لم يكن وهج اختيار فيلم "الضوء" (The Light)، من بطولة الألمانية من أصول عراقية تالا الدين، والتي تجسّد دور لاجئة سورية في الفيلم نفسه، كافيًا لحجب انحياز إدارة مهرجان برلين السينمائي في دورته الـ75 للسردية الإسرائيلية، وذلك من خلال تجاهله للإبادة التي شهدتها غزّة طيلة 15 شهراً، وما خلفته الجرائم الإسرائيلية في القطاع من عشرات الآلاف من القتلى، فضلاً عن الجرحى ومبتوري الأطراف.
ورغم اختيار إدارة المهرجان فيلماً من بطولة ممثلة ألمانية من أصول مهاجرة، في محاولة للرد على تصاعد الخطاب اليميني الشعبوي في أوروبا والولايات المتحدّة، وعرضه فيلم "يالله باركور" لمخرجته عًريبة زعيتر، والذي يتحدث في 89 دقيقة عن غّزة، إلا أن ذلك لم يستطع التغطية على مواقفه السابقة. فقد انحاز المهرجان في دورته السابقة علناً للسردية الصهيونية، عندما أدانت المديرة التنفيذية آنذاك مارييت ريسنبيك ما وصفته بـ"الهجوم القاتل" الذي شنته حركة حماس في السابع من أكتوبر، دون أي إشارة إلى المجازر المستمرة في غزة.
طالما جنّد مهرجان برلين السينمائي سجادته الحمراء سياسيًا. ففي عام 2022، شهد انتفاضة فنية أدانت ما وصفته بالعدوان الروسي، وهتفت بحرية الشعب الأوكراني
هذا التجاهل والتعامي عمّا يحدث في غزّة يطرح تساؤلات جادة حول دور الفن في الاحتجاج وتمثيل القيم الإنسانية، خاصة أن تاريخ "برليناله" طالما جنّد سجادته الحمراء في انتفاضات سينمائية، كان آخرها في دورته لعام 2022، حيث أدان ما وصفه بـ"العدوان الروسي" وانتهاكه للقانون الدولي، معرباً عن تضامنه مع الشعب الأوكراني وكل من يناضلون ضد هذه الحرب. كما أعلن في أيلول/سبتمبر من العام ذاته تضامنه مع النساء والرجال المحتجين في إيران، مما يثير تساؤلات حائرة حول دور الفن ورسالته في التظاهرات الفنية الغربية.
فهل باتت "البرليناله" تؤسس لمرحلة جديدة من "الفجاجة" التي تشرعن الازدواجية وفقًا لجنسية الضحية وهوية مرتكب الإبادة؟
الإبادة بالتهميش
قُبيل انطلاق المهرجان، ونظرًا لتجاهله للإبادة في غزّة، أطلقت حملة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، إلى جانب الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل (PACBI) التابعة لها، وحراك موازٍ لدعم الأصوات الفلسطينية، حملةً تدعو إلى مقاطعة فعالياته.
لكن الحملة ازدادت اشتعالاً بعد التجاهل المتعمّد للمجازر المستمرة في غزة، وكأن الآلاف الذين قتلوا وذُبحوا على مدار عام ونصف لا قيمة لهم، مما أثار غضب العديد من الناشطين والناشطات داخل برلين وخارجها، خصوصًا مع تصاعد الانحياز الألماني ضد أي حراك داعم للفلسطينيين، والذي وصل إلى حد التمييز والتضييق والمنع. وكان آخر هذه الممارسات القمعية إلغاء محاضرة المقررة الأممية المعنية بحقوق الإنسان في فلسطين، فرانشيسكا ألبانيز، في جامعة برلين الحرة، والتي كانت تحمل عنوان "الإبادة الجماعية في غزة".
