ثمة علاقة وثيقة تفضحها السينما المصرية بين المخدرات بأنواعها وأنظمة الحكم التي توالت على مصر منذ انقلاب 1952 وما قبله وحتى الآن، وذلك لاستغلال نشر تلك المخدرات لإلهاء الشعب واستبعاده عما يفعله نظام الحكم من قرارات، غالباً ما تكون بعيدة عن مصلحة الشعب نفسه، أو بالأدق تغييبه بتلك المخدرات. والأهم من ذلك كله أن لكل نظام من تلك الأنظمة مخدرًا دالًا على فترة حكمه.
تغيّر المخدر بتغيّر الزمن
الراصد للسينما المصرية منذ بداياتها وحتى الآن يستطيع أن يصل إلى استنتاج في غاية الأهمية والخطورة. ولأن السينما لا تعتبر في مفهومها البسيط لدى المشاهد على أنها للتسلية بقدر ما هي بنظرة أعمق عبارة عن تأريخ زمني لأي تغير يحدث في البلد، سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو تعليميًا أو حتى من ناحية الأيديولوجية التي تتغير مع الزمن في المجتمع ذاته نتيجة لسياسات الأنظمة الحاكمة، وخاصة أن معظم الأنظمة العربية دكتاتورية في سلطتها.
لهذا يلجأ كل نظام حكم في مصر إلى تغييب الشعب بالمخدرات دون أن يظهر ذلك في العلن. ولكن في الخفاء تكون المخدرات واحدة من أهم أدواته في التغييب والقمع حتى لو بدا أنه يحاربها.
ثمة علاقة وثيقة تفضحها السينما المصرية بين المخدرات بأنواعها وأنظمة الحكم التي توالت على مصر منذ انقلاب 1952 وما قبله وحتى الآن، وذلك لاستغلال نشر تلك المخدرات لإلهاء الشعب واستبعاده عما يفعله نظام الحكم من قرارات
فذلك التزاوج بين المخدرات والأنظمة الحاكمة يظل خفيًا، لا تفضحه إلا السينما بعد زوال النظام ذاته، أو أثناء تواجده في الحكم على استحياء بعيدًا عن مقص الرقيب.
الفترة الملكية من حكم مصر، والتي بدأ فيها ظهور السينما، لم تكن مهتمة بالمخدرات لكونها لم تكن من الممنوعات بالمفهوم القانوني للمنع، حتى لو تناولتها السينما من باب النصح، كما في فيلم "الكوكايين.. الهاوية" للمخرج "توجو مزراحي" وبطولة الممثل المصري اليهودي "شالوم" عام 1931، والذي عالج مخدر "الكوكايين" وما له من تأثير ضار على المتعاطي.
فأول قانون لمنع المخدرات في مصر كان في عام 1925، الذي استهدف تنظيم تجارة المواد المخدرة والحد من انتشارها، لكن التشريع المتكامل صدر لاحقًا، مع قوانين أخرى مثل قانون مكافحة المخدرات لسنة 1960، الذي عزز العقوبات ووسع نطاق المواد المحظورة.
غير أن كل هذا تغيّر بعد استيلاء الضباط الأحرار على الحكم وإزاحة الملك فاروق من على عرش البلاد.
بعد نشوة الثورة
بعد نشوة ثورة 23 يوليو 1952، أخذت السينما المصرية في التطور والاعتماد على مخرجين وكتّاب مصريين والتعمق في مشاكل المجتمع المصري، بداية من المخرج "هنري بركات" وفيلم "دعاء الكروان" عام 1959، المأخوذ عن الرواية التي تحمل ذات الاسم لطه حسين.
ثم التعمق أكثر في نسيج المجتمع المصري والطبقة المتوسطة مع المخرج صلاح أبو سيف وسينما الواقعية النقدية، بالتعاون مع الكاتب الكبير نجيب محفوظ في فيلم "بداية ونهاية" عام 1960. إلى أن جاءت هزيمة 1967 الثقيلة والمرة على العرب جميعاً وعلى مصر خاصة كهزيمة تركت أثراً ظلت تتناوله السينما بالنقد المستتر، تارة كما في فيلم "الزوجة الثانية" وإسقاط مبطن على شخصية العمدة الظالم "عتمان" كرأس للسلطة القمعية الظالمة، أو في فيلم "شيء من الخوف" كإسقاط مباشر لشخصية "عتريس" الأكثر قمعًا وظلمًا من شخصية العمدة "عتمان" في فيلم "الزوجة الثانية"، أو بالنقد الحاد كما في فيلم "ثرثرة فوق النيل" المأخوذ من رواية لنجيب محفوظ كتبها عام 1966 قبل النكسة بعام، وكأنه كان يرى من بلورة سحرية ما سيحدث من هزائم قبل أن تقع، لما رآه من سياسات متبعة من النظام، على رأسها انتشار الحشيش، الذي يتخذه الفيلم محوراً رئيسياً في الحكي لشلة من الأصدقاء تجتمع في عوامة تمارس كل الرذائل تحت دخان الحشيش الذي أدى إلى نكسة 1967.
