منذ فجر التاريخ، أي منذ أن استخدم الإنسان أدوات بسيطةً، مثل الفحم والأصباغ الطبيعية، لتخطيط رسومات على جدران الكهوف، شكّل الفن مرآةً للعصور، تعكس كل عصرٍ بأدواته وفلسفته.
مع تقدّم الحضارات، تطوّرت الأدوات الفنية من الريش والقصب، أو ما يُسمّى Tempera، المستخدمة في الكتابة والرسم في مصر القديمة، إلى الفُرَش والألوان المائية في عصر النهضة، ما مكّن الفنانين من تحقيق تعبيرات أكثر دقّةً وتفصيلاً. مع بداية الثورة التكنولوجية في القرن العشرين، شهد الفنّ تحولات عميقةً وغير متوقعة في جوهره، وطرائق إنتاجه وتلقّيه؛ لم تعد التكنولوجيا مجرد أداة لتعزيز المهارات الحرفية، بل أصبحت شريكاً قويّاً يمكن أن يعيد تعريف مفهوم الإبداع نفسه، من استخدام الأدوات اليدوية البسيطة، إلى تطبيق التقنيات المعقّدة، مثل الطباعة ثلاثية الأبعاد، وبرمجيات تصميم الفنّ الرقمي، وإلى الآن تستمر رحلة الفن في استكشاف أبعاد جديدة بفضل التكنولوجيا.


الفن... مفهوم قابل للتطور
بالعودة إلى اللاتينية، سنجد أنّ لفطة "فنّ"، تعني المهارة أو الصنع، ففي العصور القديمة، كانت لفظة الفنان تطلَق على الحرفيّ أو الصانع الذي يمتلك المعرفة العملية اللازمة لإنتاج الأشياء المفيدة والجميلة. يمكن القول إنّ الفنّ كان يُعدّ وسيلةً لتحقيق التوازن بين الجمال والوظيفة، ما يعكس فهماً عميقاً للعالم وقدرةً على ترجمة هذا الفهم إلى أشكال ملموسة، فلم يُفصل الفنّ عن المهارة والحرفة حتى حدود عصر النهضة، والفنان لم يكن مستقلّاً عن المؤسسة التي يعمل فيها. وبوصفه منجزاً أو صانعاً أو حِرفياً، فقد كان الفن حالةً من التماهي بين الابتكار والخبرة العملية.
مفهوم الفن ليس جامداً كالأديان، ولا مقيداً بقوانين صارمة كالعلوم، ما يجعله قابلاً للتطور أسرع من سواه من المعارف، من الرسم على الكهوف، وصولاً إلى التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي, وماهيته متغيّرة كذلك، من الفكرة التقليدية المرتبطة بالإتقان الحرفي، إلى مفاهيم أكثر روحانيةً وفلسفةً،لذا يمكن القول إن تعريف الفن "لا نهائي"
أما في عصر النهضة، فقد شهد العالم تحولات جذريةً في الأدوات والتقنيات المستخدمة في الفنون، ما أثّر بشكل كبير على طرائق التعبير الفنّي والإبداعي. ومع تطوير الألوان الزيتية وتحسين أدوات النحت وابتكار تقنيات الطباعة المتقدّمة، تمكّن الفنانون من تجاوز القيود التقليدية المرتبطة بالحِرف والصناعات واستكشاف أساليب جديدة أكثر تعقيداً، سواء في الرسم أو النحت أو الطباعة.
هذه الابتكارات لم تسمح بتمثيل أكثر دقّةً وتفصيلاً للواقع فحسب، وإنما فتحت أيضاً الباب أمام تحديات جديدة في التفاعل بين الفن والفلسفة، حيث بدأ الفنانون باستخدام أعمالهم لاستكشاف الأفكار الميتافيزيقية والعقلانية، أو للتعبير عنها. وبفضل هذه التقنيات، تحوّل الفنّ إلى منصة للحوار الفكري والتأمل، معبّراً عن المعرفة، ومستفزّاً الأسئلة المعرفية والوجودية. في هذه الفترة، أصبح الفن تجسيداً للجمال البصري ووسيلةً للتأثير العميق والمستمرّ في تفكير الأفراد ووجدانهم، ما أكّد على دوره كأداة أساسية في البحث الإنساني المستمرّ عن الحقيقة والمعنى، ليعبّر الفن أكثر عن الفكرة والحِرفة معاً.
