شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
لبنان 2050... لم يبقَ شيء من الشواطئ

لبنان 2050... لم يبقَ شيء من الشواطئ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والحقوق الأساسية

الأربعاء 19 فبراير 202511:56 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  

هأنذا على متن الخطوط الجوية اللبنانية الوحيدة التي لا شريك لها. إنه العام 2050. مضت على بعدي عن لبنان قرابة 30 سنةً. سنوات كثيرة أمضيتها بعيداً عن وطني وأهلي، لاجئاً في أوروبا بحثاً عن حياة كريمة مع أسرتي. 

وها هي ذي بيروت تظهر لي من بعيد. الأضواء تصل إلى عنان السماء. لم أحبّ بيروت يوماً، ليس بسبب نقص في وطنيتي أبداً، ولكن بسبب السياسات المجحفة بحق كل لبنان، والتي جعلت من بيروت مدينةً غير صالحة للحياة الطبيعية، فالأشجار كانت نادرةً، والمدّ العمراني كان وحشيّاً ولا يراعي لا السلامة العامة ولا الصحة العامة.

وها هي ذي شواطئ لبنان تظهر لي من نافذة الطائرة. أيّ بلد هذا الذي لديه شاطئ من شماله حتى جنوبه، ولطالما كان مدعاةً للفخر بهذه الميزة الجميلة، التي قلّما نجدها لدى الدول الأخرى؟ 

وصلت إلى بيروت مع أسرتي، وفي اليوم التالي، أصررت على أن نذهب في رحلة إلى الشاطئ، لأستذكر أيام الشباب، وكيف كنا نقضي أوقاتاً طويلةً مع الأصدقاء قبل أن تفرّقنا الدنيا، كلّاً منّا في بلد.

هأنذا على متن الخطوط الجوية اللبنانية الوحيدة التي لا شريك لها. إنه العام 2050. مضت على بعدي عن لبنان قرابة 30 سنةً. سنوات كثيرة أمضيتها بعيداً عن وطني وأهلي، لاجئاً في أوروبا بحثاً عن حياة كريمة مع أسرتي


غاب عن ذهني، أنا الذي سكنت وتنقلت بين دول أوروبية عدة، أنّ الشاطئ عادةً ما يكون للعموم. نسيت أنّ للبنان استثناءات، حتى أنّ فيه استثناءً على الاستثناء. بدأت رحلتي من بيروت باتجاه جونية والشمال. الشاطئ مليء بالمنتجعات السياحية، الصغيرة والكبيرة، بين فنادق ومسابح ومطاعم وغيرها. فضّلت عدم الدخول إلى أيّ منها، بل تمضية الوقت على الشاطئ العام. نزلت إلى منتجع، وقلت لهم إنّي أريد أن أعبر إلى الشاطئ، فقال لي رجل الأمن المكلّف بحماية المنتجع، لا يمكنك ذلك، فهذا ملك للمنتجع، وعليك أن تدفع لتدخل. اتّضح لي أنّ كل المنتجعات والمطاعم تسيطر بطريقة وحشية على الشاطئ. عندها، قلت لأولادي: سنعود إلى بيروت، فهناك شاطئ عام يمتدّ من الروشة حتى الرملة البيضاء. وما إن وصلنا حتى ذُهلت بما رأيت؛ حتى الشاطئ العام أصبح منتجعاً تحيط به أسوار كبيرة.

أذكر أنّنا كنّا أمام صخرة الروشة الشهيرة، التي يقصدها السياح من كل دول العالم، نسترق النظر من بين أعواد القصب الشامخة على الكورنيش، تلك الأعواد التي كانت تُترك عنوةً لكي نعتاد على مشاهدتها، دون أن نتمكن من مشاهدة البحر أو الصخرة. 

أما اليوم، فالقصب اقتُلع إلى الأبد، وشُيّدت مكانه أسوار شاهقة لمنتجع أصبح يتفرّد بشاطئ الروشة ويحتكر الإطلالة على صخرته العملاقة.

هنا أدركت أنه لم يبقَ شيء من شواطئ لبنان؛ قسّمت كلها بالطريقة نفسها التي كانت مقسّمةً بها في السابق. أصحاب النفوذ من مسؤولين في الدولة ونواب ووزراء وحاشيتهم، كلّ منهم اتّخذ لنفسه قطعةً من هذا الشاطئ، وأصبحت مرتعاً لهم.

