بعد نكسة 1967 ظهر اتجاهان في السينما المصرية؛ فمجموعة أفلام استغلت هامش الحرية المتاح من رأس النظام وانتقدت الأوضاع التي أدت إلى الهزيمة وأهمها فيلم "ميرامار" (إخراج كمال الشيخ )، و"شيء من الخوف" (إخراج حسين كمال)، و"المومياء" (إخراج شادي عبد السلام)، و"بئر الحرمان" (إخراج كمال الشيخ)، وكل هذه الأفلام أنتجت عام 1969، وأيضاً فيم "القضية 68" (إخراج صلاح أبو سيف)، إنتاج عام 1968.
الاتجاه الآخر هو مجموعة أفلام أغرقت في التغييب بالمبالغة الكوميدية، مثل فيم "أخطر رجل في العالم" (إخراج نيازي مصطفى)، و"عودة أخطر رجل في العالم" (إخراج محمود فريد)، و"إنت اللي قتلت ببايا" (إخراج نيازي مصطفى)، و"مطاردة غرامية" (إخراج نجدي حافظ)، و"أرض النفاق" (إخراج فطين عبد الوهاب)، و"لصوص ولكن ظرفاء" (إخراج إبراهيم لطفي)، وغيرها، في محاولة للتخفيف من مرارة الهزيمة ووضع البسمة مرة أخرى على شفاه المصريين.
في فيلم "ميرامار" تتجسد انتهازية سرحان البحيري (بطل الفيلم)، القيادي بالاتحاد الاشتراكي، ويعدّ هذا أول انتقاد وفضح حقيقي لفئة الانتهازيين التي سرقت وأفسدت "الحلم الناصري"؛ سرحان يخدع الجميع وليس زهرة فقط، ويسلبها أعز ما تملك، ثم يتخلى عنها. فكما وعد عبد الناصر شعبه بالاشتراكية والنصر علي الصهيونية والإمبريالية وعدَ سرحانُ البحيري زهرةَ بالزواج، فسلّمت نفسها له، لتصحو على الخديعة ويستقيظ الشعب على الهزيمة.
بعد نكسة 1967 ظهر اتجاهان في السينما المصرية؛ فمجموعة أفلام استغلت هامش الحرية المتاح من رأس النظام وانتقدت الأوضاع التي أدت إلى الهزيمة وأهمها فيلم "ميرامار"، و"شيء من الخوف"، و"المومياء"، و"بئر الحرمان"
في فيلم "شيء من الخوف"، يبدو الرمز جلياً، فالعمدة طاغية والديكتاتور يختطف فؤاده، وهنا تلتف شادية مجدداً بعلم مصر، لتصبح رمزاً لوطنٍ مختطف وأرض تبور بسبب طغيان العمدة الحاكم. ويبدو محمود مرسي عتريس بكاريزما شخصيته وأدائه التمثيلي المهيب مقابلاً لكاريزما ناصر نفسه. ويمكن اعتبار أن الفيلم يبشر بالثورة على النظام ككل، حتى وإن تأخرت الثورة لتأتي في يناير 2011.
يستمر اللعب بالرموز في فيلم "القضية 68"، فالشرخ في العمارة التي هي مصر، يزداد، والقوانين الحاكمة مضطربة وتؤدي إلى زيادة الشرخ، والتأرجح بين الديمقراطية وحكم الفرد يتجسد في تردد النظام ما بين غلق الشباك أم فتحه؟
أما فيلم "المومياء"، فقد رفض السيناريو في البداية، لأنه ضد التوجه القومي! ويعلي من شأن المصرية والحضارة المصرية القديمة على حساب القومية العربية! ثم أجيز العمل وبعض النقاد رأوا في تمرد ونيس على القبيلة وإفشاء سرّها في الإتجار بالآثار وكأنه معادل لضرورة التمرد على النظام القائم الذي يشبه النظام القبلي، وهو يسير بالقبيلة حتى في الاتجاه الخطأ.