ظلّ مفهوم الفن موضوعاً مثيراً للجدل بين الفنانين وفلاسفة الجمال والحِرفيين على مرّ العصور، حيث تغيّرت ماهيته تاريخياً من الفكرة التقليدية المرتبطة بالإتقان الحرفي، إلى مفاهيم أكثر روحانيةً وفلسفةً، ما يجعل أيّ تعريف نهائي للفنّ محدوداً بسياقه التاريخي والثقافي.


تحوّلات كبيرة
أما في عصر التكنولوجيا، فشهد الفنّ تحولات كبيرةً مع ظهور التقدّم العلمي والتكنولوجي، ما أثّر في مفهومه وطرحه. كانت بداية هذه التحولات عام 1965، عندما عُرضت رسومات الكمبيوتر لأول مرة كفنّ في معرض الإستوديو في جامعة شتوتغارت، ما شكّل بدايةً لدمج التكنولوجيا مع الإبداع الفني.
في هذا المعرض، كانت الرسومات التي أنتجها الكمبيوتر لأوّل مرة تُعرَض كعمل فنّي، ما أثار تساؤلات حول العلاقة بين العقل البشري والآلة في إنتاج الفن، وأدّى إلى نشوء علاقة جديدة بين الفن والتكنولوجيا.
ومنذ ذلك الوقت، أصبح من الواضح أنّ الفن لم يعد محصوراً في الممارسة اليدوية التقليدية، بل أصبح يشمل أفكاراً يمكن تجسيدها بواسطة التكنولوجيا، بحيث يصير الفنان لا مجرّد منفّذ للمهارات الحرفية، بل مبدعاً للأفكار التي تتحقق عبر الأدوات الرقمية المعقدة.

الخوارزميات تحمل الريشة
ومع ظهور علوم الذكاء الاصطناعي والخوارزميات المعقّدة، ظهر نوع جديد من الفنّ يلغي دور الممارسة الحرفية التقليدية، أو الممارسة عبر الحاسوب، حيث يُمكن أن تتحول الفكرة إلى عمل فنّي متقن في لحظات، بمجرد إعطائها في نصّ لنموذج لغويّ مدرّب على بيانات فنية تاريخية، فيعمل على تحويلها إلى أيّ نوع فنّي في لحظات. على سبيل المثال لا الحصر، في عام 2018، تم رسم لوحة "إدموند دي بيلامي"، باستخدام خوارزمية GAN، التي اعتمدت على 15 ألف لوحة تاريخية تعود إلى ما بين القرنين الـ14 والعشرين، وهي الخوارزمية التي دمجت أبحاثاً وبرمجيات مسبقةً ليتم بيع اللوحة لأول مرة في مزاد علنيّ بمبلغ 432 ألف دولار. هذا النموذج الجديد من الفنّ، الذي يُنتج بسرعة فائقة ودون الحاجة إلى التفاعل اليدوي التقليدي، الذي يجعل دور الإنسان مجرد مقدّم للفكرة النصية، والذي يعتمد على حسابات رياضية في إنتاجها، يعيد تعريف الفنّ باعتباره فكرةً مجردةً يمكن تجسيدها تقنياً.
في العام 1965، عُرضت رسومات الكمبيوتر لأول مرة كفنّ في معرض الإستوديو في جامعة شتوتغارت، ويمكن القول إن ذلك اليوم شكّل بدايةً لدمج التكنولوجيا مع الإبداع الفني.
