صورة رجل الأمن في السينما المصرية من أكثر الصور تغيراً وتأثراً بالتقلبات السياسية. سنجد أن صورة رجل الأمن السياسي في الخمسينيات وما قبلها لم تقدم في حينها، ولكن وقعت تحت منظار فترة عبد الناصر، فقدم رجل الأمن باعتباره أداةً للقمع و لخدمة الفساد السياسي في العديد من الأفلام، منها: "في بيتنا رجل" و"غروب وشروق". وينتهي هذا الفساد وقمع الحريات بانتصار ثورة 23 تموز/يوليو 1952، حيث تشرق شمس الحريات سينمائياً! ولكن المفارقة أن عبد الناصر سيشرب من نفس الكأس السينمائية بعد رحيله وتولي الرئيس السادات. وهنا يمكن رصد سلسلة من أفلام انتقدت القمع السياسي فترة حكم ناصر، لعل أبرزها "الكرنك" و"زائر الفجر" و"احنا بتوع الأتوبيس"، وغيرها.
وسوف نستعرض بعض نماذج للأفلام التي صورت رجل الأمن السياسي في كل فترة : أولاً في فترة حكم عبد الناصر وثورة يوليو:
صورة رجل الأمن السياسي الملكي
أنتج فيلم "غروب وشروق " عام 1970، وكان من إخراج كمال الشيخ، سيناريو وحوار الضابط جمال حماد (من الضباط الأحرار) ورأفت الميهي وبطولة سعاد حسني ورشدي أباظة، ومحمود المليجي في دور (عزمي باشا) رئيس الجهاز الأمني فترة الحكم الملكي.
صورة رجل الأمن في السينما المصرية من أكثر الصور تغيراً وتأثراً بالتقلبات السياسية. نجد أن صورة رجل الأمن السياسي في الخمسينيات وما قبلها لم تقدم في حينها، ولكن وقعت تحت منظار فترة عبد الناصر
قصة الفيلم تدور حول ابنته مديحة المتزوجة من سمير الطيار، والتي تلهو مع صديقه عصام، فيكتشف خيانتها، ثم يقوم عزمي باشا بقتل سمير في حادث سيارة مدبر من أجهزته الأمنية، ويضغط، علي صديق القتيل عصام ليتزوج من ابنته مديحة، مما يتيح لعصام معرفة أسرار السرايا والحكم الملكي، ويقوم بتسريبها لمنظمة وطنية تحارب الملكية والاستعمار، مما يؤدي للإطاحة بعزمي باشا مع تباشير قدوم ثورة يوليو في الطريق. الفيلم هنا قدم أيضاً صوراً لبشاعة سجون النظام الملكي وتعذيب المعارضين.
صورة رجل الأمن السياسي في زمن ناصر والسادات
كانت ثورة التصحيح التي قام بها الرئيس السادات في أيار/مايو 1971 هي في جوهرها عملية تخلص من أركان حكم عبد الناصر من يساريين وقوميين، حتي لا ينافسه أحد علي حكم مصر، ولكن تم تسويقها علي أنها ثورة لتصحيح مسار ثورة تموز/يوليو 52، وهذا ما يفسر سر توسيع الهامش الديمقراطي ليسمح بانتقاد فترة عبد الناصر.
ولأن سياسات السادات كانت هي النقيض لسياسات عبد الناصر، فكان طبيعياً أن يتم إبراز سلبيات فترة ناصر سينمائياً.
وقد سمح النظام السياسي الساداتي بهذه الانتقادات بشرط تدخل رقابي يوضح أن هذه الممارسات انتهت، وأن صفحة جديدة فتحت بما يسمى بثورة التصحيح، حتى أن نهاية رواية نجيب محفوظ "الكرنك" تم تغييرها سينمائياً لتظهر أن رجل الأمن السياسي قد نال عقابه بالسجن، ولكن في رواية محفوظ يخرج رجل الأمن من السجن سريعاً ويناقش التيارات السياسية كلها في المقهى المسمي بالكرنك في ما يشبه مرافعة دفاع عن النفس والنظام الناصري.
فيلم "الكرنك" هو فيلم سياسي مصري من إنتاج عام 1975 عن رواية "الكرنك" للأديب نجيب محفوظ، من إخراج علي بدرخان، وبطولة سعاد حسني ونور الشريف.
