شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
الكتابات الاصطناعية... منذ متى تنفجر الحروف في وجه أحد؟

الكتابات الاصطناعية... منذ متى تنفجر الحروف في وجه أحد؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الجمعة 28 فبراير 202510:57 ص

يُنشر هذا النصّ ضمن "لنتخيّل"، وهو ملفّ مفتوح يضم نصوصاً، مدوّنات، قصصاً، مقابلات وتقارير صحافيةً نتخيّل من خلالها المستقبل الذي نوّد أن نعيش فيه، أو ذلك الذي سيُفرض علينا.  


-"نداء نهائي وأخير للكتّاب والنقّاد على متن رحلة طيران الأدب العربي: الرجاء من السادة المسافرين على متن هذه الرحلة التوجّه إلى باب الطائرة الآن". 

عند نقطة التفتيش في مطارنا الأدبي المتخيّل، يقف الآلاف: روائيون، كتّاب، نقّاد، شعراء، صحافيّون. حجم الكتابات التي يحملونها معهم ضخمٌ. وجهات التفتيش ترزح تحت ثقل الضغط غير المسبوق، غير قادرةٍ على إنجاز مهمّتها على أحسن وجه: استبعاد الكتابات غير الآدمية للإفساح في المجال أمام الكتابات غير الاصطناعية، علماً أنّ هناك نسبةً مسموحةً من مواد ChatGPT وغيره، مماثلةً للـ100 ملل من السوائل المسموحة على متن الطائرات. إذا لم يتعدَّ نصّك تلك النسبة، فالرحلة متاحة لك ولأمتعتك. أما إذا كنتَ من الذين لا يريدون التخلّي عن فائض السوائل لديهم، فنرجو التنحّي قليلاً ريثما ننظّم لمتاعك شحناً مختلفاً. 

يقول كاتبٌ مسافرٌ يحلم برحلة الشُّهرة: "على هذه المرأة أن تُهدّئ من روعها. ما الضير من الكتابات الاصطناعية؟ ومنذ متى تنفجر الأحرف في وجه أحد؟" 


مطارنا بحاجةٍ إلى ماكينات تفتيشٍ جديدة، أكثر من تلك التي تشرّح النصوص باستخدام أشعّة سينيةٍ متخصصةٍ. أشعّة عيون البشر تعبت من كمّ النصوص التي تُرمى أمامها، و"نحن في النهاية لسنا ماكينات! أحضروا لنا ماكينات تلتقط الماكينات"، تقول مسؤولة التفتيش في المطار، وقد أخذ منها الإحباط مأخذاً. 

الضغط في المطار يتزايد مع كلّ لحظة. المسافرون تأخّروا على رحلتهم، والسوائل زادت عن حدّها. مسؤولة التفتيش تصرخ من جديد: "ماذا سنفعل بكلّ هذه الكتابات، أليس هناك خطر أن تشتعل أو تنفجر أو أن تنتج ما لا يعلم ماهيته سوى الله؟". 

يقول كاتبٌ مسافرٌ يحلم برحلة الشُّهرة: "على هذه المرأة أن تُهدّئ من روعها. ما الضير من الكتابات الاصطناعية؟ ومنذ متى تنفجر الأحرف في وجه أحد؟". 

يلقى قوله حماسةً لدى حالمين آخرين، بالشُّهرة أو بغيرها: "نعم بالفعل، ما هذه البلبلة؟ من يحقّ له أن يحرمنا من السفر؟"...

-"الذكاء الاصطناعي مبنيّ على ذكاء البشر، لذا لا يمكن اعتباره اصطناعياً أساساً"...

-"من نصّبها وكيلةً على الإبداع والأدب؟!"... 

تسمع المفتّشة كلام الكتّاب المغمورين حولها، فتستشيط غضباً لاستهتارهم بعملها. تحاول التغاضي وممارسة دورها المطلوب منها، لكنها تشعر بأنّ رأسها سينفجر، وكأن كلّ تلك السوائل تفاعلت داخله، وأخرجت منها كائناً لم تكن تعرف بوجوده أساساً. تنظر إلى المتكلّمين كأنها تخترقهم بالماكينة التي كانت تطالب بها قبل قليل، ثم تربط بين كلّ معلّقٍ ونصّه الذي بين يديها، وتزمجر:

"60% تشات جي بي تي، ولديك ما يكفي من الوقاحة لتناقش؟ لماذا لم تشكر الذكاء الاصطناعي في عملك؟ لماذا لم تقُل إنه كتب عنك أكثر من نصف مقالك؟ لماذا تدّعي أنك الكاتب الوحيد وتفاخر بذلك؟".

