في مسرحية الزعيم، يقف المواطن البسيط عادل إمام ناظراً إلى الضابط حامي الوطن وحامل صكوك الولاء، طالباً أن يحصل منه على العلامة الكاملة على إخلاصه للوطن والقيادة، فيقول:
-عاش الزعيم.
ينظر بعدها إلى وجه الضابط الذي لم تتبدل ملامحه. يرتبك ويشعر بالتقصير، فيضيف:
- عاش الزعيم، ويخرب بيت اللي بيكرهه.
ثم ينظر مجدداً إلى وجه الضابط الذي يبدو هادئاً، لكن غير متفاعل، فيقرر "تثقيل العيار" قائلاً:
-ويخرب بيت اللي بيحبه، وهو من جوّاه بيكرهه.
ثم نظرة ثالثة يشعر معها بأنه ربما عليه الذهاب أبعد ما يمكن هذه المرة، ليحظى بالرضا وبصكّ الإخلاص، فيقول:
-ويخرب بيت اللي بيحبّه، وهو من جوّاه بيحبّه، وواحد واقف جنبه بيكرهه!
هكذا شعرت وأنا أقرأ بيان حركة المقاطعة العالمية "BDS"، حول فيلم "لا أرض أخرى – No Other Land"، الحائز جائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي للعام 2025. بيان أقلّ ما يقال فيه، إنه ساذج، متحذلق، وغير واقعي. بيان "حافظ مش فاهم"، بمعنى أنه يقدّس الضوابط (الخطوط الاسترشادية للحركة)، لأجل الضوابط، ولا يلتفت لا إلى روحها ولا إلى معناها. بكلمات أخرى، يجعل الضوابط أقدس الأقداس، لا مسوّدة نحاول من خلالها أن نستدلّ على أفضل الممارسات، مع فسحة مستمرة للتعديل والتطوير. مقصلة تحكم على عمل بالإعدام، وتمنح غيره صكّ البراءة.
أحترم حركة المقاطعة، وأقرّ بإنجازاتها، بل إنني عُدت إلى ضوابطها لمراجعة بعض تعاملاتي الأكاديمية، وأعمل على الالتزام بها، ما دامت منطقيةً. لكنها ليست ضوابط منزّلةً، ويحقّ لنا مراجعتها ومراجعة أنفسنا متى لزم الأمر
الحقيقة، أنا من داعمي حركة المقاطعة، وما كنت لأنزعج وأشتبك مع البيان لو أنّ أمرها لا يعنيني، ولو أنها لا تؤثر على خياراتي بشكل يوميّ. وقد وقفت وهتفت خلف مؤسسها الباحث عمر البرغوثي، واعتصمنا معاً في جامعة أمستردام، وهتفنا ضد الاحتلال والفصل العنصري، وجمعتنا مجموعات عمل، لكن باعتبار مسؤولياته الإدارية، وحجم مشروعه، ربما أذكره أكثر مما يذكرني. أحترم حركة المقاطعة، وأقرّ بإنجازاتها، بل إنني عُدت إلى ضوابطها لمراجعة بعض تعاملاتي الأكاديمية، وأعمل على الالتزام بها، ما دامت منطقيةً. لكنها ليست ضوابط منزّلةً، ويحقّ لنا مراجعتها ومراجعة أنفسنا متى لزم الأمر. وأظنّ أنّ هذا الموقف من المواقف التي يجدر بنا الاستفادة منها في إعادة النظر في آلية فهم الضوابط وتطبيقها، ودور الحركة كمنظِّر فكري وملهم وليس كشرطيّ أخلاق.