وتستمر لعبة الرموز هذه من وجهة نظر النقاد؛ ففي "بئر الحرمان"، فسّر بعض النقاد ازدواجية ناهد وميرفت بأنها مصر التي تاهت وضاعت هويتها، وأصبحت تكره نفسها! في مرحلة هزت فيها الهزيمة كل الثوابت وأصبحت مصر كسيدة جميلة تبحث عن وجهها الضائع والحقيقي. وعلى رغم أن هذا التفسير يبدو بعيداً بعض الشيء، وربما يكون مرجعه أن موقف إحسان عبد القدوس الانتقادي لثورة 1952 تبدى في عدد آخر من أعماله الأدبية منها "حتى لا يطير الدخان" مثلاً.
فيلم "ثرثرة فوق النيل" (إخراج حسين كمال- 1971)، الذي اقتبس من رواية لنجيب محفوظ تحمل نفس العنوان، يصور نخبة المجتمع المصري من فنانين وإعلاميين ومحامين. هذه القاطرة وهي تقود البلد للهاوية والغرق! والرواية تحمل نبوءة الهزيمة، فقد كتبها محفوظ ونشرها عام 1966 قبل نكسة 67 بعام، وتنبأ فيها بأن النخبة "المسطولة بالحشيش" ستقتل الفلاحة (مصر)، ولكنها لن تسلم نفسها، بل ستستمر في غيّها ومخدرها وتستمر في الحكم! ورصد فيها محفوظ فسادَ النخبة وقيادتها البلدَ نحو الهاوية.
وفي عام 72 يأتي فيلم (العصفور)إخراج(يوسف شاهين) ليقدم إطارا أوسع للإنتقاد وكشف فساد الإتحاد الإشتراكي والإعتماد علي فاسدين لمجرد الثقة، وهي المعادلة القاتلة التي تبناها النظام الناصري في تفضيل أهل الثقة علي ذوي الكفاءة...ويتسائل قيادي كبير في الإتحاد الإشتراكي متعجبا في أحد المشاهد :من الذي أمر بخروج هذه الجماهير الرافضة للهزيمة والرافضة لتنحي عبد الناصر! فنحن لم نأمر بخروجها ولم نقم بتنظيمها والمشهد يحمل دلالات كاشفة لطبيعة النظام ككل والأسباب المؤدية للهزيمة.
هذه الأعمال هي أهم ما قدمته السينما المصرية عن تأثير هزيمة 67، ونحن في هذا التحقيق ابتعدنا عن الأفلام الحربية التي تناولت النكبةَ في إطار حربي، مثل "الرصاصة لا تزال في جيبي" و"أبناء الصمت"، وغيرها.
هذه كانت ردة فعل السينما مع هامش الحرية الذي سمح به رأس النظام جمال عبد الناصر، الذي أدرك أن غياب الديمقراطية كان أحد أهم أسباب الهزيمة، فسمح بهامش لانتقاد ما وقع، وربما توافق ذلك مع إدراكه لضرورة التخلص من القيادة العسكرية التي أدت إلى الهزيمة. ولهذا وافق على عرض فيلم "شيء من الخوف"، وأكد: من قال إنني أشبه عتريس؟ وإذا نحن بهذا الشكل المقدم في الفيلم فعلاً، فنستحق الحرق.
أما التوجه الثاني في السينما المصرية الذي ظهر خلال السنوات التي تلت الهزيمة فقد جاء كما يبدو وكأنه توجيه أيضاً بضرورة زيادة الجرعة الكوميدية البسيطة؛ وهكذا سيقود نجم الكوميديا المحبوب والأكثر شعبية فؤاد المهندس وقتها سلسلةَ أفلام التغييب وكأنه يقدم علاجاً مكثفاً بالضحك مع الإثارة الحسية للشفاء من الآثار النفسية المدمرة للهزيمة. فرصدنا ستة أفلام بطولة فؤاد المهندس وحده مثّلت النموذجَ المطلوب، أي إضحاك للإضحاك مع رقصات ومشاهد ساخنة نوعا ما؛ فكانت أفلام "أخطر رجل في العالم" و"عودة مستر أكس"، و"أنت اللي قتلت ببايا"، و"شنبو في المصيدة"، و"مطاردة غرامية"،و"أرض النفاق". وهناك فيلم للنجم الشاب الصاعد آنذاك عادل أمام، وهو "لصوص ولكن ظرفاء".