في "الكرنك" يجسد كمال الشناوي دور "خالد صفوان" رجل الأمن السياسي الذي لا يتورع عن تعذيب المعارضين، بل يغتصب النساء منهم/ن من أجل أن يحمي الوطن كما يدعي.
في "إحنا بتوع الأتوبيس" نجد "رمزي"، رجل الأمن السياسي، في مشهد ينتمي للكوميديا السوداء يلفق التّهم من قبيل التآمر على نظام الحكم لمتهم بريء لا علاقة له بالسياسة أصلاً!
"إحنا بتوع الأتوبيس"، إنتاج 1979، تدور أحداثه حول التعذيب الذي كان يحدث في مصر خلال الحقبة الناصرية، وهو عن قصة حقيقية في كتاب "حوار خلف الأسوار"، للكاتب الصحافي جلال الدين الحمامصي، سيناريو فاروق صبري وإخراج حسين كمال.
صورة رجل الأمن السياسي ترتبط بهامش الحرية الممنوح للمبدع، ورغبة النظام الجديد في انتقاد العصر الفائت.
ولكن كل ذلك يتبدل سينمائياً بعد تولي الرئيس السادات الحكمَ، وهكذا كانت شمس الحريات السينمائية تظهر وتختفي كل فترة ومع زوال كل عصر، وبداية تولي رئيس جديد.
استمر هذا الوضع في فترة حكم حسني مبارك التي شهدت انتقادات سينمائية لفترتَي حكم عبد الناصر والسادات معاً، وشهدت انتقادات لأول مرة لبعض السياسات التي قد تنسحب على فترتَي السادات ومبارك نفسه.
ورغم أن فيلم "زائر الفجر " يدور في نفس الدائرة وكان سباقاً لتعرية كل ملابسات القمع، إلا أنه منع من العرض، وعرض عام 1973 بعد تشويهه بحذف أكثر من 20 مشهداً، ولا يزال ممنوعاً من العرض تليفزيونياً حتى الآن!
ورغم أنه قدم صورة إيجابية لرجل الأمن (حسن) وهو وكيل نيابة شريف يبحث في أسباب مقتل صحافية معارضة، ولكن القتل العمد للصحافية يظهر بشاعة التعذيب، ودور قيادات حسن في هذه الممارسات القمعية! لم تتحمل رقابة نظام السادات سخونة الفيلم الذي كانت إحدى عباراته "البلد دي ريحتها فاحت، عفنت وبقت زي صفيحة الزبالة و لازم تتحرق"، وكان أخطر ما فيه هو ربطه لهذه الممارسات وتسببها في هزيمة 1967.
فيلم "زائر الفجر" من بطولة وإنتاج ماجدة الخطيب، عزت العلايلي، وسعيد صالح، وﺗﺄﻟﻴﻒ رفيق الصبان، وﺇﺧﺮاﺝ ممدوح شكري.
وتشاء الأقدار أن تكون قصة نادية الشريف (ماجدة الخطيب) هي نفس نهاية وقصة مخرج الفيلم (ممدوح شكري)، إذ كان القهر المعنوي السبب الرئيسي في وفاتهما كمداً! حيث توفي ممدوح شكري و لم يتجاوز الـ34 سنة! وهذا ما يؤكد أن حتى نظام السادات كان له خطوط حمراء في إظهار نقائص وأخطاء وخطايا النظام الناصري.
فترة حكم مبارك: "زوجة رجل مهم" وإدانة مشروطة لفترة حكم السادات
"زوجة رجل مهم" هو فيلم أنتج عام 1988، للكاتب رؤوف توفيق وإخراج محمد خان. الفيلم يكشف أيضاً القمع البوليسي فترة حكم السادات، وبهذا يسير على نفس النهج: انتقاد لصورة رجل الأمن السياسي لفترة حكم سابق.