حصد الفيلم الوثائقي "لا أرض أخرى"، جائزة الأوسكار في نسختها الـ97 في مدينة لوس أنجلوس، كأفضل فيلم وثائقي طويل لعام 2025. وهو من إخراج الفلسطيني باسل عدرا والإسرائيلي المقيم في النرويج يوفال أبراهام. الفيلم يقدّم أحداثاً حقيقيةً بدأ باسل بتوثيقها مذ كان عمره لا يتجاوز العشر سنوات بكاميراه الشخصية. وثّق باسل، حكاية قريته "مسافر يطا"، وسكانها الذين يناضلون يومياً للوقوف في وجه الاحتلال وعتاده، والمستوطنين وعنفهم، والعالم ووضاعته. تعاون باسل مع الصحافي الإسرائيلي اليساري يوفال أبراهام، على إخراج وإنتاج الفيلم الذي حظي بالفعل حتى قبل فوزه بالأوسكار، بحضور عالمي وقبول واسع، ولم تكن جائزة الأوسكار سوى تتويج إضافي لهذا النجاح. لم يكن هذا الفوز سهلاً، وصدّق أو لا تصدّق، ليس فوزاً معزولاً عن غزّة، وصمود غزّة، ومقاومتها، ودمّ شهدائها الذين أحببنا أو لم نحبّ، أعادوا تشكيل سردية الصراع في الوعي العام العالمي، ما سمح لحكاية مسافر يطا أن تقع في سياق وعي ومزاج عالميين وموقف فاهم ومستعدّ لقبول صوتنا وحكايتنا وتتويجها بتكريم أيضاً.
لم يكن هذا الفوز سهلاً، وصدّق أو لا تصدّق، ليس فوزاً معزولاً عن غزّة، وصمود غزّة، ومقاومتها، ودمّ شهدائها الذين أحببنا أو لم نحبّ، أعادوا تشكيل سردية الصراع في الوعي العام العالمي، ما سمح لحكاية مسافر يطا أن تقع في سياق وعي ومزاج عالميين وموقف فاهم ومستعدّ لقبول صوتنا وحكايتنا وتتويجها بتكريم أيضاً
تتويج مرّ و"لحظة حزينة"
هو تتويج لا تخفى مرارته ولا وقع الحزن على أكثرية المجتمع الإسرائيلي، الذي يعيش حالة انفصال عن الواقع، لا يستطيع معها استيعاب أنه ليس ضحيةً. والأسوأ بالنسبة لهذه الأكثرية ربما، أنّ العالم لم يعد يراهم هكذا، إلى درجة أن يحصد فيلم فلسطيني، وأقول "فلسطيني" لأن حكايته فلسطينية وكذلك مكانه وأبطاله، أرفع جائزة فنية في محفل نعرف جميعاً من يحكمه ويؤثر على الصناعة فيه.
فور إعلان الفوز، ثار الرأي العام الإسرائيلي، وغرّد وزير الثقافة الإسرائيلي قائلاً: "فوز فيلم ‘لا أرض أخرى’ بجائزة الأوسكار يشكل لحظةً حزينةً في عالم السينما. اختار صُنَّاع الفيلم ترديد روايات تشوّه صورة إسرائيل في العالم". من ناحية أخرى، خرجت أصوات لشبان/ شابات عرب نشأوا في أوروبا وأمريكا، حيث حظوا بكل الامتيازات التي تقدّمها الإمبريالية والرأسمالية والقوى الاستعمارية، من صحة وتعليم وجواز سفر ورعاية... خرجوا ينتقدون "باسل" ويتهمونه بالتطبيع وينظّرون له كيف كان عليه أن يتصرف في حكايته، وكيف أنهم، يعرفون أكثر منه كيف يخدعه الصهاينة ويستغلّونه لأجل تبييض وجه نظامهم، حتى لو ادّعوا دعمهم له ولحكايته، وحتى إن صدقوا النيّة. إنّهم إسرائيليون، وعلينا نحن أيضاً، الجمهور المتابع، أن نمتنع عن الاحتفاء بفوز الفيلم، وإلا صرنا نحن أيضاً إما خونةً، أو عبطاء (جمع عبيط) وساذجين. أي نعم، هم أدرى على ما يبدو، خصوصاً أنهم يتحدثون الإنكليزية بطلاقة وشكلهم نظيف، ولديهم متابعون كثر على إنستغرام وتيك توك!
