شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!
البحث عن مساحة فارغة في دير البلح

البحث عن مساحة فارغة في دير البلح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

أبشع الأشياء التي سلبتني إياها الحرب، المساحات. فمنذ الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، طالبنا الاحتلال الإسرائيلي بإخلاء مدينة غزّة، حيث أسكن، ودارت بنا الأرض. انحدرنا دون رغبة منّا نحو جهة معيّنة من قطاع غزّة، نحو الجنوب والوسط، وعُدِدنا نازحين جنوب وادي غزّة. 

بعد ذلك، لم يعد مسموحاً لنا أن نتخطّى ذلك الخطّ شمالاً، ما جعل الكثافة السكانية أكثر سواداً، ديموغرافياً، وبالمعنى الحرفي للكلمة. 

تقلّصت المساحات في غزّة لدى الجميع، شمالاً وجنوباً؛ شمالاً بفعل الطيران المكثّف والجوع والنزوح بين الأحياء بفعل التوغلات، وجنوباً بفعل ما سبق كله، لكن مع تقلّص آخر؛ المساحة الشخصية، وهي خصوصية يحتاجها الإنسان ليبدو طبيعياً، منفتحاً على ذاته، يلقي بأسراره حوله في غرفته، في براحه، في أيّ مكان، دون أيّ عين تلحظه، كما في السابق.

أبشع الأشياء التي سلبتني إياها الحرب، المساحات.

حلقة ماسيّة

أكثر الأماكن التي قلّصتها الحرب، واقتصّتها بالنسبة لي، خصوصيتي، وإن أردت أن أعرّفها، حلَقتي الماسيّة، التي أظللها، بحيث لا يدخلها أحد، إلا بإذن مني، ووقتما أحبّ. لقد انتهكت حلقتي خلال الحرب، وصرت بلا خصوصية، نعم أنا أعيش الآن بلا هوية. 

في المخيم، في البيوت المكتظة بالناس، الغرف تضيق كل لحظة علينا، بفعل كثرة الناس. صارت كل الأشياء ضيقةً. إننا هنا نشعر بالاختناق من بعضنا، نعيش في هيئة أولئك العشرين شخصاً النائمين على سرير واحد.

أمنية لا أستطيع تحقيقها الآن؛ أن أكون في الداخل. هذه حقيقة أتمنى لو يعرفها الجميع. أن أكون داخلي، أكتب، أدور مع خيالي دون أن يمزّق أحدهم الستارة بيني وبينه. 

ففي كثير من الأحيان يتعطّل خيالي، الذي هو رأس مالي. يتعثر. ينقلب على الطريق، بفعل أحدهم. يتعطل فقط لأنّ الآخر لا يجد مساحةً ليبتعد. لا يمكنه رسم حدود بيني وبينه بالفعل. 

ذلك العيش التالف، الإكراه على خلط المساحات، الإجبار، والحشر، التي فعلتها إسرائيل في حقّنا، تُشعرنا بأنّ مكونات الكون صارت فاسدةً، وكل القناعات التي حملتها في داخلي حول ذاتي ووعيي بالأشياء، باتت منتهية الصلاحية. 

أكثر الأماكن التي قلّصتها الحرب، واقتصّتها بالنسبة لي، خصوصيتي، وإن أردت أن أعرّفها، حلَقتي الماسيّة، التي أظللها، بحيث لا يدخلها أحد، إلا بإذن مني، ووقتما أحبّ


الكتف بالكتف

خلال الحرب أيضاً، وبالرغم من تمرّسي لسنوات طويلة، في الكتابة وأدواتها، اقتنعت بأنّ هنالك مشاعر لا نجد لها عبارات تصفها. إننا نفقد القدرة على تشكيل الغضب والقهر، ولا عقرب ساعة داخلنا يعرّفنا بأنّ هذه هي لحظة العجز تحديداً.