بكل صراحة لم أُصدم بما شاهدته، فلطالما كان الشاطئ اللبناني في القرنين الماضي والحالي، عرضةً لأطماع حيتان المال وأزلام السلطة الذين سلخوه عن خريطة الوطن، وأصبح ملكاً خاصاً بالتحايل على القوانين، بعد أن كان ملكاً عاماً لكل المواطنين، يحمل الهوية اللبنانية.

أذكر جيداً معظم التحركات الشعبية التي انطلقت منذ عام 2010، وحتى هجرتي من لبنان عام 2020. كان الناشطون يعتصمون من أجل تحرير الشاطئ، وعندما عجزوا عن تحقيق ذلك، كان المطلب تأمين الوصول إليه وفق ما تنصّ عليه القوانين اللبنانية. وقد نجحوا حينها. أما اليوم، فيبدو أنّ هذا الحق الذي انتُزع بالقوة، ضرب به حيتان المال عرض الحائط، وبات الشاطئ حكراً على فئة دون غيرها. من يملك المال يستطيع الوصول إلى الشاطئ، ومن لا يملكه يمكنه الصعود على الجبل، والنظر إليه من بعيد!

ينصّ نظام إشغال الأملاك البحرية، على أنّ الأملاك العامة البحرية تبقى لاستعمال العموم، ولا يكتسب عليها لمنفعةٍ أحدٌ أيّ حقّ يخوّله إقفالها لمصلحة خاصة. ونصّت المادة عينها على أنّ السماح بتخصيص جزء من الشاطئ لاستعمال فرد أو مجموعات، وحصر هذا الانتفاع بهم دون سواهم، عمل استثنائي.

هكذا هو واقع الشاطئ اللبناني في العام 2050؛ تشعر وكأنّ سارقي الشاطئ اللبناني لهم دولة مستقلّة ممتدة على كامل الساحل، دولة تشبه تشيلي في أمريكا اللاتينية، ولبنان كالأرجنتين، يقبع خلفها دون واجهة بحرية.

ومن الجدير ذكره، أنّ معظم مشاريع القوانين التي أعدّتها الحكومات المتعاقبة على السلطة في لبنان، حول التعدّيات على الأملاك البحرية، بقيت في أدراج مجلس النواب، ولم تبصر النور والأسباب واضحة. فكثرٌ من هؤلاء النواب يغطّون هذه التجاوزات، ويورثون هذه الحصانة من الأب إلى الابن، ضاربين بالقوانين عرض الحائط. والأهمّ من ذلك، أنّ هذه الاعتداءات على الأملاك العامة البحرية تحرم خزينة الدولة من مليارات الدولارات في بلد عاجز مالياً.

هكذا هو واقع الشاطئ اللبناني في العام 2050؛ تشعر وكأنّ سارقي الشاطئ اللبناني لهم دولة مستقلّة ممتدة على كامل الساحل، دولة تشبه تشيلي في أمريكا اللاتينية، ولبنان كالأرجنتين، يقبع خلفها دون واجهة بحرية. إنها ليست لعنة الجغرافيا إطلاقاً، بل لعنة السياسة اللبنانية، ونظام الحكومات المتواطئ مع المعتدين، وضعف سلطة القانون الذي كان من المفترض أن يسمو فوق كل شيء.

أترك لبنان مجدداً، وأملي أن يرجع أولادي إليه مع أبنائهم، ويخوضوا حرباً تحريريةً من دون دماء، حرباً يتحرر فيها الشاطئ اللبناني من احتلال اللصوص وحيتان المال.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

ما زلنا في عين العاصفة، والمعركة في أوجها

كيف تقاس العدالة في المجتمعات؟ أبقدرة الأفراد على التعبير عن أنفسهم/ نّ، وعيش حياتهم/ نّ بحريّةٍ مطلقة، والتماس السلامة والأمن من طيف الأذى والعقاب المجحف؟

للأسف، أوضاع حقوق الإنسان اليوم لا تزال متردّيةً في منطقتنا، إذ تُكرّس على مزاج من يعتلي سدّة الحكم. إلّا أنّ الأمر متروك لنا لإحداث فارق، ومراكمة وعينا لحقوقنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image