أريد هنا أن أعرف ما قول الحركة فينا. من درس في جامعات غربية تدعم الكيان الصهيوني بالعلم والتكنولوجيا العسكرية، ومن يعيش في الدول التي موّلت وتموّل بشكل مباشر حرب الإبادة على غزّة وأمدّتها وتمدّها بالعتاد، ويحمل -أحياناً- جواز سفرها، ويقسم ربما على الولاء لها في مراسم التجنيس التقليدية؟
ليس رأياً شخصياً
الحق أنني لا أشكك في نوايا أحد، بل أنا ممتنّة للدور التوعوي الذي لعبه الشباب على منصات التواصل باللغات كافة. وقد عددت أصواتهم أصواتاً، ولا بأس في تنوّعها، برغم صعوبة هضمها. لكن خروج بيان رسمي من حركة المقاطعة العالمية "BDS"، ليس رأياً شخصياً، ولا أمراً يمكن غض الطرف عنه، لأنّ مشروع حركة المقاطعة مشروع عالمي، يكتسب قوته وأرضيته منّا وبنا. دعونا نعود إلى البيان لمراجعته. يدّعي بيان حركة المقاطعة أنّ الفيلم كسر قواعد المقاطعة معلّلاً ذلك بالتالي:
-النقطة الأولى التي أوردها البيان، هي أنّ واحدةً من المؤسسات التي قدّمت دعماً للفيلم -ليست الجهة المنتجة، فالفيلم إنتاج نرويجي- يُعتقد بأنها تسعى إلى التطبيع الثقافي بين منتجي السينما الفلسطينية والإسرائيلية. وأقول للأعزّاء في حركة المقاطعة "BDS": "آه سلامة الشوف". هي فعلت ذلك بالفعل، ولكن في أي إطار؟ وأي مشروع؟ أليس ثمة تمييز؟ هل مشكلتنا هي أن يعمل فلسطيني مع إسرائيلي أو مشكلتنا ماذا يعملان، أو علامَ يعملان؟ وهل يُعدّ ذلك خارج إطار الضوابط المتفق عليها في حركة المقاطعة؟ أريد هنا أن أعرف ما قول الحركة فينا. قول من درس في جامعات غربية تدعم الكيان الصهيوني بالعلم والتكنولوجيا العسكرية، ومن يعيش في الدول التي موّلت وتموّل بشكل مباشر حرب الإبادة على غزّة وأمدّتها وتمدّها بالعتاد، ويحمل -أحياناً- جواز سفرها، ويقسم ربما على الولاء لها في مراسم التجنيس التقليدية؟ كيف سنجد لأنفسنا "تخريجةً" تسمح لنا بالاستفادة من هذه الامتيازات، ثم نطلق بها أيضاً رصاص الخيانة والتطبيع على رأس من يحقق إنجازاً بحجم إنجاز "لا أرض أخرى"؟
-النقطة الثانية التي أوردها البيان، هي أنّ بعض أعضاء الفيلم لم يعلنوا بشكل مسبق وفردي عن إدانة شخصية كافية لما يقوم به الكيان الصهيوني. أقول للأعزّاء في حركة المقاطعة "BDS": إنّ الفريق أصدر بياناً جماعياً شديد الجرأة والاحترام أقرّ فيه بالنكبة الفلسطينية، وبالاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإسرائيلي، وبالإبادة الجماعية. يقول صنّاع الفيلم في البيان: "نريد بشدّة وقف التطهير العرقي المستمر الذي تقوده إسرائيل لمجتمع مسافر يطا... هذا الفيلم الذي ليس، في جوهره، دليلاً على جرائم الحرب الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية التي تحدث في الوقت الحاضر فحسب، وإنما هو أيضاً اقتراح للمستقبل، والبحث عن طريق نحو العدالة والمساواة وإنهاء الفصل العنصري". أنا لا أفهم ماذا نريد أكثر من صنّاع الفيلم؟ أفكّر في أن أطبع الضوابط الاسترشادية للحركة، وأمشي متأبطةً إياها، وكلما جمعني عمل مع أحدهم، أستلّ من تحت إبطي ورقةً وأمدّها نحوه وأقول: وقّع! لا أحد يضمن، "تنام مقاطع، تصحى تلاقي نفسك خاين ومطبّع". أستخدم هذه الصيغة للتدليل على لاواقعية متطلبات بيان "BDS" التي أشرت إليها في مقدمة هذا المقال.