أفلام قدّمت "الوشاية"
ذهب نظام عبد الناصر الاشتراكي، ثم جاء نظام السادات الرأسمالي بفكر الانفتاح، وتلاه نظام مبارك بسلبياته حتى سقوطه في 2011.
فيلم "ثرثرة فوق النيل" مأخوذ من رواية لنجيب محفوظ كتبها عام 1966 قبل النكسة بعام، كأنه كان يرى ما سيحدث من هزائم قبل أن تقع، لما رآه من سياسات متبعة من النظام، على رأسها انتشار الحشيش.
ظلت عين السينما طوال تلك السنوات ترصد هذا التزاوج الخفي بين المخدرات ونظام الحكم القائم منذ الستينيات، وعلى رأس تلك الأفلام وأهمها "ثرثرة فوق النيل" كبداية لاستخدام الأنظمة للمخدرات في التغييب والإلهاء، وازدهارها في فترة السادات ثم فترة مبارك، وهي الفترات التي تناولتها أفلام كـ"المدمن 1983" لأحمد زكي، و"العار 1982"، و"الكيف 1985"، و"حتى لا يطير الدخان 1984" لعادل إمام، وصولاً إلى فترة التسعينيات والألفينات في عهد مبارك وظهور مخدر البانجو الأكثر تدنياً وسوءاً من الحشيش، وهي المرحلة التي ظهرت جلية في فيلم "ليلة سقوط بغداد 2005" كإشارة لانحطاط مستوى المخدر والنظام.
أرض الخوف
بدأ فيلم "أرض الخوف" بشاشة سوداء كتب عليها عام 1968، وهو تاريخ ذو دلالة حيث بداية الثورة الطلابية في مصر بعد نكسة 1967، والحراك الكبير في الجامعات المصرية بسبب الهزيمة، والحث لاستعادة الأرض المحتلة "سيناء" من العدو. فما كان من النظام إلا أن زاد من انتشار الحشيش بعد أن فشل "مخدر الأغاني"، وخاصة ما كان يغنيه مطرب المرحلة "عبد الحليم حافظ". حيث أشارت عدة دراسات إلى أن المخدرات انتشرت في مصر بعد هذا العام.
ثم يأتي التاريخ الثاني داخل الفيلم كرمزية أخرى على عهد آخر ونظام لاحق لنظام عبد الناصر، وهو تاريخ 15 أيار/مايو 1971 وما عرف وقتها بثورة التصحيح التي تخلص فيها السادات مما تبقى من مراكز القوى المنتمين لنظام عبد الناصر، فكان المخدر الأكثر انتشاراً في وقتها هو الحشيش، الذي ظل مقترناً بفترة السبعينيات وحكم السادات دون سواه من المخدرات.
أما التاريخ الثالث الذي ظهر في فيلم "أرض الخوف" فهو عام 1981، وهو بداية عهد مبارك، وقد تعمد الفيلم أن يكون هذا التاريخ بداية ظهور مخدر الهيروين، الأسوأ والأكثر ضرراً والأسهل انتشاراً وصعوبة في الإقلاع.
فيلم "أرض الخوف" هو واحد من أهم الأفلام المصرية التي أرّخت لعلاقة النسب والتزاوج بين المخدرات وكل نظام حكم، والتي انتهت بمخدر الهيروين.
أما اليوم فقد ازداد الأمر سوءاً مع نظام الحكم الجديد منذ 2014، بظهور مخدرات دالة على النظام نفسه، وانتشار مخدرات لا تلهي أو تغيب من يتعاطاها فقط، بل تدمره نفسياً وصحياً، كانشار مخدر "الشابو" المُهلك، والذي زادت بسببه جرائم التحرش، ثم ظهور مخدر "الأمفيتامين".
فيلم "أرض الخوف" الذي تم إنتاجه في العام 1999 بطولة أحمد زكي وإخراج داود عبد السيد، هو واحد من أهم الأفلام المصرية التي أرّخت لعلاقة النسب والتزاوج بين المخدرات وكل نظام حكم، والتي انتهت بمخدر الهيروين
تلك المخدرات أشد قوة من الحشيش والهيروين بعد ثورة أراد النظام قتلها بأي طريقة، حتى لو استعان بمخدرات مهلكة، في الوقت الذي لم تعد فيه السينما قادرة على أن تتكلم عنها كما في الفترات السابقة.
ربما لأن السينما نفسها في أسوأ حالاتها في ظل هذا النظام خوفاً منه، وربما بسبب امتلاك جهة واحدة تابعة له لإنتاج ما هو مسموح به أو ممنوع الكلام عنه من دراما. لذا تحولت السينما ذاتها إلى مخدر كالـ"شابو" لتغييب المجتمع بأمر النظام في خوف يزيد عما كان في "أرض الخوف".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ 24 دقيقةأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ يوملا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 4 أياممقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ 6 أيامتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه
بلال -
منذ أسبوعحلو
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعالمؤرخ والكاتب يوڤال هراري يجيب عن نفس السؤال في خاتمة مقالك ويحذر من الذكاء الاصطناعي بوصفه الها...