يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.
يا إلهي إنها سوريا الحرة العظيمة وليست سوريا الأسد.. كان هذا أول ما فكرت به وأنا أعود إلى سوريا لأول مرة بعد غياب ثلاثة عشر عاماً منعت فيها تماما من رؤية بلدي وحتى من مكالمة أصدقائي وأحبائي فيها خشية عليهم من الانتقام.
انتهى هذا. لن أعود للتفكير فيه، أنا الآن في قلب دمشق؛ أجلس في مقهى فندق الشام أنتظر مجموعة من الأصدقاء لنذهب معاً من أجل المشاركة في المؤتمر الوطني الأول الذي يعقد في قلب العاصمة بعد أن طال كثيراً انتظار هذه اللحظة. طلبت من النادل الذي لا أعرفه فنجان قهوة، لم أكن محتاجة للطلب منه أن تكون قهوة مغلية كما كنت أفعل خلال السنوات السابقة في مصر. القهوة في سوريا يتم غليها مرات عديدة بهدوء وصبر. ربما يشبه صبر السوريين واحتمالهم كل ما مروا به ليصلوا إلى هذه الأيام العظيمة. يا إلهي كم تغيرت دمشق خلال هذه المدة؟! قلت هذا أمس لصديق أقلني من المطار ونحن في طريقنا إلى منزله.
"دمشق اليوم ضاحكة ومبتسمة"، ردّ علي. "لحسن حظك أنك لم تأت إليها خلال السنوات الماضية. كنت سترين بأم عينك ما عانته هذه المدينة. ابتهجي الآن معها وخذي كفايتك من أوكسجين الحرية مثلها ومثلنا جميعاً.
أراقب من نافذة المقهى العابرين في الشارع أمامي وأرى لمعات ضاحكة تقفز من أعينهم وأرواحهم تفيض على الرصيف وتغطي النافذة، فأضحك وحدي ممتنة للحياة، لأنني عشت لأرى هذا الجمال بأم عيني.
أنا الآن في قلب دمشق؛ أجلس في مقهى فندق الشام أنتظر مجموعة من الأصدقاء لنذهب معاً من أجل المشاركة في المؤتمر الوطني الأول الذي يعقد في قلب العاصمة بعد أن طال كثيراً انتظار هذه اللحظة.
أرتشف قهوتي بهدوء وأفكر كم من السنوات انتظرت مثل هذه اللحظة؛ كم من الأحلام المختلطة بكوابيس عن سوريا زارتني في نومي؛ كم من العلل قاومتها ونجوت منها لأتمكن من عيش هذه اللحظات؛ أن أجلس في مقهى فندق الشام الأثير أشرب القهوة وأنتظر أصدقائي ونكمل حديثاً بدأناه قبل ثلاثة عشر عاماً وتوقف فجأة قبل أن نكتشف أننا بتنا كلّ في مكان آخر وبلد آخر مشغولين بتفاصيل صغيرة تنجينا من الموت قهراً وحنيناً وخذلاناً.
خرجنا من مقهى فندق الشام قبل موعد المؤتمر بنصف ساعة. سيعقد المؤتمر في البهو الكبير في دار الأوبرا الوطنية بعد أن تمت إزالة اسم الأسد عنها. اقترح الأصدقاء أن نذهب سيراً إلى هناك. المسافة قريبة وهي فرصة لنعيد اكتشاف خطواتنا في تلك الأمكنة التي نحاول استعادة ألفتنا معها بعد سنوات غياب طويلة.
كنا نسير بمحاذاة فندق الفردوس حين قلنا تقريباً كلنا: "تريد استعادة بيت القصيد". "بيت القصيد" لمن لا يعرفه هو ابتكار الشاعر لقمان ديركي حيث كنا نلتقي كل خميس في بار أرضي في فندق الفردوس نستمع إلى الشعر أو نلقيه ونحن نحتسي الكحول. كان بيت القصيد عفوياً وعشوائياً في اختيار شعرائه، وهنا كان سر جاذبيته لنا جميعاً. هذه العفوية المضادة لصرامة ثقافة مؤسسات النظام وبرودها.