في هذا السياق، يُنظر إلى الفنّ اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، على أنّه فكرة قد تتحقق في لحظات من خلال الخوارزميات، ما يُعيد صياغة الفكرة التقليدية حول الإبداع الفني، ويعزز العلاقة بين الفكر والتكنولوجيا، ويثير تساؤلات أكبر حول ما إذا كان ما تنتجه الآلة فنّاً حقيقياً؟ وهل يحتاج الفن إلى روح حقيقية أو أننا نحتاج إلى إعادة تعريف الإبداع؟
يمكن القول إنّ التكنولوجيا أتاحت الفرصة لوجود الفن المتداول مثل السلع، ما يمكّن الجميع من محاولة تقديم أعمال فنية مختلفة. أما خورازميات الذكاء الاصطناعي، فتتيح فتح آفاق جديدة لوجود شكل آخر من الإبداع الوصفي، الذي يمكّن المستخدم من استخدام الخيال والأفكار فقط في أعماله الفنية. تخيّل أنّك تريد أن تعيد إنتاج لوحة "الموناليزا"، عن طريق وصف أدقّ تفاصيلها؛ لا بدّ أنّك ستحتاج إلى خيال إبداعي لتتمكن من وصفها للآلة التي لا تعرفها، وهذا ما قد يكون صعباً على الفنان نفسه.
تتداخل اليوم العديد من الأفكار الفلسفية التي تعيد تشكيل معنى الفنّ أو العمل الفنّي ودوره في الحياة البشرية.
يشير والتر بنجامين، في دراسته "العمل الفنّي في عصر إنتاجه تقنياً"، إلى أنّ الاختراعات والتطورات، مثل الطباعة والتصوير الفوتوغرافي، تؤثر على ما أسماه هالة العمل الفني، ويؤكد أنّ تقدّم التكنولوجيا "في عصر الاستنساخ التقني"، أزال التميز الفريد للعمل الفني، وأدّى إلى فقدان هالته الروحية وأصالته اللتين كان يكتسب منهما قدسيته، حيث أصبح متاحاً للجميع. لكنه بذلك يكتسب ما هو أهم من القدسية، وما قد يسمح على حد تعبيره بتسييس الفنّ، وانتقاله من البرجوازية إلى الجماهيرية، بحيث تصبح المسافة بين الفنّي والمتلقّي أقصر، وبذلك أصبح أداةً للحركات الجماهيرية والثورية والمعارك الأيديولوجية، وسمحت التكنولوجيا للاستطيقا بدخول الحياة السياسية، واستخدام الفن كأداة للهيمنة، وهذا ما نجده جليّاً في منطقتنا العربية، حيث تم استغلال العديد من الفنانين كأدوات للسلطة تدافع عنها.
كما يناقش آرثر دانتو، في كتابه الرائد "بعد نهاية الفن… الفن المعاصر وحدود التاريخ"، التطورات العميقة التي مرّت بها المفاهيم الفنّية عبر العصور، ويرى أنّ نهاية الفنّ التقليدي الذي كان يعتمد بشكل أساسي على الجماليات والشكل المادي للأعمال الفنية قد حانت، ليبدأ بذلك فصل جديد في تاريخ الفن مع ظهور الفن المفاهيمي.
هذا الفنّ، الذي يركّز بشكل أساسي على الفكرة والرمزية أكثر من الشكل المادي والتمثيل الواقعي، يثير تساؤلات حول طبيعة الفنّ ذاته، وما إذا كانت الجمالية وحدها هي ما يحدد العمل الفني.
وفي كتابه، يشير دانتو، إلى أنّ ظهور التقنيات الحديثة والتكنولوجيا في مجال الفن قد أدى إلى تحولات كبيرة في أسلوب الفنانين، حيث تخلوا عن تقليد الطبيعة والواقع المادي الذي كان سائداً لقرون طويلة، وبدأوا بالانتقال إلى التركيز على فردانية الفنّ وتطوير أساليب جديدة تعكس التجربة الذاتية للفنان. هذا الانتقال نحو الفكرة كجوهر للعمل الفني، فتح أمام الفنانين باباً واسعاً لاستكشاف هوية الفن بطرائق غير مسبوقة، حيث بدأ الفنانون بطرح الأسئلة الفلسفية العميقة حول ماهيّة الفنّ، وتحدّوا المفاهيم التقليدية، ما جعل الفنّ أكثر وعياً بذاته وبوجوده في العالم المعاصر.