يجسد أحمد زكي شخصية رجل أمن مريض يعشق السلطة ولا يتورع عن تعذيب المتظاهرين وطلاب الجامعة، لينتزع منهم اعترافات عن تآمرهم ضد نظام الحكم، وقيامهم بأعمال تخريبية، وهي نفس التهم في كل العصور السابقة الموجهة من رجل الأمن السياسي للمعارضين. ولكن ربما ما سمح بعرض الفيلم أولاً أن ضابط الشرطة قُدّم كنموذج فردي، وتتم إقالته من الخدمة كعقاب رقابي من السلطة على ما فعله من تجاوزات! وأظهر العمل الانعكاسات السلبية لسلوكه متمثلاً في تدمير أسرته وقتل والد زوجته، ثم انتحاره. وهنا تأكيد على أنه نموذج شاذ ومريض للسلطة، وليس عينة ممثلة لجموع رجال الأمن، كما أن الفيلم يقدم نموذجاً مقابلاً، هو ضابط شاب يؤمن بحقوق الإنسان.
"نظام السادات مبارك"
تلك المعايير الرقابية لها ما يفسرها؛ فنظام مبارك لم يكن نقيضاً لنظام السادات، كما كان نظام السادات نقيضاً لنظام عبد الناصر، وأي اتهامات أو إظهار سلبيات لنظام السادات ستطال بالضرورة نظام مبارك، لأن نظام مبارك هو امتداد لنظام السادات، كما يرى المفكر سمير أمين، الذي يعتبر نظامهما واحداً ويسميه في كتاباته "نظام السادات مبارك"، فقد تبنى مبارك نفس سياسات السادات الخارجية والداخلية.
قبل بداية فيلم "البريء" اضطر صناع الفيلم لكتابة عبارة لافتة هي "وقائع هذا العمل لا تمثل الحاضر"، وهي توضح مدى التشابه والعلاقة العضوية بين النظامين. كما أن نهاية العمل التي يقوم فيها الجندي أحمد سبع الليل بإطلاق زخات من بندقيته الآلية على قائد المعسكر (توفيق شركس) وباقي القادة والجنود، قبل أن يقتل ويسقط الناي فوق البندقية الآلية في رمزبة بليغة ودالة، مع أغنية تدعو للتحدي والثورة على الظلم. هذه النهاية تم تغييرها بعد عرضه في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1986، ثم ظل ممنوعاً لـ19 عاماً.
تم الإفراج عن الفيلم بعد حذف ست دقائق، عام 2005، تكريماً للنجم أحمد زكي، الذي وافته المنية في نفس العام، وتغيير أغنية النهاية التي تدعو للثورة ضد الظلم، والاكتفاء بصراخ الجندي سبع الليل.
وتمت إجازة الفيلم بعد تشكيل لجنة رقابية مكونة من وزير الدفاع أبو غزالة ووزير الداخلية ووزير الثقافة أحمد عبدالمقصود هيكل، وأحمد رشدي.
كل ذلك يؤكد أن صورة رجل الأمن السياسي في عهد السادات تعرضت لرقابة مشددة رغم عرض الفيلم في ظل حكم مبارك.
"هي فوضي"، انتقد نظام مبارك في زمن مبارك، وتنبأ بالثورة
لعل فيلم "هي فوضى" هو الفيلم الوحيد الذي انتقد بقوة الممارساتِ القمعية لرجل الأمن السياسي لنظام مبارك في زمن مبارك. الفيلم من سيناريو ناصر عبد الرحمن وإخراج يوسف شاهين وخالد يوسف وشخصية (حاتم)، أمين شرطة فاسد ومهووس بسلطته.
العمل إنتاج عام 2007، مما يعني أنه يأتي في نهايات عصر مبارك ويحمل نبوءة الثورة الشعبية ضد النظام متمثلاً في جهاز الشرطة المباركية، وهذا ما حدث في ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، التي بدأت كما في الفيلم كصرخة احتجاج جماعية ضد الممارسات القمعية لشرطة مبارك. ثم تعرض المتظاهرون للقمع، فتحولت لثورة شعبية. وربما على نفس منوال "زوجة رجل مهم" في تقديم النموذج الطيب أمام النموذج الشرير لرجل الأمن السياسي، سنجد وكيل النيابة المحترم الشريف الذي يغتصب أمين الشرطة حاتم خطيبته، فيصبح لديه أكثر من دافع لإظهار الحق والانتصار له.
ولكن العمل لا يكتفي بعرض مأساة فردية جنائية، بل يتعرض لتزوير الانتخابات والفساد السياسي والقهر الاجتماعي ويفضح دور جهاز الأمن كراعٍ للقمع وحماية الفساد ووضع غطاء على كل هذه الممارسات. واختار المؤلف نموذج "أمين الشرطة حاتم" كرجل أمن سياسي وأداة سلطوية تضخمت، وفقد من يحركها من قيادات السيطرة على طموحاتها وجنونها.