كان بيت القصيد هو إحدى بوادر التمرد الثقافي القليلة في دمشق ذلك الوقت ولم يكن ليحدث لولا تبني كامل من رولا الركبي مديرة الفندق ذلك الوقت. رولا السيدة الحموية المثقفة ابنة السياسي السوري فيصل الركبي، سنلتقيها في دار الأوبرا. عادت من بيروت قبل يومين فقط بعد عشر سنوات غياب عن سوريا وعن بيتها الجميل في وسط دمشق، تغيرت فيها حياتها مثلما تغيرت حيواتنا كلنا.
نزلنا باتجاه ثانوية التجهيز وانعطفنا يميناً. في كل متر مربع نمشي فيه هناك مراسلون صحافيون وكاميرات عليها علامات محطات وقنوات عالمية تغطي ما يحدث في سوريا. "هذا مشهد عظيم"، قال أحد الأصدقاء مبتسماً. نحن نعرف سوريا التي كانت تمنع حمل كاميرا عادية وتصوير أي شيء فيها بذريعة الضرورة الأمنية. منع النظام السابق كل وكالات الأنباء الدولية من دخول سوريا والعمل فيها منذ 2011. وجودها كان يعني أن ما يرتكبه بحق الشعب سوف ينقل على الهواء مباشرة، ما كان يعني إظهار تلفيق إعلامه والإعلام المقرب منه عن الحدث السوري؛ كان يعني إظهار عكس روايته لما يحدث.
نحن الآن في دولة جديدة نريدها أن تكون منفتحة على العالم وما يحدث فيها شفاف وجلي. يستحق السوريون بلداً مفتوحاً للجميع ومنفتحاً على الجميع. نستحق بلداً كهذ لأنه يشبهنا.
ها هي التكية السليمانية على يسارنا. التكية هي أحد الأماكن الأثيرة لدى الدمشقيين، مبنية على النظام المعماري العثماني وفيها مسجد ومتحف وسوق للمهن التراثية واليدوية كان أشهرها صناعة الزجاج اليدوي. لا أظن أن ثمة بيتاً في دمشق ليس فيه قطعة أو أكثر من هذا الزجاج البديع.
سألت خالد خليفة إن كان أصحاب هذه المهن سيعاودون فتح محلاتهم الآن في التكية بعد أن تم استرجاعها من يد أسماء الأسد التي استولت عليها من جملة ما استولت عليه في سوريا كلها. قال لي وعلى وجهه ابتسامته الأليفة: " طبعاً رح يرجعوا. خلص البلد كلها رجعت لصحابها".
خالد الذي لم يغادر سوريا خلال السنوات الماضية كلها سوى في رحلات أدبية، كان فيها ضمير سوريي الداخل وصوتهم؛ خالد صديق الجميع الضاحك المتفائل المثقف الوطني. هل خالد قال لي ذلك؟ لكن خالد قد رحل قبل أقل من عامين. رحل وحيداً في بيته في دمشق، ويوم وداعه كان سوريو الداخل والخارج مسمرين أمام شاشاتهم الصغيرة يتابعون ما يصوره بعض الأصدقاء من الوداع.
سألت خالد خليفة إن كان أصحاب هذه المهن سيعاودون فتح محلاتهم الآن في التكية السليمانية بعد أن تم استرجاعها من يد أسماء الأسد التي استولت عليها من جملة ما استولت عليه في سوريا كلها. قال لي وعلى وجهه ابتسامته الأليفة: " طبعاً رح يرجعوا. خلص البلد كلها رجعت لصحابها".