نهاية الفنّ أو بدايته الجديدة؟
في عصرنا الحالي، لا يمكن النظر إلى الفنّ بمعزل عن التطورات التكنولوجية التي اجتاحت مجالاته، بدءاً من الأدوات البسيطة وصولاً إلى الخوارزميات المعقّدة التي تنتج أعمالًا فنيةً عبر الذكاء الاصطناعي. لقد غيّرت هذه التحولات مفهوم الفن التقليدي بشكل جذري، وجعلت من الممكن للمبدعين أن يعبّروا عن أفكارهم دون الحاجة إلى الوسائل المادية التقليدية.
فالفنّ لم يعد محصوراً في المعارض واللوحات المرسومة يدوياً، بل أصبح قابلاً للتحقيق الفوري باستخدام التكنولوجيا الحديثة.
يشير آرثر دانتو في كتاب "بعد نهاية الفن… الفن المعاصر وحدود التاريخ"، إلى أنّ ظهور التقنيات الحديثة والتكنولوجيا في مجال الفن قد أدى إلى تحولات كبيرة في أسلوب الفنانين، حيث تخلوا عن تقليد الطبيعة والواقع المادي الذي كان سائداً لقرون طويلة، وبدأوا بالانتقال إلى التركيز على فردانية الفنّ وتطوير أساليب جديدة تعكس التجربة الذاتية للفنان
من جهة أخرى، يُعيد هذا التغيير فتح نقاشات فلسفية قديمة وجديدة حول طبيعة الإبداع والفن. فهل يمكن لآلة أن تمتلك الروح الإبداعية التي يتمتع بها الإنسان؟ أم أنّ الإبداع لا يمكن فصله عن التجربة الإنسانية المعيشة؟ هذا النوع من التساؤلات هو الذي يجعل الفنّ اليوم أكثر من مجرد عمل فنّي عابر، فهو حوار مستمرّ بين الإنسان والتكنولوجيا، وبين الفكرة والواقع.
إنّ تكنولوجيا مثل الذكاء الاصطناعي والخوارزميات لا تقدّم لنا مجرد أدوات جديدة لإنتاج الفن، بل تعيد تعريف الإبداع نفسه. فكما أشار والتر بنجامين، إلى فقدان "هالة" العمل الفني في عصر الاستنساخ التقني، تثير هذه التحولات تساؤلات حول دور الفنّ في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية، خاصةً في زمن أصبحت فيه الآلة تشارك الإنسان في عملية الخلق. آرثر دانتو، في "نهاية الفن"، طرح فكرة أنّ الفنّ وصل إلى نقطة انتهت فيها القيم الجمالية التقليدية، وبدأت فيها قيمة الفكرة والرمزية بالتصدّر.
في النهاية، ربما تكون التكنولوجيا قد أضافت بُعداً جديداً للفنّ، وأفسحت المجال أمام إبداع آخر قد يعكس جانباً مختلفاً من الروح الإنسانية، لكن يظلّ السؤال قائماً: هل التكنولوجيا هي وسيلة جديدة للتعبير عن تلك الروح نفسها، أو هي إعادة صياغة لما كان موجوداً بالفعل؟

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ ساعةغباء وجهل لا يوجد بشى اسمه طيخ فلسطيني .. غباء وجهل العروبة الذين بخترعون هذا الغباء قال بطيخ...
نداء حرب -
منذ يومينإثبات هلال رمضان يختلف بين الدول والمذاهب الإسلامية، وغالبًا ما يعتمد على طرق متعددة مثل الرؤية...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ اسبوعينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ اسبوعينأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ اسبوعينتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?