ارتبطت صورة رجل الأمن السياسي بهامش الحرية المتاح للمجتمع ككل، ثم إن الدور المخابراتي الوطني في مواجهة إسرائيل والإرهاب نجحا في التقليل من عرض الصورة السلبية المتجسدة في التعذيب والتلفيق
يعد هذا العمل الأكثر جرأة أو الأكثر حصولاً على مساحة حرية، ربما لأن أفلام يوسف شاهين تحظى دائماً بمساحة حرية أكبر. ولأن نظام مبارك في سنواته الأخيرة ترهل وارتفع منسوب الغضب الشعبي، فترك الفيلم للتنفيس، وربما لأن الشخصية المحورية الفاسدة هي أمين شرطة وليست قيادة كبيرة.
بعد ثورة يناير ماذا حل بصورة رجل الأمن؟
هناك من النقاد من يرى أن عدداً من الأفلام التي قدمت سريعاً بعد ثورة يناير انتقمت من رجل الأمن السياسي، ومن أهمها: "الشتا اللي فات"، إنتاج عام 2013، تأليف حابي محمد وياسر نعيم، وإخراج إبراهيم البطوط.
في هذا الفيلم قدم "عادل" نموذجاً لرجل الأمن السادي، وربما تظهر الرغبة في الانتقام في تأكيد السيناريو على الرفاهية الزائدة التي يعيشها عادل، ولم تكن أبداً الطبقية والرفاهية لأفراد هذه الأجهزة هي السبب في الصدام مع الشعب، ولكن التعذيب والقمع. بينما يرى الرأي الآخرُ العكسَ، وهو أن السينما قدمت الدور الإيجابي بل البطولي لرجل الأمن في مواجة الإرهاب والتي سقط فيها آلاف من رجال الشرطة في سيناء وفي كثير من محافظات مصر، خاصة بعد سقوط حكم الإخوان في مصر، فاستجابت السينما لتجسيد تلك البطولات.
وهنا يبرز دور رجل الأمن السياسي الإيجابي وعمله المخابراتي الوطني في كشف خلايا الإرهاب ومحاولتها لتخريب البلد، ومن هذه الأعمال يمكن ذكر فيلم "الممر" على سبيل المثال. كما أن فيلم "حرب كرموز" اختار العودة للتاريخ وتأكيد بطولات جهاز الشرطة ضد المستعمر البريطاني عندما سقط 50 قتيلاً و 80 جريحاً من رجال الشرطة في مواجهات رفضوا فيها تسليم قسم شرطة الإسماعيلية للمحتل عام 1952. وأصدر وزير الداخلية الوفدي وقتها، فؤاد باشا سراج الدين، الأمرَ لجنوده بالمقاومة، وبعده صار تاريخ 25 كنون الثاني/يناير عيداً للشرطة المصرية، وتبعتها المتحدة بسلسلة أعمال تلفزيونية جسدت تلك التضحيات والبطولات، منها سلسلة الاختيار، بينما اختفت تماماً صورة رجل الأمن السياسي السلبية من أي أعمال سينمائية وبالطبع تلفزيونية لعدة سنوات.
صورة رجل الأمن السياسي ترتبط بهامش الحرية الممنوح للمبدع، ورغبة النظام الجديد في انتقاد العصر الفائت، وهذا الهامش لم يكن مفتوحاً بلا حدود؛ فقد كانت هناك شروط ومحاذير، وتم منع وحذف وإضافة مشاهد لعدد ليس بالقليل من هذه الأفلام. كما أن صورة رجل الأمن السياسي ارتبطت أيضاً بهامش الحرية المتاح للمجتمع ككل، ثم إن الدور المخابراتي الوطني في مواجهة إسرائيل والإرهاب نجحا في التقليل من عرض الصورة السلبية المتجسدة في التعذيب والتلفيق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Some One -
منذ 4 أيامالذي كتب وتخيل هذه العلاقة، وتخيل مباركة الوالدين، وتقبل المجتمع لهذه المثلية الصارخة. ألم يتخيل...
مستخدم مجهول -
منذ 5 أياماول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Frances Putter -
منذ أسبوعyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ أسبوعأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ أسبوعتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ أسبوعغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...