كما اتهمت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل مهرجان برلين السينمائي الدولي بالتواطؤ والشراكة مع الحكومة الألمانية في الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وفشله في حماية صُنّاع الأفلام المتضامنين مع الفلسطينيين. ودعت الحملة صُنّاع وصانعات الأفلام وأعضاء لجان التحكيم والعاملين في قطاع السينما إلى الانسحاب من المهرجان، لتجّنب تبييض شراكة الدولة الألمانية في هذه الإبادة الجماعية.
طالب نشطاء ألمان وأوروبيون بتخصيص مساحة خاصة للأفلام الفلسطينية في البيرناليه الـ75 انتصارًا للسردية الغزّية
وفي السياق ذاته، أصدر عدد من العاملين والعاملات في مجال الأفلام بياناً طالبوا فيه إدارة "برليناله" بإصدار بيان رسمي يؤكد على حق الفلسطينيين في الحياة والكرامة والحرية، ويدين الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة، كما يلتزم بدعم حق الفنانين في التعبير دون قيود عن تضامنهم مع الفلسطينيين. وشدد البيان على ضرورة التزام المهرجان بالمطالب الأساسية لإضراب ألمانيا لحماية الفنانين، والتي تشمل دعم حق الفنانين في الالتزام بحركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS)، والالتزام بتعريف مؤسسة القدس لمعاداة السامية، ورفض إجراء فحوصات الخلفية السياسية للفنانين. كما طالب البيان بتطوير برنامج خاص للأفلام الفلسطينية في مهرجان برلين السينمائي 2025، ورعاية وفد من صُنّاع وصانعات الأفلام الفلسطينيين للمشاركة في المهرجان وسوق الأفلام الأوروبية، من خلال توفير التمويل والدعم اللوجستي، كما يحدث عادةً لصُنّاع الأفلام من المناطق غير الممثلة، بالإضافة إلى ضمان الحماية لهم والسماح لأصواتهم بأن تُسمع.
الانحياز بالانحياز
ورداً على انحياز برليناله، تنظم مؤسسة "ملجأ عالمي" أسبوع سينما فلسطين، الذي يتضمن أفلاماً و ندوات ومعرض فني وبازار فلسطيني من السابع عشر من فبراير/ شباط وحتى الحادي والعشرين منه.
وحول رسالة هذه التظاهرة الثقافية بالتوازي مع مهرجان برلين، أوضحت الفنانة نيكي بوهم التي تعمل ضمن "ملجأ عالمي" لـرصيف٢٢: "نريد أن نتخذ موقفاً جماعياً ضد العنصرية الصارخة التي ترعاها الدولة ضد الفلسطينيين/ات والعرب، والمشاركة النشطة لألمانيا في الإبادة الجماعية، ودعمها الثابت للاحتلال العسكري الإسرائيلي، وقمعها الوحشي لأي شكل من أشكال التضامن الفلسطيني وتطبيع وتلميع صورة التضامن الفلسطيني من خلال الأحداث الثقافية مثل مهرجان برلين السينمائي الدولي".
كما أعربت بوهم، عن تخوّفها من سياسية الـ "برليناله" التصاعدية في دعم السردية الصهيونية قائلة: "في العام الماضي، تم استخدام فيلم "لا أرض أخرى" الذي رشح لجائزة الأوسكار وفاز بجائزة الجمهور في برليناله كأحد المبررات لتمرير "قرار معاداة السامية" في البرلمان الألماني، كما يقدم مهرجان برلين نفسه كمهرجان سياسي شامل وتعددي وفي نفس الوقت يتماشى مع قانون الدولة الألماني ويسن مجموعة متنوعة من التدابير القمعية التي عرضت السلامة الشخصية لصانعي الأفلام باسل عدرا ويوفال أبراهام للخطر وأدت أيضاً إلى الإبلاغ عن أعضاء طاقمه للشرطة".
وأضافت بوهم: "إلى جانب رغبتنا في الرد على انحياز برليناله، نريد أيضًا إبراز التميز الإبداعي والإبداع والحيلة التي يتسم بها قطاع صناعة الأفلام الفلسطينية، ومواصلة التحدث ضد انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل، والاحتلال الوحشي المستمر، وكذلك حملة تحرير فلسطين".