-"وأنت يا سيّد الوكلاء، 90% ذكاء اصطناعي! لماذا تريد السفر على متن رحلة الإبداع إذاً؟". 

-"ألم تطالبي بماكينةٍ لتساعدك في عملِكِ قبل قليل؟ ألا تشعرين بأنك منافقة؟". 

-"لا. النفاق هو أن تدّعي، وأنا لا أدّعي الإبداع!". 

يسود صمتٌ مفاجئ أروقة المكان، فصوت المفتّشة وهي تقول جملتها الأخيرة غزا المطار كاملاً، وتجمّد جميع من فيه. الإبداع كلمةٌ كبيرة لها وقعٌ فلسفيّ شديد، وبعض المسافرين التقطوا ذاك الوقع، وراحوا يفكّرون في ماهية الإبداع وتعريفه، فيما آخرون هدّدهم نفي المفتّشةِ صفةَ الإبداع عنهم. 

"60% تشات جي بي تي، ولديك ما يكفي من الوقاحة لتناقش؟ لماذا لم تشكر الذكاء الاصطناعي في عملك؟ لماذا لم تقُل إنه كتب عنك أكثر من نصف مقالك؟ لماذا تدّعي أنك الكاتب الوحيد وتفاخر بذلك؟"

يقول مسافرٌ لآخر يقف في الصفّ إلى جانبه، وكأنه يردّ على المفتّشة بشكلٍ غير مباشر: "يا مبدع، متى ستنتهي هذه المهزلة الأمنية؟"، فيردّ الزميل مستنكراً: "هذه مهزلة أدبية يا صديقي المبدع الكبير". 

يدخل الاثنان صفحات التواصل الاجتماعي، وينثران تعليقاتهما في كلّ مكانٍ تصله أصابعهما: "يا مبدع، يا مبدعة…". وفجأةً يعجّ المطار بأصواتٍ تتعالى شيئاً فشيئاً حتى تملأ المكان بأكمله: 

-"لو سمحتَ يا مبدع"... 

-"عذراً عزيزتي المبدعة"... 

-"المبدعون الأعزّاء"... 

-"مبدع"... 

-"مبدعة"... 

-"مبدععععع"... 

تركض المفتّشة نحو مذياع المطار ليعود صوتها ويحتلّ المطار كلّه: "نداء نهائي وأخير، نداء نهائي وأخير لجميع المسؤولين ودور النشر والمواقع الإلكترونية والصحف والمجلات: الرجاء من الجميع تحمّل مسؤولياته حالاً"

تنوء المفتّشة تحت ثقل النصوص والوصوف المتطايرة حولها. لماذا أوكلوها هي بهذا العمل الصعب؟ لماذا وضعوها في المواجهة مع حشودٍ متمسّكةٍ بلصق صفة الإبداع بشخصها، بغضّ النظر عن النصوص المنتجة؟ ولماذا لا يساعدها أحد؟ كيف يُعقل أن تُضطرّ إلى الدفاع عن بديهيّاتٍ من مثل حقوق التأليف، ومفهوم الأصالة، والعفوية، والمفاجأة كشروطٍ للإبداع تتناقض مع الذكاء الاصطناعي؟ 

هي لم تقُل لا تستعينوا به. أصلاً هي كرّرت فقط ما آمنت به، وما صار مطلوباً منها لأنّ السلطات المعنيّة لم تنجز دورها كما يجب. لا دُور النشر ولا صفحات الصحف راجعت ما يصلها لتتأكّد من أصالته، ولا الجوائز أدخلت "تشات جي بي تي" وغيره، في حساباتها، ولا جهة محددة حضّرت قواعد تحكم الإبداع؛ لا مكتب الملكية الفكرية في الوزارة المعنيّة، ولا اتحادات الكتّاب والصحافيين، ولا المحاكم جاهزة أساساً للبتّ بأمور كهذه. أما هي، فمجرّد قارئةٍ لم يعطها أحد فرصة للشرح: استعينوا بالذكاء الاصطناعي ما شئتم، لكن لا تدعوه يكتب عنكم، وهذا أقلّ الإيمان. 

تركض المفتّشة نحو مذياع المطار ليعود صوتها ويحتلّ المطار كلّه: 

-"نداء نهائي وأخير، نداء نهائي وأخير لجميع المسؤولين ودور النشر والمواقع الإلكترونية والصحف والمجلات: الرجاء من الجميع تحمّل مسؤولياته حالاً".

يخفت صوتها قليلاً من شدّة التعب، لكنها تتابع: 

-"رجاءً، لا تتركوا كلّ هذا الثقل على عاتق القارئ. ثمة أدواتٌ سهلة تخوّلكم تحديد مستوى الأصالة البشرية، أرجوكم، استخدموها". 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image