فكّرت أن أخرج للمشي في شارع البلد، دير البلح، ساعة المساء. خرجت ووجدت الناس يمشون من حولي، يتدافعون، يصرخون، كأنهم يُفرغون غضب العمر في وجوه بعضهم. لأكثر من مرة اصطدمت أكتافي بأكتاف المارّين، وتعارض جسدي مع جسد آخر، لم يتقن بعد لغة الجسد والإشارات التي أطلقها، حتى لا يصطدم بمساحتي. تكرر الموقف لأكثر من خمس مرات، حتى شعرت بالاختناق، وكأنّ الهواء من حولي يزداد سماكةً ولزاجةً. لكنني قررت البحث غرباً، عن مساحة خالية. 

وصلت إلى غرب دير البلح. اعتقدت بوجود مساحة على شاطئ البحر خالية، لم تمتد إليها الخيام. ولما وصلت، عرفت حجم الكارثة. رأيت الصورة التي تكرهها العين؛ الشاطئ بلا مساحات خالية، حتى كاد تكوين الرمل أن يختفي أمام عيني. 

نظرت إلى البحر من أعلى تبّة هناك. حولي بائعون وأناس يتدافعون، وسيارات تطلق الزمامير لتبادل التحايا مع الآخرين، وإفساح مساحة للسير. بشر كثر في المكان، يتدافعون من حولي. كاد الضجيج أن يبتلعني، وكدت أن أسقط بفعل دوار أصابني، وكأنّ الحياة بلا أوكسجين. 

ليست المساحة جسديةً في مطلق الأحوال، فأنا قصدت أيضاً المساحة النفسية، مشواراً أكون فيه وحدي، أُرتّب أفكاري، أبكي، أنفجر دون أن يراني أحد. العيون إن تواجدت في كل مكان ما، تصير مشانق، وأنا منذ بدأت الحرب، أقف على منصّة إعدام. 

الراحة التي أبحث عنها يبحث عنها الجميع، لكنهم لا يستطيعون. ومن المؤكد أنني أنا، في لحظة ما، عبء على آخر يريد أن ينجو بذاته قليلاً. حتى صرنا جميعاً، بحاجة إلى الشفقة، الشفقة التي تمزّق الخلايا كلها. 

في الليل يهدأ صراخ الناس، لكن طائرات الاستطلاع تبقى يقظةً. لا يكون صوتها في السماء بل في الغرفة. أشعر بأنها تقيم في أذنَيّ، مثل مئة ألف دبّور. 

تلك الطائرة الغبية تضيّق المساحات الليلية، وتلغي الخصوصية أيضاً. تبقى تطاردك حتى تلقي بصاروخها لتقتلك، أو تجبرك على النوم هرباً من صوتها الذي يضغط على الأذن، كما تضغط دعامة تقويم الأسنان على الفكّ. 

ليست المساحة جسديةً في مطلق الأحوال، فأنا قصدت أيضاً المساحة النفسية، مشواراً أكون فيه وحدي، أُرتّب أفكاري، أبكي، أنفجر دون أن يراني أحد. العيون إن تواجدت في كل مكان ما، تصير مشانق، وأنا منذ بدأت الحرب، أقف على منصّة إعدام


اختبار من الله

في الخيمة زرت أخي. كنا نتحدث في السياسة، وظللت ألعن الواقع، وأحدّثه بأننا لسنا صامدين، بل نحن مجبرون. وجدته يحاول إسكاتي ويطالبني بخفض صوتي. استغربت لحالته، فلم يكن صوتي عالياً من الأصل، وكان حديثنا كما بين اثنين يتحادثان في حديقة لا في ملهى ليلي. وفجأةً سمعت صوتاً يصدر من الخيمة المجاورة، يطالبني بالصبر، وعدّ ما حدث في غزّة اختباراً من الله. 

لم أردّ على ذلك الصوت، وعددته مجرد تطفّل من شخص لا يحترم الخصوصية، ويجيد التنصت على الآخرين. وقتها شعرت بأنّ الخيام لم تنتهك كرامة الإنسان الغزّي، بل انتهكت خصوصيته، وفكرة الحياة بأكلمها. 