نيكي بوهم: الفعالية السينمائية الداعمة لغزّة هي رد الفنانين المستقلين على العنصرية الصارخة التي ترعاها ألمانيا ضد السردية الفلسطينية.
وأشادت بوهم، وهي فنانة ومقدمة برامج إذاعية بالتضامن بين النشطاء/ الناشطات "وتجميع الموارد والخبرة والوقت والطاقة، هذا الأسبوع هو شهادة حقيقية على التنظيم الشعبي الذاتي الذي شاركت في العديد من المبادرات الثقافية المستقلة.
وعن كيفية التعامل مع التضييق بشكل عام في ألمانيا تجاه القضية الفلسطينية قالت بوهم: "نتعامل معه بممارسة المزيد من التضامن والمزيد من المقاومة والمزيد من الرعاية المجتمعية".معربة عن أملها في أن نتجح الفعالية أن الفعالية المقامة تلهم الناس للتعمق أكثر في التاريخ الفلسطيني وربط النقاط مع السرديات الاستعمارية الأخرى، وكذلك التشبيك مع المبادرات الداعمة للفلسطينيين وحقوقهم المشروعة، الأمر الذي سيخلق جبهة منظّمة لمواجهة السياسية الألمانية المتحيزة.
وختمت بوهم تصريحاتها لـ رصيف 22 بالقول: "نحن كثيرون/ات، نحن أقوياء/ قويات، لسنا خائفين/ات وألمانيا لن تسكتنا أبداً.".
قصص غير محكية
وفي إطار الفعالية، سيعرض فيلم "قصص غير محكية من غزة من المسافة صفر" الذي شارك في إخراجه ٢٢ مخرجا/ة، كجمانة مناع، أمين نايفة، جامين أبو خاطر، وفاء سعيد، ربيع مصطفى، سامر سلامة، مهدي براغيثي، ماجدة قنديل، كما ستعرض المصورة أمل أبو حنا أعمالها كجزء من المعرض التي ستقام في مساحة تابعة لـ"ملجأ عالمي" في برلين.
كما ينضم عدد من الناشطون/ات مهرجان پاليناله، وهو دمج بين كلمة فلسطين بالإنجليزية والألمانية "پالستاين" وموازاة لبرليناله، وهو "يقدم بديلا للحالة الجامدة التي تهيمن على المشهد الفني الألماني والمؤسسات الثقافية"، وذلك في الفترة 13-22 فبراير/ شباط، والذي يتضمن عروضا سينمائية، ندوات، معارض وفعاليات ثقافية، لتعزيز الحوار حول تحرير فلسطين والمقاومة العالمية ضد القمع.
وعرّف المهرجان عن نفسه على صفحته على الانستغرام بأنه: "مكرس لعرض الأفلام وتعزيز النقاشات حول القضية الفلسطينية وتحرير الشعوب المضطهدة حول العالم، وهو استجابة للقمع المستمر للتضامن مع فلسطين في ألمانيا، كما يسعى إلى تسليط الضوء على الظلم البنيوي الأوسع".
كما سيعرض فيلم "فلسطين الصغيرة يوميات الحصار" للمخرج عبدالله الخطيب الذي قاطع برليناله، وفيلم "حالة عشق" لكارول منصور ومنى الخالدي، وفيلم "غزة أم بي فور" للمخرجة ضياء لاغان، وفيلم حيث تبكي أشجار الزيتون للمخرجين موريزيو وزايا بينازو وغيرها من الأفلام والندوات التي تعكس تنوّع اللون الثقافي الفلسطيني.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 16 ساعةl
Frances Putter -
منذ 17 ساعةyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ يومينأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ يومينتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ يومينغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...
ماجد حسن -
منذ 6 أياميقول إيريك فروم: الحبُّ فعلٌ من أفعال الإيمان، فمن كان قليلَ الإيمان، كان أيضًا قليل الحب..