليل منطقي الا ان الكاتبة منحازة لجنسها ولا يمكن تعترف...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعوحدث ما كنا نتوقعه ونتأمل به .. وما كنا نخشاه أيضاً