قبر خالد في الشيخ محي الدين يشرف على دمشق التي أحبها كعاشق. كيف سألت خالد عن التكية وكيف أجابني؟ أكاد أجزم أنه يرافقنا في طريقنا الآن، وأكاد أجزم أنني أسمع ضحكته وإصراره على أن نتجمع اليوم مساءً في منزله احتفالاً بهذا اليوم العظيم، وسيطبخ لنا نوعين من طبخاته العجيبة اللذيذة.
خالد النهم على الحياة بكل تفاصيلها، أكاد أجزم أنني أتعلق بذراعه ونحن في طريقنا نحو دار الأوبرا نستمع إلي تدفق مياه نهر بردى، وتستعيد ذواكرنا تفاصيل يوميات دمشق، مطاعمها وباراتها ومقاهيها وشوارعها، حين كنا ما نزال في كامل طاقتنا الجسدية والروحية، قبل أن يفتك بها وبنا زمن جبار تحالف بكل رعونة مع المجرمين.
اقتربت من أميرة وقلت لها: "هل سوف نتمكن من استعادة تلك الأيام والليالي الجميلة يا أميرة؟ يكفي أننا قد عشنا لنرى هذه اللحظة يا رشا، يكفي هذا"!
أميرة صديقتي الأثيرة، هي أيضاً لم تغادر سوريا وبقيت في مدينتها السويداء، لم تغادرها نهائياً. قالت لي ذات يوم في اتصال افتراضي: "لن أغادر السويداء حتى يسقط". هذه هي المرة الأولى التي تغادر فيها مدينتها منذ 2011؟ يا لهذا الإصرار، كما لو أن الأمل في لحظة كهذه هو ما جعلها تقاوم كل ما مرت به وكل ما عاشته، ثلاثة عشر عاماً يا إلهي! لقد كبرنا يا أميرة وتغيرت أشكالنا وبهتت أرواحنا في انتظار يوم كهذا. فقدنا أصدقاءنا، رحلوا وحيدين دون أن نودعهم.
أفكر أننا بحاجة للجنة كبيرة لتنظيف المكتبة الوطنية من المؤلفات التي تمجد الأسد الأب والابن، وما أكثرها. أعضاء اتحاد الكتاب العرب وحدهم كتبوا مئات الكتب عن عبقرية آل الأسد.
كنت اتفقت مع أميرة أن نذهب غداً لزيارة قبر شكران الإمام، التي رحلت وحيدة في دمشق قبل أعوام دون أن يودعها أحد منا. قلت لأميرة أنني أرتجف منذ الآن؛ هل سأحضن قبرها كما لو كانت هي أمامي وأحضنها؟ هل ستحدثنا وتلومنا وهي تبتسم ابتسامتها الحزينة التي نعرفها جميعاً؟ ماذا حدث لقبوها الأليف الذي كان يجمعنا؟ ماذا سيحدث للوحات فاتح المدرس التي كانت في هذا القبو؟ لرسائله وملاحظاته المتروكة على الجداران؟ ينبغي التفكير الجدي بإنشاء هيئة مهمتها حفظ الأرشيف الفني والثقافي السوري من الضياع والنهب. هذا تراث السوريين والشاهد على مراحل ومفاصل طويلة ومهمة من حياة سوريا.
الفن والثقافة هما ما يحفظ تاريخ الشعوب لا السياسية ولا الحرب، الفن والثقافة هما دليل حضارة الشعوب وهما فقط ما يحمي تاريخ شعب ما من الضياع. قلت لخليل صويلح: "كيف يمكن أن نفعل هذا؟". أجابني بكلمات مقتضبة كعادته دائماً: "بدها جهد وتعب، يمكن ولادنا يعملوها. نحن تعبنا وكبرنا".
خليل لم يغادر سوريا هو الآخر، كنت أقول دائما: طالما خليل في دمشق فسوف يبقى لي موطئ قدم فيها. لم يتوقف خليل عن الكتابة طيلة السنوات الماضية. كانت عينه تراقب كل شيء وكان قلبه يرصد كل لفتة، لم يرد على الاتهامات التي طالته، بل ظل صامتاً وفياً لفكرة الثقافة وجدوى الكتابة. كان محقاً كعادته دائماً.