خرجت أمشي بين الناس. كنت أشعر بقدميّ تمشيان فحسب، وكأنّ أحدهم سلب عينيّ. لم أكن أرى. حرفياً كانت الحياة معتمةً عصر ذلك اليوم. 

أكثر المساحات براحاً خلال الحرب كان النوم، بئر غامقة يسقط فيها الإنسان، ولا يرى أحداً، ولا يطالبه أحد بتعديل مساره أو السكوت عن الانفجار والغضب. 

لكن يصرّ الاحتلال على قصّ تلك المساحة، بإفزاعنا. لم تمرّ ليلة في دير البلح، دون الفزع خلال النوم. يزداد القصف ليلاً، وخصوصية النوم ما بين طائرات الاستطلاع والقصف الفظيع، تسقط في لحظة، مثل شعرة ضعيفة عند منبت الرأس. 

لم أردّ على ذلك الصوت، وعددته مجرد تطفّل من شخص لا يحترم الخصوصية، ويجيد التنصت على الآخرين. وقتها شعرت بأنّ الخيام لم تنتهك كرامة الإنسان الغزّي، بل انتهكت خصوصيته، وفكرة الحياة بأكلمها.

رسم عشوائيّ للذات

لكل منّا خلال الحرب قصته الشخصية مع تقلّص المساحة، أو انعدامها. لكل منّا غيظه من فقدان الخلوة الذاتية أو الشعور المريح بالمسافة. لقد جعلت الحرب من وجودنا شيئاً دون معنى. محاولة للنجاة لا أكثر. فلا أمتلك الشيء الشخصي، الذي لا يجرؤ أحد على ملامسته غيري، ولا أمتلك ذاتاً في هذه الحرب، بل خرقة بابية من الذكريات. لقد تحوّلت إلى مجرد خطوط عشوائية في يد رسام تجريدي. 

شعرت آخر فترة بأنني صرت عنيفاً تجاه الأشياء. لقد كسرت الحرب كل الإيقاعات التي كنت أمضي عليها. صرت بلا خطة أو معنى، وكل ما أجيده هو القفز من ضجر إلى ضجر، ومن كارثة إلى كارثة. كثيراً ما حاولت الكتابة، وكسرت القلم في الآخر، لأنني فشلت، وكأنّ الطريق إلى ذاتي انغلق، ولم أعد أعرف الأبواب التي لطالما طرقتها داخلي، فأخرجت لي اكتشافاً، أو فهماً جديداً للحياة. هذا ما فعلته الحرب؛ سرقت دهشتي بالأشياء، وترف المشي والتقاط الصورة الجميلة. أحاطت البراح الذي كنت أتنفس خلاله بالحديد الساخن. كل لحظة في الحرب كاوية. كل لحظة من نار. 

لطالما كرهت البيت الصغير، والغرفة الصغيرة، والعقل الضيّق. لطالما كرهت الحدود والتخوفات. عشت من أجل المغامرات والتنقل والتجاوز نحو التحليق. لكن الحرب، وحياة المخيمات، كسرتا ألعابي جميعها. صرت الشاعر الذي يعيد تركيب ذاته السابقة، كأنها لعبة بازل، لكنه يستغرق كل الوقت الممكن، ويعجز في النهاية. 

أنا في هذا المكان أحاول أن أحصل على مساحة خالية، أجدها بعيدةً عن المتناول، مستعصيةً إلى درجة أنني بتّ أكره الروائح والأصوات والحوارات والأمل. تلك المساحة تعني لي السلام.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

فلنتشارك في إثراء مسيرة رصيف22

هل ترغب/ ين في:

  • الدخول إلى غرفة عمليّات محرّرينا ومحرراتنا، والاطلاع على ما يدور خلف الستارة؟
  • الاستمتاع بقراءاتٍ لا تشوبها الإعلانات؟
  • حضور ورشات وجلسات نقاش مقالات رصيف22؟
  • الانخراط في مجتمعٍ يشاركك ناسه قيمك ومبادئك؟

إذا أجبت بنعم، فماذا تنتظر/ ين؟

    Website by WhiteBeard
    Popup Image