-النقطة الثالثة، وما أدراك ما النقطة الثالثة! هي عندما يشير البيان إلى أننا لا نحتاج إلى إسرائيليّ ليمنحنا شرعيةً أو تصريحاً لكي نحكي حكايتنا. يفترض البيان أنّ هذه الشراكة بين باسل ويوفال، طلب تصريح تقدّم به باسل، إلى يوفال، حتى تصبح لحكايته شرعية السرد والحضور. هل يحقّ لي أن أقول إنّ هذا عيب قوله؟ عيب قوله لمن يقفون كل يوم في وجه آلة الحرب والتدمير والاستيطان غير منتظرين لا دعمنا ولا شرعية يحصلون عليها لا من يوفال أو من "BDS". صدّق أو لا تصدّق، الفلسطيني الصامد على أرضه هو الشرعية. وإذا كان العالم الأبيض فيه من السذاجة أنه يحبّ، هكذا، أن يرى الفلسطيني يعانق الإسرائيلي، لأنّ ذلك يحرره من ذنبه الكولونيالي التاريخي، فإنّ هذا يلام عليه العالم، لا باسل ويوفال!
أعزّائي في حركة المقاطعة العالمية "BDS"، إنّ بيانكم ينحاز، بحسن نية، إلى الحركة وضوابطها، أكثر بكثير مما ينحاز إلى القضية الفلسطينية
أعزّائي... ولكن!
أعزّائي في حركة المقاطعة العالمية "BDS"، إنّ بيانكم ينحاز، بحسن نية، إلى الحركة وضوابطها، أكثر بكثير مما ينحاز إلى القضية الفلسطينية. وينشغل بحَرفيّتها وحذافيرها، أكثر من قيمتها ومعناها، وهذا أخرج منكم موقفاً مؤسفاً، احتفى به اليمين الإسرائيلي أيّما احتفاء، واستخدمه في السخرية من اليسار، العالمي لا الإسرائيلي فحسب، الداعم لحقوق الفلسطينيين المخذولين في هكذا بيان. أتمنى أن تتمّ مراجعته. إننا نقاوم بالسبل كلها لتحرير بلادنا، وسننتهي إلى حلّ سياسيّ. لسنا نقاوم لأجل المقاومة، لذا لا بدّ أن ننشغل بالهدف كما انشغالنا بالأداة. وهنا أستعير عبارةً من الدكتورة هنيدة غانم، مديرة مركز "مدار" الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية، كتبتها في هذا السياق، بتصرّف: إذا كان هذا الفيلم يكسر ضوابط حركة المقاطعة العالمية، فإنّ على الحركة ربما مراجعة ضوابطها وليس العكس!
مبروك يا يوفال، مبروك يا باسل يا بطَل.
فخورون بكما.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohamed Adel -
منذ 3 أياملدي ملاحظة في الدراما الحالية انها لا تعبر عن المستوى الاقتصادي للغالبية العظمى من المصريين وهي...
sergio sergio -
منذ 3 أياماذا كان امراءه قوية اكثر من رجل لكان للواقع رأي آخر
أمين شعباني -
منذ 5 أيامهذا تذكيرٌ، فلا ننسى: في فلسطين، جثثٌ تحلق بلا أجنحة، وأرواحٌ دون وداعٍ ترتقي، بلا أمٍ يتعلم...
Rebecca Douglas -
منذ 5 أيامنحن أنصار الإمام المهدي عبد الله هاشم أبا الصادق(ع) ناس سلميين ندعو للسلام والمحبة وليس لنا علاقة...
Baneen Baneen -
منذ 5 أيامنقول لكم نحن لا نؤذيكم بشيء وان كنا مزعجين لهذه الدرجة، قوموا باعطائنا ارض لنعيش فيهاا وعيشوا...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا اتفق بتاااتا مع المقال لعدم انصافه اتجاه ا المراه العربية و تم اظهارها بصورة ظلم لها...