دمشق خالية من صور الأسدَين الأب والابن، يا إلهي ما أجملها وهي خالية من تماثيل "القائد الخالد" كما أجبروا السوريين على تسميته! عند كل ساحة كان هناك تمثال له؛ عند كل مؤسسة أو منشأة ثقافية.
يا إلهي هذه هي المكتبة الوطنية التي أزيل عنها اسم الأسد، لم يعد تمثاله موجوداً أيضاً. نحن الآن نقترب منها، كنت أفكر أننا بحاجة للجنة كبيرة لتنظيف المكتبة من المؤلفات التي تمجد الأسد الأب والابن، وما أكثرها. أعضاء اتحاد الكتاب العرب وحدهم كتبوا مئات الكتب التي نشرت في الاتحاد، عن عبقرية آل الأسد. اتحاد الكتاب نفسه لم يكن سوى صورة مصغرة عن شكل سوريا التي أرادها آل الأسد: الفساد والانتهازية وحكم الفرد والسلبطة والمحسوبيات والاستئثار. أما الثقافة الحقيقية فهي ليست أكثر من بريستيج يستخدم لتلميع صورة النظام.
التفت إلي جميع من معي، وكلنا كتاب، لا أحد منا كان عضواً في هذا الاتحاد. تخيلوا! لحسن الحظ ربما أن أحداً منا لم يتلطخ اسمه بذاك الخراب.
ها نحن نقترب من دار الأوبرا، حيث مكان عقد أول مؤتمر وطني حقيقي في دمشق منذ أكثر من ستين عاماً. الشوارع حول الدار ممتلئة بالسيارات. أعداد مهولة من البشر تمشي بثقة نحو دار الأوبرا. أبواب الدار مفتوحة للجميع. هناك شعور عام بالأمان جعل المسؤولين عن الدار يعطلون أجهزة الكشف والأمن
ها نحن نقترب من دار الأوبرا، حيث مكان عقد أول مؤتمر وطني حقيقي في دمشق منذ أكثر من ستين عاماً. الشوارع حول الدار ممتلئة بالسيارات. أعداد مهولة من البشر تمشي بثقة نحو دار الأوبرا. أبواب الدار مفتوحة للجميع. هناك شعور عام بالأمان جعل المسؤولين عن الدار يعطلون أجهزة الكشف والأمن. رجال ونساء وشباب وصبايا يتجمهرون في حديقة الدار بانتظار الدخول، مدنيون ومتدينون. سوريا بكل تنوعها توجد اليوم هنا. التنوع القادم من كل المدن السورية ومن كل الأطياف. أسمع على مقربة مني حديثاً صاخباً باللغة الكردية وأبتسم. يا إلهي ما أجمل هذه اللغة التي لا يعرفها كثر من السوريين.
لعقود طويلة ظلت ممنوعة من الوجود. هل من عاقل يمنع هكذا لغة في بلده؟ أحاديث بلهجات متنوعة ومختلفة، ضحكات وابتسامات ودموع، قلق وأمل وخوف وتفاؤل، من قلب كل هذا ألمح مي سكاف بعينيها الجميلتين وابتسامتها الصادقة. أسمع صوتها وهي تقول للجميع: أرجوكم لنقف دقيقة صمت احتراماً لأرواح شهداء سوريا كلها. يصمت الجميع وكأنهم مثلي قد سمعوا صوت مي. هل تعرفين يا مي ما يحدث؟ لن يحكم ابن بشار الأسد ابنَك بعد اليوم. إنها سوريا العظيمة يا مي وليست سوريا الأسد، كما تنبأت بها تماماً يا غالية.
ثمة جرس يقرع، الآن وقت العمل. أهلاً بكم في سوريا الحرة. أحدهم يعلن بدء المؤتمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...