وتوالت أفلام كوميدية الفارس في محاولة لإزالة مرارة الهزيمة من النفوس. وهذا يفسر تفاهة كثير من هذه الأفلام التي جسدت ما يشبه موجة تغييب أو قطع مخدر سينمائية ملفوفة بسوليفان عليه ختم الحكومة من أجل علاج الشعب المجروح.
نظرة إلى عناوين أفلام السينما المصرية في الأعوام التي تلت الهزيمة تخبرنا أن هذه العناوين تعبر عن هذا التوجه، وسنرصد الأفلام التي تلت الهزيمة في الفترة ما بين 1968 إلى 1972.
أفلام أنتجت بعد عام واحد من الهزيمة أي عام 1968: "المتمردون"، "مراتي مجنونة مجنونة مجنونة"، "المساجين الثلاثة"، "مطاردة غرامية"، "المليونير المزيف"، "حواء والقرد"، "أرض النفاق"، "الحب الكبير"، "الرجل الذي فقد ظله"، "السيرك"، "القضية 68"، "شنبو في المصيدة"، "شهر العسل بدون إزعاج".
وتستمر موجة التغييب الكوميدي في أفلام عام 1969: "أبواب الليل", "أبي فوق الشجرة"، "أسرار البنات"، "أكاذيب حواء"، "أنا ومراتي والجو"، "بئر الحرمان"، "شيء من الخوف"، "شيء من العذاب"، "فتاة الاستعراض".
هنا يستمر نفس النهج الكوميدي مع زيادة جرعة الإثارة، حتى أن فيلم "أبي فوق الشجرة" يمنع عرضه تليفزيونياً بسبب كثرة القُبل في الفيلم.
من عرض هذه الأفلام يتضح لنا كيف كانت توجهات السينما المصرية في الأعوام التي تلت هزيمة 67 ما بين استغلال للهامش الديمقراطي الذي انفرج بالأمر لاستيعاب الغضب الشعبي وكيف كان هناك توجه آخر نحو التخفيف والتغييب بالكوميديا والإثارة الحسية
من الأفلام المصرية التي أنتجت عام 1970، يمكن الإشارة إلى "الأرض"، "الأشرار"، "أشياء لا تشترى"، "أصعب جواز"، و"أنت اللي قتلت ببايا"، ومن عام1971 نذكر على سبيل المثال: "زوجتي والكلب"، "ابنتي العزيزة"، و"البحث عن فضيحة"، و"ملكة الليل"، ومن عام 1972: "كلمة شرف"، "إمبراطورية ميم"، "رجال بلا ملامح"، و"الزائرة".
ومن عرض هذه الأفلام يتضح لنا كيف كانت توجهات السينما المصرية في الأعوام التي تلت هزيمة 67 ما بين استغلال للهامش الديمقراطي الذي انفرج بالأمر لاستيعاب الغضب الشعبي وكيف كان هناك توجه آخر نحو التخفيف والتغييب بالكوميديا والإثارة الحسية.
الغريب أن تيار الكوميديا التغييبية مع توليفة الإثارة المصحوبة بالرقص والقبلات استمر بعد ذلك وتسيد المشهد السينمائي حتى عصرنا الحالي، وعلى رغم وجود أفلام واقعية رصدت انتصار أكتوبر (1973) وتحولات الانفتاح الاقتصادي، ثم أفلام رصدت ثورة يناير (2011)، الإ أن السينما المصرية ربما منذ أكثر من 10 سنوات ابتعدت كثيراً عن الفيلم الواقعي ،وتسيد تيار الإضحاك للإضحاك مع توليفة الإثارة والرقص، التي أضيف لها توابل من العنف والبلطجة ليصبح هذا هو "طبق الكشري" السينمائي المقدم في أغلب الإنتاج السينمائي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...